[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

واقع التعليم والبحث العلمي في اليمن

اهمية التعليم والبحث العلمي سواءً كان في ما يتعلق بتحقيق التنمية الشاملة بشكل عام أو رفع المستوى الثقافي والحضاري للشعوب على وجه الخصوص مسألة معروفه ولا تحتاج لمزيد من التوضيح والأثبات، ويكفي أن نشير هنا فقط إلى أنه من خلال التعليم الأساسي والثانوي والجامعي يتم أعداد الكوادر القيادية والأدارية والأكاديمية والمهنية وهذه العملية ترتبط بحاضر ومستقبل أي بلد في العالم، ومن خلال عمل البحوث العلمية يتم تحقيق التحولات الضرورية بكل المجالات السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتقنية.

وفيما يتعلق بالوضع التعليمي في اليمن فهو في حالة سيئة للغاية نتيجة تخلف التعليم بكل مراحله واقسامه مما يعني عدم قدرته في تلبية حتى الحد الأدنى من متطلبات للتنمية، والخرجيين بدورهم لا يستطيعون مواكبة الحاضر ناهيك عن المستقبل.

فالتعليم الأساسي والثانوي في اليمن يعاني من المستوى المتدني وضعف الطالب والمعلم على السواء، والمدرسين هم في الغالب من خريجي الكليات التي يلتحق بها الطلاب الأقل نسبة في التحصيل العلمي، والذين لا يتمكنون من الألتحاق بكليات أخرى نتيجة تدني مستوى معدلاتهم الدراسية، أو الذين لا يرغبون اساساً في مزاولة التدريس ووجدوا أنفسهم مضطرين للقبول بهذه المهنة لعدم وجود فرص عمل اخرى وبغض النضر عن الحاجة في التخصص، في ظل الغياب شبه الكامل للموجهين التربويين ذوي الكفاءة والخبرة خاصة وأن الجيل الأول قد احيل غالبيتهم إلى التقاعد ولا يوجد البديل الملائم والأفضل. كما يفتقر التعليم الأساسي والثانوي في اليمن إلى المناهج والطرق العلمية الحديثة ويعتمد بشكل كامل على اساليب النظام التعليمي التقليدي التي تقتصر على تعليم القراءة والكتابة وبعض العمليات الحسابية واحياناً بهذا القدر أو ذاك تدريس الثقافة العامة المرتبطة والمتأثرة بالماظي أكثر من الحاضر والأبتعاد تماماً عن المستقبل من خلال التلقين بكم من المعلومات العامة التي لافائدة منهافي الواقع العملي.

ونتيجة لشعور الطلاب بعدم الأستفادة من الجلوس على مقاعد الدراسة والوضع الأقتصادي السيء التي تعيشه اليمن، وعدم الثقة بالمستقبل وأنتشار البطالة خاصةً داخل صفوف خريجي الجامعات والحاصلين على الشهادات العليا في ظل الغياب الكامل لمعايير الكفاءة ومبدأ تكافؤ الفرص اثناء التوظيف ومحاربة ذوي الكفاءة أدى بكثير منهم إلى ترك مقاعد الدراسة بشكل نهائي أو عدم الأستمرارية في الدوام بسبب الأنشغال في ممارسة أي اعمال متاحة لكسب الرزق وأعالة انفسهم ومساعدة أسرهم بقدر الأمكان والحضور فقط لتقديم الأمتحانات، وهذا ما زاد الأمر سوءاًبالنسبة لهؤلاء الطلاب فيما يتعلق بالتحصيل العلمي وأن كان في ادنى مستوياته.

وبالنسبة للأمتحانات ولعدم وجود الرقابة والمحاسبة خاصة وأن رواتب المدرسين ضعيفة جداً يتم شرائها بكل سهولة ويسر وهذا اصبح تقليداً معمولاً فيه منذ سنوات وخاصة خلال العشرين السنة الأخيرة في كثير من المدارس أن لم يكن غالبيتها، فمن لديه القدرة في دفع المبلغ المناسب يلاقي المساعدة اللازمة أثناء تقديم الأمتحانات ويضمن النجاح، ومن لم توجد لديهم الأمكانية يلجأ البعض منهم احياناً إلى العنف عندما لا يحصلون على المساعدة أو التسهيل في عملية الغش بدون مقابل. وحتى الأمتحانات الوزارية تتم من خلال تقديم الأجابات الجاهزة أو تسريب الأسئلة مسبقاً، واصبحت الأمتحانات مصدر دخل اضافي سواءً للقائمين على الأمتحانات أو حتى افراد الحرس المكلفين بحماية قاعات الأمتحانات.

