أرشيف الرأي

بن عمر.. المبعوث الانتهازي

يحظى جمال بن عمر المبعوث الدولي إلى اليمن بمكانة خاصة في قلوب غالبية اليمنيين ‏وذلك لدوره المحوري في التسوية السياسية الحالية ومتابعته المستمرة لتنفيذ بنودها، وهى ‏التسوية التي جنبت اليمن الوقوع في براثن الحرب الاهلية .‏

هذا الدور حول بن عمر من ديبلوماسي مغمور في المنظمة الدولية، إلى واحد من انجح ‏الوسطاء الدوليين في الوقت الراهن خاصة مع تعثر الوسيط الخليجي مبكرا، اضافة إلى ‏عوامل عدة صبت في صالحه وساعدته في النجاح في مهمته ومن ذلك :‏
‏1- وحدة الموقف الدولي من الوضع في اليمن، وحرصه على انجاح التسوية السياسية ‏والحيلولة دون انزلاق اليمن في حرب اهلية، هذا الموقف كان عاملا مهما في نجاح بن عمر ‏في مهمته وتجنب الفشل الذي لحق بكوفي عنان والاخضر الابراهيمي نتيجة الانقسام الدولي ‏من الوضع في سوريا، رغم كونهما من اعرق الديبلوماسيين الامميين، مع العلم أن الاخضر ‏الابراهيمي عندما كان مبعوثاً دولياً إلى اليمن في حرب صيف 94م كان بن عمر في عامه ‏الاول في المنظمة الدولية.‏

‏2- الدور النشط الذي لعبه سفراء واشنطن ولندن والاتحاد الأوروبي لتجاوز العراقيل ‏والعقبات العديدة، التي ظهرت في مسار التسوية السياسية .‏

‏3-خوف اطراف الصراع وعتاولة الفساد على ارصدتهم المالية وممتلكاتهم في الخارج من ‏أن تطالها عصا العقوبات الدولية جعلهم أكثر تجاوباً مع بن عمر .‏

‏-كان تكليف بن عمر بالملف اليمني بمثابة فرصة العمر التي لاتتكرر، والتي انتظرها ‏طويلا، واختبار حقيقي له سيما اذا ماعلمنا أن تكليفه بالمهمة كان فيه خروجا عن العرف ‏الدولي المتبع، حيث جرت العادة أن يعين الامين العام للأمم المتحدة مبعوثين عنه من ‏الشخصيات السياسية المعروفة على الساحة الدولية ممن تولت مناصب حكومية مرموقة في ‏بلدانها كمنصب وزير خارجية مثلا، وهو أمر لاينطبق على بن عمر، الامر الذي يفسر عدم ‏اصدار امين عام الامم المتحدة قرار تعيين رسمي لبن عمر كمبعوث عنه إلى اليمن الا في ‏مطلع اغسطس 2012م رغم أنه تولى هذه المهمة فعلياً في ابريل 2011م .‏

‏- ادراك بن عمر لهذه الحقيقة جعله شديد الحرص في الاستغلال الامثل لهذه الفرصة بما ‏يحقق له من خلالها طموحه واهدافه، لذا كان مصرا على النجاح في مهمته باي وسيلة كانت ‏ومهما استغرق من وقت، فأعتمد سياسة النفس الطويل والتأني والمرونة في تعامله مع ‏اطراف الصراع، واجتهد في البحث عن مخارج وحلول وسط لإرضاء كافة الاطراف قدر ‏الامكان، وكان النجاح حليفه إلى حد الان.‏

‏- لاشك أن هذه السياسة الهادئة والنجاح المتدرج المصاحب لها قد اطاحت بقلق البعض من ‏قلة خبرة بن عمر واحتمال عدم قيامه بمهمته كما يجب، بل انها اوجدت انطباعا ايجابيا عن ‏بن عمر في الشارع اليمني،، وعززت ثقة الكثيرين بقدرته ومهارته في مساعدة اليمنيين على ‏تجاوز ماتبقى من عقبات لإيصال اليمن إلى بر الامان سيما مع التزام بن عمر بجوهر مهمته ‏وعدم تجاوز الاسس والمرجعيات القانونية المنطلقة منها، وهو ما تجلى في تصريحاته ‏المختلفة المؤكدة على الموقف الدولي الحريص على نجاح التسوية السياسية وضرورة الحفاظ ‏على أمن واستقرار ووحدة اليمن .‏

