آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

براميل البارود.. والثورة على عتبتها الثالثة

ها نحن نستقبل الذكرى الثانية للثورة الشبابية الشعبية، وها نحن-أيضا- نتخطى عتبة سنتها الثالثة، ونتأمل المشهدين؛ مشهد ما قبل فبراير 2011م، ومشهد ما بعده، ثم نضع المقارنات ونقيّم الحصيلة الثورية التي كان ثمنها آلاف الشهداء والمفقودين والجرحى، وكيف أن تلك الحصيلة والثمار بلغت أو لم تبلغ سقف الحلم الثوري الذي كان يخالج نفوس صانعيه وتلهج به ألسنتهم في الساحات، في ظل تجاذبات شديدة التعقيد بين قوى لا تريد الاعتراف بمن معها في هذا الدرب الثوري.

إن عزاء من لم تطِب نفوسهم بالذي تحقق؛ أنهم يعلمون-أو يجب أن يعلموا- أن عجلة التغيير لا تعرف التوقف، ما دام عامل التدوير مستمرا، وأن أي مرحلة ثورية تتبعها مرحلة ثورية أخرى، وأن كل مرحلة ثورية تستدعي عزما ثوريا أذكى وأقوى، كما أن الثائرين لا يعرفون الخلود للراحة إلا بالقدر الذي يناله المحاربون، وأن القادم أخطر مما يجري توقعه، ولهذا يجب أن تبقى شعلة الثورة في اتقاد دائم!!

إن من أهم اللحظات التاريخية التي رافقت مسيرة الثورة والتي يجب التوقف عندها باهتمام بالغ، هي تلك اللحظات التي كانت الثورة فيها بين مفترق طرق؛ إما طريق التسوية والالتفاف على المولود الثوري الغض، أو المضي قدما بأفدح الخسائر وإلى النهايات المجهولة، أو طريق الالتجاء إلى القوة العسكرية التي يمكن أن تقبل بالتحالف، وقد كان أبرزها وأقربها إلى الجذب، القوة التي يمثلها اللواء علي محسن صالح، رغم مرارة ذلك الاختيار لدى البعض؛ إلا أنه كان أصوب الخيارات، نظرا لخصوصية هذه الثورة عما سواها من ثورات الربيع العربي.

وكان الحوثيون والحراكيون-على اختلاف مواقفهم من الثورة- ينظرون إلى هذه الثورة على أنها هبة الله العظيمة التي يستطيعون من خلالها ضرب جميع أركان النظام السابق، دون استثناء، وتحقيق أهدافهم المرسومة منذ بداية المواجهات المسلحة وغير المسلحة التي جمعت بينهم وبين أركان ذلك النظام، خلال سنوات العقد الماضي، وأن تحقيق تلك الأهداف تأتي من استغلال المد الثوري المتصاعد وارتفاع سقف المطالب الثورية المنادية برحيل كل رموز النظام، بمن فيهم اللواء علي محسن، الذي كان يمثل بالنسبة لهم، العصا الغليظة التي كانت تقرع رؤوسهم، متى بدر منهم ما يقلق السلم الاجتماعي ويهدد وحدة التراب اليمني أو ينال من استقرار النظام القائم آنذاك.

واليوم، وبعد أن ازدحم المشهد بالكثير ممن لم يكونوا حاضريه عام 2011م؛ توسع الصراع على الجيش والأمن وغيرهما، من دائرة الثائرين إلى دائرة أكبر ضمت القادمين من خارج الثورة، ونعني بذلك: القوى السياسية التي اعتبرت الرئيس عبدربه منصور هادي محققا لآمال العودة إلى السلطة، بعد أن خرجوا منها جزئيا عام 1986م، أو كليا عام 1994م، في محاولة لتكرير وإعادة إنتاج رموز خمسة عقود ماضية، بكل أعبائها التاريخية المليئة بالشحناء والدماء التي ستدخل اليمن في جب عميق لا خروج منه إلا على الصورة التي خرج بها أولئك الذين يريدون العودة، وربما أسوأ من ذلك.