بالنسبة لطلاب الجامعات غالبيتهم لا يهتمون بالدراسة وما يهمهم فقط هو الحصول على الشهاده بأي طريقة متاحة مثلهم مثل غيرهم من طلاب التعليم الأساسي والثانوي وللأسباب ذاتها، وأثناء الأمتحانات الجامعية تحل المسألة بنفس الأسلوب أو اساليب مشابهة لما دون الجامعة.

والتعليم في الجامعات اليمنية هو أمتداد للتعليم الثانوي ويفتقر إلى أبسط معايير النظام الأكاديمي العالمي، والمحاضرات الجامعية في الكثير من الجامعات (الحكومية والخاصة) هي عبارة عن ملخصات (ملازم) تطبع وتنسخ وتكتب بطريقة عشوائية في كثير من الأحيان، وتوزع لبيعها للطلاب في المكتبات بدون رقابة ومسؤولية اكاديمية وتحولت مهنة الأستاذ الجامعي الأكاديمية إلى عمل روتيني ممل لا أكثر، وتحول الطالب إلى آلة حفظ لجمع المعلومات، وفي الامتحانات المقررة إذا لزم الأمر يتم نقل المعلومات الخاصة بالأجابات عن طريق الغش وتنتهي العملية التعليمية عند هذا الحد.

وفيما يتعلق بالأبتعاث للخارج لمواصلة الدراسات الجامعية والعلياء يتم بشكل عشوائي ولا يعتمد على معايير منهجية للمفاضلة في أختيار الأنسب للمبعوثين من الطلاب في ظل غياب خطط استراتيجية خاصة بالتأهيل وتحديد التخصصات المطلوبة. حيث يتم أختيار الطلاب بحسب الوساطة والنفوذ ومن خلال المحسوبيات، وتلعب الرشوة دوراً مهماً في هذا الجانب وخاصة للطلاب من ذوي النسب الضعيفة أو من الذين لا تتوفر لهم الأمكانيات المذكورة انفاً.

وما يفسر اقبال الطلاب الملحوظ على الدراسة في الخارج والبقاء لفترات طويلة هناك تفوق بكثير السنوات الأكاديمية المقرة في النظام العالمي للتعليم والدراسات العليا المعمول به في جميع الجامعات يأتي بدرجة اساسية نتيجة الوضع الأقتصادي السيئ والبطالة وشحة سبل العيش المتاحة في اليمن وليس الضعف الأكاديمي وأن كان واحداً من الأسباب للبعض منهم، حيث يفضل الكثير من الشباب السفر والبقاء في الخارج وعدم التفكير في العودة إلى أجل غير معلوم، فهذا من ناحية هروب من الواقع اليمني وأن كان مؤقت، ومن ناحية أخرى الحصول على المساعدة المالية، فهي مبالغ لا بأس فيها مقارنة مع رواتب الموظفين العاديين في الداخل، بالأضافة إلى أمكانية مزاولة العمل إلى جانب الدراسة في الخارج، بل وصل الأمر احياناً إلى وجود أشخاص يتسلمون المساعدة المالية دون أن تكون لهم أي صلة أكاديمية فعلية بأي جامعة مقابل رشوات يتلقاها البعض من المسؤولين في الملحقات الثقافية في الخارج ودائرة البعثات في التعليم العالي في الداخل بوثائق مزورة، وفي نفس الوقت طلاب ملتزمون في الدراسة غالباً ما يفاجؤن بتنزيل مستحقاتهم المالية دون أن تنتهي فترة دراستهم القانونية.

وأثناء التخرج من يحصل على الوظيفة من خريجي الجامعات سواء في الداخل أو من الخارج ليس من هو الأقدم في تاريخ التخرج أو المتفوق دراسياً، وأنما من لدية الوساطة أو الدعم من جهة ما ذات نفوذ وليس مهماً التخصص وكيف حصل على الشهادة، وايضاً لمن لدية القدرة في دفع الرشوة، وقد وصلت إلى ارقام ممكن تكون خيالية لكثير من الباحثين على الوظائف العامة.

