انتشرت خرافة مؤخّراً بين أبناء اليمن في المناطق الجنوبية(1) وهي أنّ الجنوب-تاريخياً- ليس جزءاً من اليمن، ولم يشمله هذا الاسم من قبل. وقد سمعت هذا القول وقرأته يتردد هنا وهناك ، ولا أخفي القارئ الكريم أنّ الأمر كان حينها نكتة من الطراز الرقيع(بقاف مناطقنا المتفرقعة كالرصاص)، لذلك طرحت الأمر على صديقي واخي الشاعر الشعبي أحمد حسين الحميقاني، سائلاً إيّاه : ترى كيف سيكون اسمنا نحن الجنوبيين حينها؟ فصفة جنوبي ملتصقة بالكثير ممّن انبطح على أرض الله الواسعة، وببديهيته المعهودة وحس النكتة عنده أجاب شاعرنا: سيكون اسمكم (جعاربة)، المفرد (جعربي) !
ولعلّ نحت شاعرنا الطريف أقرب إلى العقل من نحت خرافة عدم انتساب الجنوب إلى (اليمن)، لكنّ المفاجأة أن يردد مثل هذا الجهل أناس تحسب فيهم مسحة ثقافة ووعي، وكان من آخر من رأيت الشيخ السلفي المعروف حسين بن شعيب!!
ولعلّ ما لمسته كدلالة جرّاء انتشار هذه الخرافة هو أنّ الجهل مرتع خصب لتحطيم أيّة بديهية، وألا يحسبنّ أحدهم أنّ البديهيات فوق مستوى التحطيم والتشويه. إذ أنّ كل الشعارات الني كنّا نرددها أيّام التشطير من القسم على تحقيق الوحدة اليمنية، والحلم الذي لم يره محقّقاً الكثير من المخلصين في أرجاء الوطن، وشعور الانتماء الذي نشأ معنا كجزء من أجسادنا وتصوّراتنا كان منكراً من القول وزوراً.
وليست الكتابة هنا لدحض مثل هذه الخزعبلات؛ لأنّ أبسط معلومة لرد ذلك هو حقيقة نسب اليمنيين الذين يرجعون إلى أب واحد بما فيهم هؤلاء الذين يريدون التنكّر لجدهم الأكبر (قحطان). لكن ما ينبغي ذكره هنا هو أنّ إطلاق اسم (الجنوب العربي) على تلك القطعة من اليمن هو دندنة غربية وجدت في كتابات الكثير من المستشرقين والسياسيين البريطانيين على وجه الخصوص. ومما ينبّه إليه هنا، هو أنّ اليمنيين عرفوا الحس القومي، إذا صح لنا التعبير، منذ زمن مبكّر؛ فهذا شاعرهم عبدالخالق بن أبي الطلح يحرّضهم ضد بقايا الفرس:
فيا يمنا فبعد العز ذلُّ وبعد الذل يفترش الوطاء
ويايمنا أأغصب وسط قومي وتفرس ثلتي ولها رعاء (2)
ولكن بعيداً عن كل ذلك، لا بد من القول أنّ القضيّة الجنوبية قضية عادلة وطرحها ينبغي أن يكون من ضمن مشروع الوحدة، لا من خلال مشاريع التجزئة والتشرذم، وزراعة الأحقاد ونصر الجهل . وأفضل سبيل لنقاش قضيّة الجنوب هو الصدق والوضوح في الطرح، فالحقيقة لا تؤلم سوى المجتمعات التي قامت على النفاق والمجاملات أو تجاهل الأزمات .
ولا شك لدي أنّ النظام السابق كان يزرع الانفصال زرعاً، والمتأمّل يستطيع رؤية ذلك من خلال الكثير من الجرائم القذرة التي مارسها النظام ضد أبناء هذه المناطق؛ سواء كان ذلك عبر النهب المنظم للأراضي، أم بإخراج الكثير من وظائفهم، وغير ذلك مما يعرفه كل يمني، ويعلم اليمنيون كذلك أنّ هناك مناطق في اليمن تعرّضت لمثل ذلك بل وأشد كمناطق تهامة على سبيل المثال. ما أودّ قوله هنا أنّ الرئيس السابق وعصابته كانوا وما يزالون أكبر الانفصاليين في هذا البلد، وليس الأمر يتعلّق بجنوب وشمال فقط، بل يريد زبانية النظام السابق أن تتشرذم اليمن إلى ألف منطقة ومنطقة.
