آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

سوريا: النظام يَسقُط ويُسقِط البلاد

لم يعد في مقدور أي مراقب للأحداث في سوريا تفادي حقيقة أن النظام السوري آيل للسقوط، ففي جبهات حلب وحمص ودمشق وإدلب ودير الزور وغيرها ترد أنباء الاستيلاء على قواعد عسكرية وأمنية والاستيلاء على مطارات مدنية وعسكرية ومحاصرة أخرى استراتيجية، وقد تسنى للثوار في البلاد خلال الأيام الماضية عزل حلب بصورة شبه تامة، وذلك بسيطرتهم على سد تشرين المسؤول عن تغذية حلب بالطاقة الكهربائية، والذي يضم مواقع عسكرية وأمنية.

الاستيلاء على السد خطوة مهمة جدا، لأنها تعني عمليا قطع كل الطرق التي تصل الرقة بحلب أمام الجيش النظامي، ومن ثم قطع خطوط الإمداد الرئيسية لقوات النظام في حلب، دون أن ننسى سيطرة الثوار على معرة النعمان التي تسهم بشكل كبير في قطع هذه الخطوط التي تغذيها دمشق. هذه الخطوة مكنت الثوار من السيطرة على المنطقة الممتدة على مسافة 70 كيلومترا بين محافظتي حلب والرقة المتاخمتين للحدود التركية. كما سيطر الثوار على مطار الحمدان بدير الزور ومرج السلطان بالغوطة الشرقية بالقرب من دمشق، وسيطروا على قاعدة ضخمة للدفاع الجوي قريبة من حي الحجر الأسود واستولوا على معدات عسكرية وأسلحة متطورة قبل الانسحاب تجنبا لطيران جيش النظام، عدا الأعداد المتزايدة من الحواجز الأمنية والوحدات العسكرية التي يتم السيطرة عليها بشكل شبه يومي.

ويلحظ خلال الفترة الأخيرة تركيز الثوار على مهاجمة القواعد الجوية والمطارات العسكرية في تكتيك يتوخى تعويض العجز الدولي عن إمداد الثوار بمضادات الطائرات، وهو المطلب الذي يطالب به الائتلاف الوطني السوري لدعم الثوار في مواجهة قصف طائرات النظام. ويسجل المراقب هنا اختراقا حدث لحل هذه المعضلة خلال الأيام الأخيرة دل عليه سقوط عدد من الطائرات الحربية للنظام خلال الفترة الماضية، وهذا الاختراق قد يكون ناتجا عن وصول أسلحة دفاع جوي متطورة للثوار من الخارج، أو أن الثوار ربما حصلوا عليها من معسكرات الجيش النظامي التي يتم مهاجمتها والسيطرة على مخزونها من الأسلحة، ولعل الجيش الحر قد حصل على الكثير من هذه المضادات بعد سيطرته على كتيبة «الرحبة» قرب مطار مرج السلطان بريف دمشق، وهي ثاني أكبر كتيبة في البلاد لمضادات الطيران.

النظام آيل للسقوط، هذه حقيقة سواء شكلت أمنية متمنٍّ أو حسرة متحسر، غير أن ما هو جدير بالملاحظة اشتداد وطأة القصف والتدمير الذي يمارسه النظام قبيل سقوطه، التدمير الممنهج لمدن وأحياء وقرى بأكملها، حيث يتحدث ناشطون عن مدن وقرى في ريف دمشق وغيرها أصبحت أثرا بعد عين، يتحدثون عن أحياء بأكملها في حمص وحلب على وجه الخصوص سويت بالأرض.