وأصبح التعليم للطالب في اليمن من أجل الشهادة والوظيفة وليس من أجل التحصيل العلمي والمعرفة. وأما الجامعات الخاصة فهي مهتمة بالجانب الربحي وغالبيتها ليست أحسن حالاً من الحكومية بل واسوأ منها بكثير.

أن تخلف التعليم وعدم الألتحاق لأعداد هائله لمن هم في سن الدراسة خاصة في السنوات الخمسة عشرة الأخيرة، وعدم الدوام في الدراسة أو الأنقطاع بشكل نهائي لكثير من الطلاب أو عدم الأمكانية في مواصلة الدراسات العليا للغالبية منهم عمل ويعمل على حرمان البلد من كفاءات محتملة يمكن أن تكون في المستقبل ، مما يضع هذا مستقبل اليمن أمام استفسارات يصعب الأجابة عليها حالياً.

أما فيما يتعلق بالبحث العلمي فالوضع اسوأ بكثير ليس فقط نتيجة ضعف التعليم الأساسي والثانوي والجامعي وهذا ما يجد له انعكاساً بهذا القدر أو ذاك على من سيكون باحثاً في المستقبل وأنما ايضاً لأن معظم البحوث فيها أن لم يكن مجملها هي تكتب فقط لخدمة الباحث، فتأتي أما استكمالاً لنيل شهادة جديدة أو لأغراض الترقيات الأكاديمية والوظيفية، أو الحصول على المكافئات المالية وليست مرتبطة بخطط التنمية الشاملة. ومثل هذه الأبحاث عادةً ما تفتقر للأصالة العلمية وغالباً ما تكون عبارة عن ملخصات لأعمال علمية لأخرين أصبح تكرارها لا يحمل أهمية علمية وتطبيقة، أو مواضيع انشائية تخل بأصول البحث العلمي ولا تلتزم بمناهج البحث العلمي.

ومن بين الأسباب ذات الخصائص الأكاديمية ايضاً التي ساعدت على ذلك غياب القوانيين الجامعية المنظمة للمقاييس الأكاديمية كضرورة مثلاً وجود أبحاث لكل أستاذ جامعي كشرط اساسي من شروط التعيين والزامية تقديم ابحاث دورية، وإنشاء مجلات علمية مختصة تتضمن نشر الدراسات والأبحاث والتقارير والدراسات الدورية ضمن برامج اكاديمية سنوية وليس خطط روتينية شكلية وبروقراطية معيقة للباحثين من ذوي الكفاءة، مما يتيح هذ استثمار المعارف العلمية المتوفرة إلى حد ما ويساعد في تفعيل العملية البحثية إلى حد ممكن. اضافة إلى ذلك عدم توفر مستلزمات البحث العلمي، وعدم توفر المناخ العلمي المناسب داخل الجامعات، وقلة الباحثين من ذوي الكفاءة وضعف أنتاجياتهم وعدم توفر المراجع العلمية العربية والأجنبية وضعف حركة الترجمة... الخ. ويأتي في الأخير قلة الأمكانيات المادية المخصصة للبحث العلمي.

وبالنسبة لتحقيق التفوق والنجاحات احياناً لبعض الطلاب والباحثين وهم قلة هو نتيجة لجهودهم الذاتية وليس نتيجه للسياسة التعلمية والأكاديمية للنظام كما قد يتصور البعض.

أن اهمية الجامعة ودورها السياسي والمجتمعي قد دفع بالقوى السياسية المسيطرة على السلطة السياسية العمل على إيجاد موالين لها ضمن هذه المؤسسة دون المقاييس الأكاديمية هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ارتفاع الرواتب وو جود بعض الأمتيازات في الجامعات ومراكز البحوث العلمية مقارنة مع مؤسسات الدولة الأخرى بأستثناء وزارة الخارجية التي هي الأخرى تعاني من الأوضاع السيئة بكل المعاني والمقاييس، دفع بالكثيرين بالألتحاق بهذه المؤسسات من خلال الرشاوي دون اي كفاءة. ولهذا هذه المؤسسات تشهد ضعف وتراجع مستمر في الأداء.