‏- لكن الوضع تغير في الاشهر الاخيرة فظهر بن عمر بصورة مغايرة تماما عن صورته ‏المعهودة منذ بدء وساطته خاصة فيما يفترض أن يقوم به في أهم قضيتين مثارتين على الساحة ‏اليمنية وهما مؤتمر الحوار والقضية الجنوبية، وحتى لا أتهم بالتجني على الرجل سأورد ابرز ‏ما ذكره لوسائل الاعلام عن مضمون تقريره الذي قدمه لمجلس الامن في الـ5 من ابريل ‏الجاري، وسأوضح ذلك كما يلي :‏

أولا بالنسبة لمؤتمر الحوار الوطني، فأن اهمية المؤتمر وحتمية نجاحه كخيار وحيد لابديل ‏عنه لإخراج اليمن من ازماته والانطلاق منه نحو المستقبل، كان يفترض على بن عمر ‏التصدي بكل حزم لكل من يحاول عرقلة أو افشال المؤتمر الحوار، وتركيز جهوده لتوفير ‏الاجواء المساعدة لإنجاح الحوار، لكن بن عمر ظهر كديبلوماسي مبتدئ تائه غير مستوعب ما ‏ينبغي عليه فعله وكأنه غير معني أو مهتم بنجاح الحوار أو فشله، ومتناسياً أن ممارسة ‏الضغط و التلويح بالعقوبات على أطراف الازمة كان السبيل لنجاح التسوية إلى حد الان.‏

باستثناء دوره في اشارة مجلس الامن في بيانه قبل اكثر من شهرين لاسم على سالم البيض ‏كأحد معرقلي التسوية السياسية، خلى تقريره الاخير من أي توصيات للمجلس بالتلويح ‏بالعقوبات أو فرضها رغم أن البيض والقيادات الموالية له ابدت تحدياً سافراً للإرادة الدولية ‏وصعدت حملتها الاعلامية والميدانية على مؤتمر الحوار بل وصل الامر إلى تهديد قيادات ‏الحراك المشاركة فيه .‏

رغم خطورة ذلك والتداعيات السلبية المحتملة على مؤتمر الحوار، الا أن بن عمر لم يشر ‏في تقريره إلى أي من تلك الممارسات، واعتبارها تحدياً صارخاً لقرارات مجلس الامن ‏الدولي، كما تجاهل أدانة حملة الاساءات والتخوين التي تعرضت لها قيادات الحراك التي ‏تشارك في مؤتمر الحوار، وتجنب أبداء أي اشارة حازمة ضد كل من يطلق مثل تلك ‏التهديدات رغم تأثيرها السلبي على المشاركين وكعائق نفسي يحول دون اقدام قيادات اخرى ‏في الحراك على المشاركة في الحوار .‏

بدا لافتاً عند حديثه عن العصيان المدني تجاهله الاشارة إلى كثير من الانتهاكات المصاحبة ‏للعصيان، ومحاولة انصار الحراك فرض العصيان بالقوة، أو عدم اعتبار ذلك ضمن تأليب ‏المواطنين ضد مؤتمر الحوار الوطني والدور المحوري الذي تلعبه قناة عدن لايف في ذلك ‏ومطالبة المجلس بالتدخل لوقف بثها.‏

كما أن حديث بن عمر عن العصيان المدني,ربما يمثل عاملا مشجعا لقوى الحراك لتركيز ‏نشاطها الميداني في الفترة المقبلة على فرض عصيان مدني بمختلف السبل في عدن ومدن ‏اخرى، وذلك لان العصيان المدني نجح في لفت انتباه بن عمر نحو ما يجري على الارض في ‏الجنوب بعكس فشل المليونيات المزعومة التي نظمها الحراك في لفت انتباهه.‏