فهل نحن في الطريق إلى مثل السنوات الست التي عاشها الجنوب قبل أحداث يناير عام 1986م؟

لقد كان الحاكمون الفعليون في الجنوب في تلك الفترة لا يزيدون عن عشرة أشخاص، وهم في غنى عن التعريف بهم في هذا المقام، وكان تبادل المواقع بين أولئك يخضع لمنطق القوة السياسية والعسكرية والاجتماعية التي تراوح بين صعود وهبوط، وكان للدور الخارجي السوفييتي أثره القوى في تسيير تلك التراتبية، غير أن العامل القبلي كان حاضرا بقوة، بل وتغلب على العامل الحزبي الجامع لأولئك؛ ولذلك أراد الرئيس علي ناصر محمد أن يكون النظام الذي يقع على أعلى رأس فيه أبينيّاً صِرفا؛ مستفيدا من تنوع من كانوا في مواجهته، وهم يبدون كألوان الطيف، لكن برميل البارود كان قد سرت فيه شرارة الصراع؛ فانفجر في وجه الجميع في أحداث 13 يناير عام 1986م!!

واتكاء علي ما سبق؛ فإن الأمر الذي تتوجس منه بعض القوى الثورية اليوم، هو صيرورة ما نعيشه إلى ما يشبه سنوات ما قبل يناير عام 1986م؛ وقد تبدى ذلك من خلال مجريات وخطوات إعادة ترتيب نظام ما بعد الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، لاسيما بعد أن أفرز التطبيق الأولي للمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية قوة صاعدة أخرى انسلت من صفوف القوتين التي يتحكم بهما اللواء علي محسن ونجل الرئيس السابق، العميد أحمد علي صالح، وهي القوة التي يحاول البعض ممن هم حول الرئيس هادي أن يجعلوها ذات ملامح استحواذية فجة، تذكّر بالرئيس الجنوبي الأسبق، علي ناصر محمد، وهو ما وضع-في الوقت ذاته- الرئيس هادي في موقف صعب، أفضى-بشكل أو بآخر- إلى ظهور الموقف ذاته من قبل نجل الرئيس السابق، كفرصة للمناورة الذكية.

وإزاء ما يعتري العملية السياسية من عقبات، وما تبديه هذه القوى من استقواء بالأطراف الخارجية الراعية للمبادرة الخليجية، أو تلك التي تطل على المشهد إطلالة فضولي سمج؛ لا يمكن أن يكون القادم مبشرا بالسلام ووحدة التراب اليمني، ما لم يلتف الجميع التفافة القوى القرشية التي تنازعت أمر من يرفع الحجر الأسود إلى موضعه في بناء الكعبة.. لكن، هل يمكن أن يتمثل الرئيس هادي في حيادية حكيمة ونبيلة موقف فتى قريش محمد-صلى الله عليه وسلم- ثم المضي في كبح كل من يستأثر بالقوة بعيدا عن أي انتماء أو فكر، أو من يرفض قراراته ويقرع طبول الحرب؟!
هنا، قد يتساءل البعض: هل يصح أن يكون من وقف في صف الثورة مؤازرا ومساندا لها، على طرف بساط التسوية السياسية مع من وقف في مواجهة الثورة وأذاق شبابها الموت والتنكيل والإخفاء القسري؟ ثم هل يصح أن يقف على طرف من أطراف البساط ذاته من يريد البلاد أثلاثا وأرباعا وأخماسا، وعلى أيديولوجيات ومذاهب ومنازع سياسية وفكرية مختلفة؟!

إن الإجابة على تلك الأسئلة بلا؛ أمر لا شك فيه صائب، غير أن الحكمة لا تقر ذلك الجواب، وعلى الرئيس هادي أن يلتمس شعرة معاوية، وأن يعي دروس من سبقوه إلى هذا الموقع.. فالحكمة الحكمة، والصبر الصبر..!!

حقا، إنها ثورة عجيبة ومعقدة، حتى في اختلاف ثائريها على تاريخ اندلاعها..!! لكن، تظلّ لذكرى الحدث الثوري دلالات هي أبلغ من أن تعدو تاريخ مكتوب لحدث؛ ذلك أنها ميلاد جيل حر لا يعرف الخداع ويرفض الإذعان والقهر، ويحلم بوطن موحد ينعم بالاستقرار، ويتمتع بالقوة المسالمة.

*باحث في شئون النزاعات المسلحة

زر الذهاب إلى الأعلى