أن سوء الأدارة في المؤسسات التعليمية والبحثية الذي يكمن بجود أشخاص دون كفاءه جرى تعيينهم بدقة في هذه المؤسسات بمعايير المحسوبيات والتقاسم للوظائف العامة بين القوى المسيطرة على نظام الحكم هو اهم الأسباب الرئيسية لتخلف التعليم والبحث العلمي، وإن وجد بعض الأفراد بالصدفة أو عن طريق الخطأ المتعمد كواجهة للدعاية السياسية للنظام سواءً في الهيئات إلادارية أو السلك الأكاديمي من ذوي الكفاءة إلا أن عددهم محدود جداً ووجودهم غير مؤثر مهما تبوؤا من مراكز أو تولوا من مناصب ودائماً ما يتعرضون للمضايقات والتطفيش بهذا القدر أو ذاك.

ومن بين الأسباب العامة الرئيسية ذات الخصائص السياسية التي أثرت بشكل كبير على تخلف التعليم والبحث العلمي ممكن إيراد ما يلي:
_ نظام الفساد والمحسوبيات والأدارة السيئة الذي بدأ يتشكل منذ بداية التسعينيات. وهذا النظام بدوره عمل على تسييس الوظائف العامة وشراء الولاءات على حساب معايير الكفاءة والنزاهة بشكل عام في كل مؤسسات الدولة وفي المؤسسات العلمية والبحثية على وجه الخصوص وهذا الأخير أثر بدوره على نوعية التعليم والبحث العلمي.
_ البطالة، الفقر، والمحسوبيات أثناء التوظيف إلى جانب أنتشار الفساد في جميع مؤسسات الدولة.

بكل تأكيد اليمن كأي دولة نامية تعاني من التخلف الأجتماعي والأقتصادي والسياسي وهذا ما ينعكس دون أدنى شك على وضع التعليم والبحث العلمي. ولكن ما يميز اليمن عن غيرها من الدول النامية هو أن الدولة في اليمن دولة ريعية تعتمد على المساعدات الخارجية من منح وقروض اضافة إلى عائدات النفط والغاز وهذا ما يجعلها غير مهتمة في مسائل التنمية والتقدم الأقتصادي وبالتالي عدم الأهتمام بتطوير نوعية التعليم والبحث العلمي.

أن تطور التعليم والبحث العلمي لا يأتي من خلال زيادة فتح المدارس والجامعات ومراكز البحث العلمي وحدها، وهذه مسألة ضرورية دون جدال، خاصة مع زيادة عدد السكان وحاجة التنمية وأنما ايضاً من خلال تحسين الأداء والنوعية في نفس الوقت. صحيح أن الحكومة في نظام الفساد والمحسوبيات والأدارة السيئة خصصت ميزانية ضخمة في أطار الميزانية العامة للدولة مقارنة مع القطاعات الأخرى بأستثناء القوات المسلحة، ولكن هذا لا يعني أن الحكومة مهتمة في القضايا التعليمية والأكاديمية، لأن هذا الأهتمام يأتي اولاً أستجابة لخطط وبرامج تنموية خارجية والتي على أساسها يتم تقديم المساعدات الأجنبية في هذا الجانب على شكل قروض ومنح، وثانياً لأن الجزء الأكبر من هذه المساعدات لا يمكن الأستحواذ عليها من قبل قوى الفساد إلا من خلال القيام بتنفيذ كم من المشاريع بتكلفة أقل بكثير مما هي موضحة في البيانات الرسمية. وهذا سر القيام بأنشاء عدد من المدارس والجامعات وليس ناتج عن اهتمام النظام بالتعليم والبحث العلمي.