لم يحدث في اليمن بعد الوحدة أي جهد لنشر ثقافة الوحدة، لا ممّن كانوا يسيطرون على جنوبه، ولا من عصابة علي عبدالله، لسبب بسيط وواضح؛ هو أنّ كلا الفريقين كان حريصاً على نصيبه من كعكة هذا الوطن، والسيطرة على شعبه، ونهب خيراته. وزاد الأمر سوءاً بانعدام نخبة مخلصة تردم مثل هذه الفجوات التي يحفرها السياسيون. فالنخبة اليمنية تشرذمت بين كونها سجادات للنظام، أو متجرّعة للصمت راضية بغنيمة السلامة، أو ثرثارة بكل ما لا يخدم الوطن ولا يتصل بهموم اليمني (لا بطّة ولا سليطاً)!!
لم تتوحّد المجتمعات بالسياسة، بل تشرذمت بسببها؛ فكل الغثاء الطائفي والعرقي الذي زكمت رائحته أنف كل مخلص كان للسياسة يد فيه، مرّة باسم الدين ومرّات بأقنعة أخرى تتناسب مع الزمان والمكان. لذلك فالحديث عن هموم الوحدة يجب أن يكون بعيداً عن غثاء السياسة بل لصيقاً برحابة هذا المجتمع ووشائجه الاجتماعية والدينية التي حافظت على هويته (اليمنية) طوال قرون عجاف .
ما يفعله الانفصاليون اليوم هو ردّة في عصر الربيع العربي؛ ففي الوقت الذي تخلّصت فيه الشعوب من قيادات الفساد والإفساد يريد الانفصاليون إرجاع زعامات انتهت صلاحياتهم حتى بمقاييس الاستبداد العربي !!
يستغل الانفصاليون عاطفة هذا الشعب الكريم ليزرعوا الأحقاد ناسين أنّهم في الآن ذاته يحفرون قبورهم بأيديهم وأيدي الذين أفسدوهم، فمبررات الانفصال التي يرددها الانفصاليون يمكن تكرارها حتى تتساقط أجزاء هذا الوطن جزءاً جزءاً، وتدفن الأحقاد أبناء هذا الوطن في نفس الأخدود الذي شقه الانفصاليون من قبل.
يؤسفني القول أنّني لمست في أوساط بعض أبناء الجنوب اليوم من الجهل والسطحية ما صدمني وشعرت كم أفسد هذا النظام عقولاً هي أمل هذا الوطن الواحد. لقد أعاد الحزب الاشتراكي الجنوب قرونا إلى الوراء؛ إذ دمّر عقول هذا الجزء وشردها وأخلى الجنوب من نخبته التي كانت ملء السمع والبصر قبل الاستقلال. ومع ذلك فإنّ الوحدة قامت على جيل شدا شيئاً من الثقافة وملك وعياً جيّداً، ولكن خلف من بعدهم خلف حثوا السير لطلب لقمة العيش وتقاسمتهم دول الخليج وصار بعدها يولد المولود (وفي يده فيزة للسعودية) كما أضحكني أحد ظرفاء قريتنا! وأي متتبع اليوم لشبكات التواصل الاجتماعي سيفاجأ بما يراه: عقول مدمّرة، جهل منظّم، لغة ركيكة، أحقاد وعنصرية لا تصدر من عاقل....كل ذلك يتم استغلاله بأساليب حماسية رخيصة (والبَيض لش يا جدة والزقزقة لك يا عمران) !
ما ضر أن تقوم هذه النخبة البائسة في اليمن بواجبها لعيون هذا الوطن. ما ضر لو أنّ أمثال الشيخ الزنداني يبتعد عن خزعبلاته التي يطلع بها على الناس كل يوم ويحمل رسالة رأب الصدع كفّارة لما شقّقه في الماضي. ما ضر أن يقوم السلفيون وأتباع المذاهب بجمع الناس بدلاً من هذه الحروب التي يتراشقونها ليشغلوا الأمّة بمسائل تدل على إعاقة فكرية. وإلى متى سينشغل مثقفونا بأمور الحداثة وغيرها أو حرية سب الدين والمقدسات وهم عاجزون عن تقديم مشروع فكري يعالج ما نعانيه في شتى جوانب حياتنا، وأساس هذه المعاناة فكري دلالته هؤلاء المعوّقون فكريا أصحاب أقلام خائنة !