كما أن حديثه عن العصيان المدني فيه تبرئة غير مباشرة للحراك من أي انتهاج للعنف ‏والارهاب، وهو بذلك يتجاهل الدعوات التي تطلقها بعض قيادات الحراك لما تسميه الكفاح ‏المسلح، والهجمات المتكررة التي يشنها مسلحين من الحراك على مقار حكومية في الضالع ‏ولحج أو استهداف قيادات عسكرية ومدنية في مناطق جنوبية، وكان غريباً عدم ادانته على ‏الاقل في تقريره لمحاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها محافظ عدن وذلك لإدراكه بوقوف ‏الحراك ورائها.‏

ايضاً رغم أدراك بن عمر أن قيادات الحراك في الخارج كالعطاس وناصر والجفري ‏واخرين، هي قيادات محروقة ومحدودة التأثير على الارض ومتقلبة المواقف باستمرار وتسير ‏بالريموت من قبل بعض الامراء السعوديين، وهو ما يعني أن التواصل مع الرياض والتلويح ‏بعصا العقوبات في وجه هذه القيادات هو السبيل الامثل لتغيير موقفها من المشاركة في مؤتمر ‏الحوار .‏

لكن للأسف مانجده أن بن عمر يسخر جل جهده للالتقاء بها ومحاولة ارضائها بأبداء تفهما ‏لرؤيتها ومواقفها، حتى وأن كان مخالفا لمهمته وللموقف الدولي، بمعنى ربما نتفهم سعي بن ‏عمر لتلبية رغبة تلك القيادات بتنظيم الامم المتحدة ورعايتها لمؤتمر جنوبي – جنوبي أو ‏بالأصح لمؤتمر يظم قوى الحراك الانفصالي بهدف توحيد الموقف والقيادة، اذا كان هذا ‏المؤتمر سيؤدي إلى توحيد الصف الجنوبي خلف موقف وقيادة ينسجم مع الموقف الدولي ‏المؤيد للوحدة اليمنية.‏

لكن المؤتمر الذي تسعى القيادات الانفصالية إلى عقده وبمباركة بن عمر يهدف إلى توحيد ‏الصف خلف حل الفيدرالية مع تقرير المصير، وهو ما يعني أن مضي بن عمر في هذا الاتجاه ‏يعتبر تجاوزا لأبجديات مهمته وانتهاكا للمبادرة الخليجية وآليتها وقراري مجلس الامن وجميع ‏البيانات الصادرة عنه .‏

ثانياً اما بالنسبة للقضية الجنوبية فلا خلاف من كونها أهم قضية مطروحة على طاولة الحوار ‏وأن حلها بطريقة عادلة أصبح امرا ضروريا وحتميا، ولكن بشرط أن يكون الحل في اطار ‏اليمن الواحد، ومن المهم أن يتذكر بن عمر أن القضية الجنوبية لم يتم ذكرها الا في الالية ‏التنفيذية بصورة ثانوية، كما عليه الا ينسى ما قاله لقيادات الحراك اثناء لقاءه الاول بها في ‏القاهرة، حيث اكد لهم أنه ليس هناك أي دولة في مجلس الامن تحدثت عن الوضع في الجنوب ‏وانه هو من طرح القضية الجنوبية على المجلس .‏

‏ - اذا ما قارنا هذا الكلام بتصريحاته في تقريره الاخير المقدم لمجلس الامن، نلمس تحولا ‏مثيرا للقلق وغموض في رؤية بن عمر لكيفية حل المشكلة في الجنوب، بل أنه ظهر منحازا ‏ومتأثرا برواية الحراك، الذي يبرز فيها دائما الجانب الذي يخدم اجندته ويغفل الجانب الاخر ‏والحقيقي من الصورة، فظهر في تقريره عند حديثه عن الجنوب وكأنه ناطق باسم الحراك، ‏ويتحدث عن المواطنيين في المحافظات الجنوبية بعبارة الشعب في الجنوب وكأن هناك شعبين ‏في الشمال والجنوب، وحديثه عن تنامي الدعوة إلى الانفصال يوماً بعد يوم، وعن سأم الناس ‏بعد نحو عقدين من التمييز والقمع، وعدم معالجة المظالم المشروعة، وشكوكهم في وعود ‏الإصلاح"، وهنا يظهر بن عمر كديبلوماسي مبتدئ وساذج أو متواطئ.‏

