«هذه المرة مجلس الأمن لن يتوانى في فرض عقوبات على معيقي العملية السياسية في اليمن»، تصريح أدلى به المبعوث الدولي لليمن السيد جمال بن عمر فور وصوله إلى مطار صنعاء الثلاثاء 18/12/2012. قبل ذلك، وخلال عدد من الزيارات التي قام بها ابن عمر لليمن، كان هذا الدبلوماسي المغربي الهادئ شديد الحرص على انتقاء مفرداته، غير أنه هذه المرة أدلى بهذا التصريح القوي وهو لا يزال في مطار العاصمة، وهو الأمر الذي أوحى بأن وراء أكمة التصريح ما وراءها، وأن رسالة حامية يريد ابن عمر أن يوصلها للمعنيين بها.
في اليوم الأول للزيارة، التقى ابن عمر الرئيس اليمني، وفي اليوم التالي للتصريح خرج الرئيس اليمني بأهم قراراته التي اتخذها منذ توليه رئاسة البلاد بعد الانتخابات التوافقية التي جرت يوم 21 فبراير (شباط) الماضي، وهي القرارات التي تقضي بإعادة هيكلة المؤسستين العسكرية والأمنية، والتي أصدرها هادي في 19/12/2012.
لا يمكن للمراقب أن يمر على تصريح ابن عمر والقرارات الجمهورية التي تلته دون إدراك العلاقة بينهما، فقد كانت القرارات هي الرسالة التي أراد ابن عمر إيصالها إلى المعنيين بها: «افسحوا المجال لإعادة هيكلة الجيش والأمن، وإلا طالتكم العقوبات».
يقول اليمنيون إن المعنيين بالقرارات قد أحيطوا علما بها قبل صدورها، ويقولون إنهم سلموا بها بعد أن تيقنوا بصعوبة التمرد عليها. ويوم الجمعة الموافق لـ21/12/2012 وقف مئات الآلاف بعد صلاة الجمعة في عدد من الساحات والميادين العامة تأييدا للرئيس هادي، في ظاهرة نادرة في هذه الأيام التي نشهد فيها خروج المتظاهرين ضد الرؤساء لا معهم. والواقع أن تلك القرارات كانت نتيجة جهود شهور طويلة من الدراسة والتشاور بين أطراف مختلفة عسكرية وأكاديمية وسياسية داخلية وخارجية، للوصول إلى مضمون تلك القرارات التي تعني إعادة رسم الخارطة العسكرية والأمنية في البلاد، وهذا يعني عمليا إلغاء مسميات كانت محل خلاف الفرقاء السياسيين في البلاد، من مثل «الحرس الجمهوري» الذي يقوده نجل الرئيس السابق العميد أحمد علي عبد الله صالح، و«الفرقة الأولى مدرع» التي يقودها اللواء علي محسن الأحمر، الذي أيد المحتجين ضد نظام صالح عام 2011، وذلك بإعادة تشكيل المناطق والقطاعات العسكرية، ووضعها ضمن أطر أربعة، هي القوات البرية والجوية والبحرية وحرس الحدود، بالإضافة إلى إعادة رسم خريطة المناطق العسكرية، بتقسيم البلاد إلى 7 مناطق عسكرية، حسب نص القرار الجمهوري. الجيد في الأمر أن جميع المعنيين بتنفيذ هذه القرارات أعلنوا تأييدهم لها، بل ذهب البعض إلى «تهنئة» الرئيس هادي على إصدار مثل هذه القرارات «الشجاعة»، كما فعل يحيى صالح نجل شقيق الرئيس السابق. وأما عن الرئيس السابق نفسه، فحدثني سكرتيره الإعلامي أنه يؤيد القرارات الرئاسية، ووجه أعضاء حزبه باحترامها.
إلى هنا والأمور فيما يبدو جيدة، لكن المحك يكمن في لحظة التنفيذ، إذ كانت التجربة من قبل أن كثيرا من القرارات الصادرة عن الرئاسة تُقابَل بترحيب جميع الأطراف، غير أن بعض تلك الأطراف تعمل على عرقلة تنفيذ القرارات بشكل غير مباشر. وبحسب تجارب الماضي، فإن التخوف يظل واردا، إلا أن مؤشرات معينة تشير إلى أن الوضع اليوم مختلف، هناك عدد كبير من ضباط الجيش من الرتب العليا والمتوسطة يؤيدون قرارات توحيده، وهناك التفاف ملحوظ في أوساط العسكريين حول قرارات الرئيس، إلى درجة يصعب معها إنجاح أي محاولة للتمرد على قراراته، وهناك رغبة تكاد تكون حقيقية لدى الأطراف السياسية المختلفة في البلاد في ضرورة إنجاح المرحلة الانتقالية.
