لم يعد مهمّاً في غربال التاريخ نوعية الحكم على محمد مرسي بالسالب أو بالموجب بقدر أهمية أن يتوقف نزيف الدم المصري الآن،وبعد أنْ تمّ كسر الحاجز النفسي الشاهق بين السلطة والاخوان بعد أن ذاقوا جزءاً من الكعكة المستحيلة .. السّلطة ! هذا الحاجز النفسي كان حاجزاً مكهرباً وكميناً للموت والصراع والفهم الخاطئ للسلطة من ناحية، وأهداف الدين ومقاصده من ناحية أخرى . واستمر ذلك بنسب متفاوتة حتى اندلاع ثورة 25يناير 2011م.
كان دخول الإخوان الانتخابات الرئاسية مغامرة هي أقرب إلى القفز في المجهول !
وكتبت في حينها أني لا أحبّذ دخول مرسي السباق الانتخابي لما سيثيره من انقسام واضح في المجتمع المصري .. لكن الجميع وُضِعَ أمام الأمر الواقع، فقد أصبح الخيار أمام مناصري ثورات التغيير في العالم العربي بين مرسي وشفيق، وبالطبع كان حاسماً لصالح مرسي ! على الأقل كي تستمر عجلة الثورة والتغيير، قبل أن يعرف أحد أنّ أيام مرسي ستكون مجرّد جسر أو (كوبري) بين مرحلة ومرحلة وهو ما حدث بعد ذلك وكما نراه اليوم !
عندما دخل مرسي القصر الرئاسي لم يتخيل أحد كيف يمكن أن يكون اليوم الأول له في قصر القبّة وهو يتلقّى تقارير الأجهزة الأمنيّة التي تم بناؤها من سنوات بعيدة على اساس الحرب على الإخوان ! ولم يتخيل أحد حجم الحيرة المرتسمة على الوجوه والعيون التي تدير هذه الاجهزة، وهي تغلق مظاريف تلك التقارير المكتوب عليها سِرّي للغاية ! وترسلها للرئيس الجديد !
وهكذا، تقبّل الشعب المصري في البداية وبشكل نسبي الرجل البدين القصير والملتحي محمد مرسي كرئيس لمصر .. ولم يكن ذلك ليحدث قبل بضعة اعوام فقط .. تماماً مثلما تقبل الشعب الأمريكي الرجل الأسود أوباما رئيساً له .. وما كان لذلك أن يحدث ايضاً قبل عقدين من الزمن ! حين كان يُكتب على أبواب بعض المطاعم الأمريكية (ممنوع دخول السود والكلاب )!..
العالم يتغيّر ولو ببطء ! إلا السياسيين العرب ! وبالنسبة لمصر فإن المشكلة لم تكن في صلف النخبة الحاكمة خلال عقود فحسب، بل في ضيق أفق الإخوان أنفسهم أيضاً، وعلاقتهم بالآخر والقبول به، ونظرتهم إلى متغيّرات العالم وأسباب تقدّمه .. وهي مشكلة كانت موجودة وإنْ بنسبٍ متفاوتة لدى معظم الأحزاب العربية الراديكالية خلال حقب طويلة وعقود من الرأي الواحد والزعيم الأوحد !
لكن العالم تغيّر ! وإنْ على مَهَل، مثل جراحة طويلة ضرورية ! وكانت التجربة التركية القريبة موحيةً ومشجعة على البراجماتية الإسلامية الجديدة في المنطقة .. وصولاً إلى ثورات الشباب العربي 2011م.
لقد تغيّر الجميع إذن ! بما في ذلك الإخوان والسلفيون وإنْ ليس بالقدر الكافي ! لكنّ كلماتٍ مثل الديمقراطية والمواطنة المتساوية والسلمية والقانون أصبحت من أدبياتهم الجديدة !وكان ذلك بفضل الشباب الثائر أساساً، وأحلامه في التغيير والتقدم . وبدأ التغيّر يفعل فعله حتى لو بدا شكلياً ! وكان التغيّر أكثر نضوجاً في تونس التي لم تُشِرْ حتى مجرّد إشارة إلى الشريعة في دستورها الجديد ! واكتفت بجملة أن الشعب التونسي شعبٌ عربيٌّ مسلم ! وللأسف فانه لم يكن لدى الإخوان في مصر قامة مضيئة مثل قامة عبد الفتاح مورو أو راشد الغنوشي في تونس !.. ربما لتغيّرت أمورٌ كثيرة .. ولسالت المياه في قنواتها الطبيعية وهي أكثر انسياباً وهدوءاً.. !
كان من المهم أن ينجح مرسي في استقطاب غالبية شعبه.. أمّا كيف ؟ فهذه وظيفته كرئيس ! ولأنّ ذلك لم يحدث فقد مرّت السّنة الحاكمة عاصفةً لا تهدأ .. وفي الواقع أنّ السّنة لم تكن حاكمةً تماماً .. كانت مجرّد خناقةٍ بالأيدي في شارع مظلم ! خناقةٍ طويلةٍ مرهقة .
الآن، يبدو أنّ الانقسام في مصر حَوْلَ مرسي بعد تدخّل الجيش أصبح مخيفاً ومفزعاً، والأهم أن يتوقف العنف ونزيف الدم فمصر أكبر وأهم من الأشخاص والأحزاب والكراسي ! كما لايمكن القبول بالاعتقالات غير المبررة بعد عزل رئيس جمهورية منتخب ..وندعو الله ألاّ يفتح ذلك أبواب الجحيم !
لعل أجمل ما يمكن أن نتذكره عن الرجل أنه لم يغادر شقته المتواضعة كما أنه رجلٌ نزيهٌ وبسيط ونشيط ! وخطيبٌ رغم أنه يخطئ بعد كل ثلاث كلمات !
وبينما العالم مشغولٌ بصراع النسور والصقور في مصر كان اليمنيون منهمكين في معركةٍ مضحكة إثْرَ تعيين وكيلٍ في محافظة ! رغم أنّ الوكيل مضافٌ إلى ثلاثة عشر وكيلاً بالمحافظة ! وكأنّ هذا الوكيل سيصبح لويس الرابع عشر !.. هكذا نحن ننسى قضايا البلد الأساسية ونهتم بهوامش القضايا وتوافه المشكلات ! بينما الشعب يذوى جوعاً، ويكتئب ظلاماً .. وينتظر ما لا يجيء !