كما يبدو واضحا استشراء نظره متشائمة لدي بن عمر لمسار الاحداث في الجنوب كقوله إن ‏حركة العصيان المدني تستقطب أعداداً كبيرة من الناس إلى الشوارع، متجاهلا ممارسات ‏ميليشيات الحراك وما تقوم به من قطع الشوارع واغلاق المحلات بالقوة.‏

لاشك أن مثل هذا الطرح قد ينعكس سلباً على المناقشات داخل مجلس الامن ويهيئ لظهور ‏اصوات داخل المجلس قد تطالب بنوع من المرونة في التعامل مع ملف الجنوب، والعمل على ‏ارسال المجلس اشارات ايجابية لقوى الحراك يلمح من خلالها بإمكانية التعاطي مع بعض تلك ‏المطالب كإعلان المجلس مثلا تأييده لمنح الجنوب حق تقرير المصير اذا تم الاتفاق عليه في ‏مؤتمر الحوار الوطني .‏

ومع ذلك لا يمكننا استبعاد وجود فقرات أو عبارات في التقرير تعمد بن عمر عدم التطرق ‏اليها في بيانه الصحفي عن الجنوب، مكتفياً بالعبارات التي ستنظر اليها قوى الحراك كتحول ‏ايجابي في نظرته وتعامل الامم المتحدة مع مطالب الحراك، الامر الذي قد يكون بمثابة الحافز ‏لها ودافع لحسم ترددها والقبول بالمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني .‏

المتعاطفون مع الحراك سيرون فيما ذهب اليه بن عمر في تقريره اقتراب من الواقع على ‏الارض في الجنوب، لكن التودد ومحاولة التقرب من قيادات الحراك تبدو واضحة عبر ابداءه ‏مواقف تمثل في مضمونها تجاوزا وقفزا على موقف مجلس الامن الدولي من اليمن الموحد، ‏وذلك لضمان النجاح في مهمته حتى وأن كان على حساب الوحدة اليمنية في موقف اقل ما ‏يمكن وصفه بأنه انتهازي بامتياز.‏

التحول الملفت في طرح بن عمر من ملف الجنوب يعيد إلى الاذهان كلام الكاتبة الالمانية ‏ساندرا ايفانس المقربة من المخابرات الالمانية ومن المستشارة ميركل في مقالها قبل عدة ‏اشهر عندما اتهمت بن عمر بأنه غير امين فيما يتعلق بقضية الوحدة وأنه سيعمل على تمرير ‏تقرير المصير عبر مجلس الامن .‏

للأسف يبدو أن بن عمر لم يكتف بالمكاسب التي حققها على الصعيد العملي بترقيته إلى ‏أمين عام مساعد من لعبه دور الوسيط في بلادنا ويطمح لتحقيق المزيد، لذا كان يتعمد منذ ‏انتخاب الرئيس هادي إلى عدم التدخل المباشر والحازم لتجاوز أي عقبات أو تمرد ضد ‏قرارات الرئيس، الا في الايام التي تسبق تقديم تقريره الدوري إلى مجلس الامن مع الظهور ‏في صورة المضطر للطلب من المجلس تأجيل عقد اجتماعه الدوري لأسبوع أو اكثر حتى يتم ‏حل المشكلة ومن ثم ينظر المجلس لذلك كإنجاز ثانوي جديد لبن عمر يضاف إلى رصيده .‏

كما أن هذه السياسة وفرت له فرصة الظهور امام وسائل الاعلام وفي المنظمة الدولية ‏كديبلوماسي ناجح طوال الفترة الماضية، ولاشك أن بن عمر يمني نفسه بأن أي اتفاق يمكن أن ‏يتم التوصل اليه بشأن الجنوب سيحسب له كإنجاز يضاهى انجاز توقيع المبادرة الخليجية ‏وآليتها المزمنة، وفي اعتقادي أن ميله لمنح الجنوب حق تقرير المصير راجع إلى سعيه ‏لمواصلة لعب دور الوسيط لفترة انتقالية تستمر لخمس سنوات وهذه المرة ستكون بين الشمال ‏والجنوب وما يعنيه ذلك من استمرار الظهور كديبلوماسي ناجح قادر على تجاوز الخلافات ‏والتباينات المرجح ظهورها بين الطرفين .‏

زر الذهاب إلى الأعلى