بقدر قداسة شعار (الشعب يريد إسقاط النظام) لكن علينا ان نصحو ونعي أنّ مشكلتنا ليس هذا النظام الفاسد فقط. مشكلتنا أعمق من ذلك؛ إنّها الثقافة المتجذّرة في مجتمعنا التي جعلت من اللص (أحمر عين) ومن الرويبضة شيخاً على ألف قبيلي. الثفافة التي جعلت من أمثال محمد علي أحمد زعيماً جنوبياً، وحميد الأحمر ثوريّاً شريفاً، والجبوري شيخ أهل السنة والجماعة، والجفري رائد التفكير الوسطي!!
كان الأمل في المثقفين بكل أطيافهم أن يكون لهم الدور في تلاحم ووحدة أبناء اليمن؛ ففي الوقت الذي شطرت فيه السياسة اليمن كان البردوني يصدح بشعره في عدن، وعبدالله الحبشي يبحث وسط المخطوطات في صنعاء وغيرها. كان أيّوب يشدو بصوته الأصيل أنشودة اليمنيين في مناطق ما يسمى بالجنوب. وكانت مجلة الحكمة مفتوحة لكل الأقلام اليمنية تنسج وحدة هذا الوطن من قبل الوحدة السياسية بسنين عديدة . (3)
هكذا كان تاريخ اليمن الثقافي؛ عدن تستقبل أشرعة الجميع، وصنعاء مدينة تحتضن الداخلين إليها. مدارس حضرموت يقصدها طلبة العلم من كل أنحاء اليمن، وهجر العلم في إب وزبيد وتعز تستقبل شداة العلم دون السؤال عن شيء سوى حبهم لما أتوا لتحصيله. و "لا بد من صنعاء وإن طال السفر" حدا به إمام جليل ليغدو علامة إشراقة ورحابة هذا الوطن الجميل. عرف طلبة العلم قدر الإمام العمراني الإبّي في كل شبر تقدس بالانتماء إلى هذه التربة الطاهرة، وحفظ طلبة أربطة حضرموت إرشاد الإمام المقري الزبيدي وفاة، وتدارس شافعية تعز وتهامة فتاوى مفتي الديار الحضرمية الإمام المشهور المعروفة ببغية المسترشدين، وكذا متن سفينة النجاة الذي يبدأ به المبتدئ للشيخ سالم بن سمير الحضرمي. وهكذا تعانقت جهود أبناء هذا الوطن طوال تاريخه فسالت دماء ابناء تعز وصنعاء في عدن وغيرها إبان الاحتلال البريطاني، ودفن أبناء يافع وأبين وغيرها دفاعاً عن صنعاء أثناء حصارها السبعيني الشهير.
وما عاناه اليمن من ويلات فكثير منه بسبب مناطقية رعناء، أو عصبية جاهلية. وما تجربة عبدالرحمن البيضاني عنّا ببعيد. وما زالت تجارب الرفاق التي لم تستطع اشتراكية مستوردة ستر عورتها يئن منها اليمنيون في وطننا المنهك. أمّا ويلات علي عفّاش وعصابته فشيء نعاني منه إلى يومنا هذا. لكن يبدو أنّ النسيان غدا وطن الأحلام لدى الكثير؛ إذ ليس أيسر من أن يقتات أحدنا على الأحلام ويرمي بتاريخه جانباً، وهو ساعتها لا يرمي بكوم من المعلومات ولكنه يتخلّص من حقائق تريه واقعه المرير ومن ثمّ مسؤوليته الثقيلة.
ما نحتاجه اليوم هو جهود كل المخلصين لإنقاذ هذا الوطن، وكما وحدت الثورة جهودنا لإسقاط الطاغية علينا توحيد جهودنا للحفاظ عليها. الثورة فضاء مفتوح للجهود المخلصة، والسعي إلى أهداف تأخذ باعتبارها طبيعة كل مرحلة، وليست الثورة حلاً قاطعاً أو وَصفة سحرية بل هي السعي إلى الأفضل دوماً، وأي شيء أفضل وأعظم من يمن واحد يرقى به أبناؤه إلى ما يريدونه أن يكون: وطن الحب والسلم ....وطن الجميع بدون أدنى استثناء.
.............
1- بالرغم من بغضي لمثل هذه الألفاظ (الجنوبيين أو الشماليين)، بيد أنّي سأستخدمها مكرهاً ومنبّهاً ومؤكّداً أنّ الوحدة ليست خياراً لدي، بل هي مصير لا بديل عنه.
2- عن (معتزلة اليمن: دولة الهادي وفكره)، علي محمد زيد، ص44. دار العودة: 1981.
3- انظر مقالة الأستاذ علوي طاهر "الاتجاهات الوطنية والمواقف الوحدوية لكتَّاب «الحكمة» الثانية"