وفوق ذلك هناك ضغوط إقليمية ودولية باتجاه إنهاء انقسام قوى الجيش والأمن لضبط الأمن في البلاد التي تقلق جيرانها والعالم، نظرا لموقعها المهم على خطوط الطاقة العالمية، ولوجود تنظيم القاعدة في بعض مناطقها التي لا تخضع بشكل تام لسيطرة القوات الحكومية. ولا تأتي أهمية هذه القرارات من كون إعادة لحمة الجيش تعني إعادة ضبط الأوضاع الأمنية وحسب، ولكن هناك عدة رسائل سياسية، لعل أهمها طمأنة بعض معارضي العملية السياسية الذين يتعللون في رفضهم المشاركة في الحوار بقضية أن الجيش لا يزال منقسما، وأن الرئيس السابق لا يزال يحكم البلاد من وراء ستار أنجاله وأنجال شقيقه في المؤسستين العسكرية والأمنية.
الرسالة واضحة في مغزاها السياسي الموجه لقادة الحراك الجنوبي الذين شكوا طويلا من نظام الرئيس السابق، ومغزى الرسالة أن تجربة صالح أصبحت من التاريخ، وعليكم اليوم الدخول في حوار وطني مفتوح للكل ومفتوح على الكل؛ مفتوح لكل أطياف اللون السياسي اليمني، ومفتوح على كل القضايا دون حدود، كما تؤكد لجنة الحوار الوطني بشكل مستمر. كما أن هناك رسائل أخرى تحملها قرارات «الهيكلة»، منها ما هو موجه للحوثيين الذين استغلوا انقسام الجيش للانفراد بمحافظة صعدة والتحكم في مصير أبنائها، ومحاولة تصدير «ثورتهم الإسلامية» إلى بقية المحافظات، ومنها ما هو موجه لتنظيم القاعدة الذي يعني له الجيش والأمن المنقسمان فرصة مواتية للدخول عبر كثير من الثغرات إلى مساحات أوسع لتنفيذ عملياته، ومن هذه الرسائل ما هو موجه كذلك لأعداد متزايدة ممن بات يُطلق عليهم صفة «المخربين»، ويقصد بهم بعض المسلحين القبليين الذين يستهدفون بشكل مستمر خطوط الطاقة النفطية والغازية التي تمثل عصب الاقتصاد اليمني في هذه المرحلة.
ومع ذلك، فالمطلوب قدر من الحذر مع جرعة التفاؤل التي ضختها القرارات الجمهورية الأخيرة في شريان الحياة السياسية والاجتماعية في اليمن، ذلك أنها لا تمثل - على أهميتها - أكثر من مدخل للحل، وليست الحل ذاته، لأن الحل لا بد له من أن يكون سياسيا يأتي به الحوار الوطني الذي لا بد لنجاحه من حضور ممثلي الحراك الجنوبي الذي تُبذل حاليا جهود وطنية وإقليمية ودولية لإقناع ممثليه بالمشاركة في الحوار، كان آخرها لقاء الرياض الأسبوع الماضي بين عبد اللطيف الزياني أمين عام مجلس التعاون الخليجي وعدد من القيادات الجنوبية، كما أن حزمة قرارات جمهورية أخرى فيما يبدو في طريقها للصدور، تخص الوضع في جنوب البلاد، ستحرك الساحة السياسية في الجنوب جهة المشاركة في الحوار الوطني، كما لمح مؤخرا وزير الخارجية الدكتور أبو بكر القربي.
وعلى الرغم من عدم التأكد من طبيعة هذه القرارات، فإنه يفترض بها أن تؤدي إلى معالجة آثار حرب عام 1994، وفي مقدمة تلك الآثار النظر في قضية المسرحين المدنيين والعسكريين من الخدمة قسرا، وإعادة المنهوبات في الجنوب؛ سواء كانت عامة أو حزبية أو خاصة، والإفراج عن الأسرى على ذمة الحراك الجنوبي، والنظر في قضية ضحايا الاحتجاجات خلال السنوات التي أعقبت انطلاق الحراك، بما يهيئ الأرضية أمام زعمائه للحضور إلى مؤتمر الحوار الوطني الشامل.