والحقيقة أن التفسير الأقرب لهذه الظاهرة التي تشهدها خطوط سير معارك وحروب كثيرة هو أن النظام يريد أن يفسد على المنتصرين فرحة النصر، يريد أن يجعل المنتصرين يبكون على أطلال الوطن بدلا من الاحتفال بتحرره وانعتاقه، كما يتوخى النظام توسيع الشق داخل النسيج الاجتماعي السوري، متصورا أنه يمكن أن يحتمي بهذا «الشق» حال فقدانه دمشق ومدن الداخل ولجوئه إلى ما يتصور أنه معقله على الساحل السوري. وهذا هو سلوك المهزوم الذي بانت له علامات الهزيمة، غير أنه يريد أن يجعل الكل ينهزم برفع فاتورة النصر المكلفة التي يتحتم على الثوار دفعها، أو الدخول في ما بعد هزيمته إلى حرب استنزاف تقودها عصاباته وشبيحته ضد الثوار ترغمهم في ما بعد على التفاوض معه أو مع بقاياه. ربما كان ما ذكر هو العامل المهم وراء ضراوة القصف الذي يشنه النظام على المدن والأحياء والقرى، غير أن وجود أعداد كبيرة من الخبراء الروس والإيرانيين ضمن الجسم العسكري والأمني والميليشياوي للنظام يجعل المتابع يربط بين سياسات «الأرض المحروقة» التي اتبعها الروس في حرب غروزني في الشيشان، وبين سياسة «النار الكثيفة» التي انتهجها الإيرانيون في حربهم على العراق، وبين سياسة إزالة الأحياء والقرى والمدن من فوق الخريطة التي يقوم بها النظام السوري. هذه السياسة التي تمكن من ضرب كل ما يمكن أن يقوم دون وصول النار إلى جسد الخصم وتمزيقه من مبانٍ أو مرافق أو ستائر ترابية أو حتى أشجار.

غير أن كثافة النيران في العرف العسكري تعني اقتراب المعارك من نهايتها، وهذا يعني أن النظام الذي يكثف من هجماته آيل للسقوط، غير أنه للأسف مع سقوطه يحاول جاهدا إسقاط سوريا معه بشكل يصعب في ما بعد معه إعادة بنائها أو إعادة التلاحم إلى نسيجها الاجتماعي.

وتظهر تلك السياسة في صياغة لغة الخطاب الرسمي هذه الأيام، فقد ذكرت صحيفة «الوطن» القريبة من النظام أن «الجيش العربي السوري فتح أبواب جهنم على مصراعيها أمام كل من سولت له نفسه الاقتراب من دمشق أو التخطيط للهجوم عليها»، وفي تاريخ سير المعارك يبدأ الخط البياني بالانحناء للأسفل عندما تبدأ اللغة النارية في الظهور في خطاب المتحاربين أو بعضهم، وكأن «الألفاظ النارية» تسعى للتغطية على حقيقة أن «نار الحرب» توشك أن تنطفئ، مع تغيير جلي في الاستراتيجية العسكرية للثوار الذين بدأوا يركزون على العاصمة لإسقاطها في مسعى لتخفيف كلفة إسقاط المدن الأخرى.

إنه للأسف خيار شمشون حينما قرر في لحظة جنون أن يهدم الهيكل عليه وعلى أعدائه عندما أحس بالنهاية الحتمية، حتى إنه قتل وهو يموت أكثر من الذين قتلهم وهو حي. لا شك أن أغلب الذين تعرضوا للهزائم لا يفكرون في اللحظات الأخيرة قبل الهزيمة عندما يكونون في اللحظات الأخيرة قبل بدء المعركة، وهذا ما يجعل سير المعارك يأتي على غير ما يتوقعون، ونهايتها كذلك. ينسب إلى هتلر أنه قال: «إذا حققت النصر فليس مطلوبا منك أن تبرر ذلك، ولكنك إن هزمت فمن الأفضل أن لا تكون موجودا لتبرر ذلك»، وهتلر الذي انهزم لم يكن موجودا بالفعل بعد هزيمته، إذ تجرع كأس السم بعد تجرعه كأس الهزيمة. تُرى أين سيكون موقع الرئيس السوري من فصول هذه المأساة السورية التي تتجه بوتيرة ثابتة نحو نهاية من حجم توراتي مفعمة بالأسى، يختلط فيها النصر بالدموع ببقايا الأحلام والأوطان؟

زر الذهاب إلى الأعلى