إن قصة الملكة بلقيس (ملكة سبأ) ، قصة شغلت الناس عشرات القرون ، بل إن كثرة انتشار هذه القصة وشيوعها عبر الزمن قد أبقتها عالقة في الموروث الثقافي لكثير من الشعوب ، يهودية ، ومسيحية ، وحبشية واسلامية بروايات متعددة وصيغ مختلفة ، فتنازعوا حولها واختلفوا في أصلها حتى في اسم الملكة التي تدور حولها القصة . وكل مجموعة من المجموعات التي تتنافس على تبنيها كانت تستعيد القصة وتفصلها وتعيد تفسيرها . ولا ريب في أن قصة ملكة سبأ هي حقيقية تاريخية ، هي في أساسها حدثا تاريخيا جاءت بذكره الكتب السماوية (التوراة والإنجيل والقرآن الكريم ) في إطار قصص الأنبياء . وكذلك روتها كتب التاريخ والأخبار . وتناولتها النصوص المسيحية ، ورسم قصتها ، ونحتها ، كبار الفنانين الأوروبيين في عصر النهضة ، ضمن رسومات وصور القديسين والشخصيات المذكورة في التوراة والانجيل . ومنها اللوحة التي رسمها الفنان (جبرتي) في القرن الخامس عشر على باب معمدانية فلورنسا بإيطاليا لتحكي قصة الحفل المهيب الذي أقامه النبي سليمان عليه السلام لاستقبال ملكة سبأ . كما أن كتاب الأحباش الشهير المسمى (مجد الملوك) يروي بالتفصيل قصة استقبال النبي سليمان لملكة سبأ . ورغم ذلك كله فإن بلقيس ( ملكة سبأ ) تبقى رمزا تاريخيا يمنيا لحضارة سبئية راقية نسمعه يتردد في المصادر العربية الإسلامية كقول نشوان الحميري في واحدة من قصائده :
أم أين بلقيس المعظم عرشها أو صرحها العالي على الا صراح
زارت سليمان النبي بتدمر من مارب دينا بلا استنكاح
الاسم بلقيس
الكتب السماوية لم تذكرها بالاسم ، فالقرآن الكريم يشير إليها بقوله تع إلى ( وجئتك من سبأ بنبأ يقين . إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ) (الآية ) ، والتوراة تذكرها فقط (ملكة سبأ) . أي أنها لم تعرف بالاسم . لذلك وجد بعضهم في هذه الاشارات استدلالً على أن بلقيس ليس علما وإنما صفة مشتقة من اللفظ ( بلجش ) المعروفة في اللغتين العبرية واليونانية ومعناها الفتاة الحسناء . وورد الاسم في كتب الاشتقاق ( بلقيس بنت إيل شرح ) وكان اسمها ( يلمقه ) ، وكلمة يلمقه ، في قول يوسف عبدالله ، هي كلمة فارسية معربة وتعني القباء المحشو ، وأن لفظ ( بلمقة ) في النقوش السبئية هو لفظ مصحف ومعدل عن اسم اله القمر في معابد سبأ ، واصل الاسم هو ( المقه ) . واجتهد آخرون وقالوا أن أصل الاسم بلقيس هو ( بالقياس ) أي بالقياس إلى حكم أبيها كانت عادلة . وأن أصل الاسم ( بنت ألقيس ) ، وتصبح بالتالي ( بلقيس ) .
أما في المصادر الأثرية في اليمن لم يعثر على ما يشير إلى اسم الملكة بلقيس ، لكن ذلك لا يقضي بالضرورة نفي وجودها . وعلماء الآثار مستمرين في البحث عن أدلة في أعمالهم وتنقيباتهم الأثرية في مدن ومعابد سبأ ، خصوصا التنقيبات التي تجرى في معبد أوام المسمى (محرم بلقيس) في مارب ، وهم على أمل العثور على الدليل الأثري بين أطلال المعبد حيث لايزال ما نسبته 90 % من المعبد مدفونا تحت الرمال . ومهما تعددت الاجتهادات تبقى الآيات الكريمة خير القول وأصدقه وشاهدا خالدا على آية سبأ ، موطنا للملكة بلقيس ( لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور ) . والقول بأنها في الحبشة ما هو إلا من وحي القصص والروايات التي تولدت عن كثرة انتشار قصة الملكة بلقيس وشيوعها فأتاح المجال عبر الزمن لتنازع الناس واختلافهم في أصلها ونسبتها ، وكما يقول يوسف عبدالله ، حتى في اسم هذه الملكة التي تدور القصة حولها . وعلماء الآثار والتاريخ واللغات السامية القدية مجمعين على أن أرض الملكة بلقيس ومملكتها هي اليمن ، وليس أي مكان أخر . وبلقيس وإن اختلف في تفاصيل قصتها واسمها فهي عند الجميع ملكة سبأ – وهجرة أهل اليمن ارتبطت بسبأ - تفرقوا أيدي سبأ .
تاريخ الملكة بلقيس بالإسناد
يؤرخ عهدها بالإسناد إلي القرن العاشر قبل الميلاد ( بالتحديد 950 قبل الميلاد ) ، وهو العصر الذي عاش فيه النبي سليمان عليه السلام . وتدخل هذه الفترة ضمن فترة التأسيس لدولة سبأ التي تكونت من تحالف قبائلها في إطار سلطة مركزية ، وهي فترة تسبق فترة حكم ملوك سبأ بحوالي ثلاثة قرون ، ومنهم المكرب السبئي (يثع أمر بين بن اسمه على) الذي تزامنت فترة حكمه مع فترة حكم " سرجون الثاني " (حوالي 715 قبل الميلاد) والمكرب - الملك " كرب إل وتار بن ذمار علي " الذي تزامنت فترة حكمه عهد الملك الاشوري " سنحريب " (حوالي 685 قبل الميلاد) .