النظام السياسي في اليمن ليس فقط لم يهتم بقضايا تطوير التعليم والبحث العلمي وأنما أيضاً مارس سياسة التجهيل ليس فقط من خلال اضعاف مؤسسات التعليم والبحث العلمي ولكن ايضاً من خلال مكافحة الكفاءات سواءً كان ذلك أثناء التوظيف أو حتى اثناء الدراسة الجامعية أو الأبتعاث إلى الخارج، وتهميش الكوادر البحثية التي لا تتفق وسياسية السلطة. فجميع التعيينات والقرارات في الجامعات اليمنية ومراكز البحوث العلمية الحكومية تخضع بالدرجة الأولى للمعيار الأمني الحزبي والسياسي والولاء للنخبة الحاكمة وهي بعيده كل البعد عن معيار المهنية والكفاءة وهذا بدوره مما أدى إلى وجود مدراء ومسئولين في وظائف عليا غاية في الأهمية وأساتذة جامعات وباحثين اسمياً لا ينتمون إلى حقل الكفاءة والمهنية والبحث العلمي بشئ بقدر ما ينتمون إلى الجانب الأمني الحزبي والسياسي والأنتماء أو الولاء للنظام السياسي والذي بفضله تمكنوا من الحصول على هذه الوظائف والمراكز الهامة والعليا مقابل مواصلة خدمة النخب الحاكمة وتنفيذ سياساتها.

كل هذا عمل ويعمل على حرمان القطاع التعليمي بكل مراحله ومؤسسات البحث العلمي من الكوادر المؤهلة ذات الكفاءات ومن ناحية أخرى يؤدي إلى تخرج خريجين ضعفاء وتخلف وقصور في البحث العلمي إلى حد كبير.

سنوات طويلة ظل التوظيف يقتصر على الثانوية العامة تحت مبرر أن الجهاز الأداري بحاجة إلى مثل هؤلاء الخريجين وليس من حملة الشهادة العليا، أو أن الميزانية لا تسمح بأستيعاب حملة الشهادات العليا لأن رواتبهم أعلى بكثير من الرواتب التي يتلقاها حملة الثانوية العامة... الخ. أضافة إلى استخدام الأساليب الأخرى مثل ما يسمى بالمفاضلة أثناء التوظيف أو الأمتحانات الشكلية كما هو معمول فية بوزارة الخارجية....الخ. وكل هذه اساليب معروفة يعتمد عليها النظام في تبرير سياسته في التوظيف لمن يشاء وبالتحديد لعناصره ولا تقوم على اي مقاييس عادلة وعلمية.

صحيح أن عملية تطور العولمة لا تفرض فقط على الدول إيجاد انظمة قانونية حقوقية تتجاوب مع متطلبات وتيرة التطور العالمي، وأنما في احياناً كثيرة تفرض نوعية الكادر في مؤسسات الدول وخاصة ذات الصلة المباشر بالعالم الخارجي، ولعدم توفر مثل هذه الكوادر بناءً على مقاييس نظام الفساد والمحسوبيات والأدارة السيئة، يأتي حل هذه المشكلة عن طريق الأستعانة بخبراء وأستشاريين أجانب (كما حصل على سبيل المثال في النزاع اليمني الأرتيري) أو استقطاب كوادر أجنبية وهذا ما تم التبرير عنه رسمياً بالأدعاء مثلاً أن الجامعات اليمنية بحاجة إلى اساتذة وتأهيل مثل هذه الكوادر يحتاج إلى نفقات كبيرة ويحتاج لفترة طويلة بالتالي من الأفضل التعاقد مع اساتذة اجانب، أو الأعلان صراحة إلى أن المحاكم التجارية اليمنية بحاجة إلى قضاة أجانب لأن القضاة اليمنيين لا يجيدون اللغة الأنجليزية والفرنسية........ الخ، وكل هذا مبررات في عدم اتاحة الفرصة أمام الكفاءات الوطنية.

العلوم الإنسانية كمنظومة علمية متكاملة تحمل أهمية سياسية وعلمية لما لها من دور في عملية التحولات السياسية والأقتصادية والأجتماعية كضرورة معرفية لفهم الواقع ومناهج تطوره. وأمام ضرورة إجراء التحولات الديمقراطية في اليمن، تصير الحاجة إليها في غاية الأهمية. فالعلوم الأنسانية في الجامعات اليمنية ليس فقط لم تحظى بالأهتمام المطلوب وانما ايضاً عمل النظام على التقليل من شأنها بترسيخ فكرة عدم اهميتها سواءً على مستوى الطالب أو المجتمع.

أن الحد من دور البحث العلمي في العلوم الأنسانية التي تهدد النخب الحاكمة التي من مصلحتها الحفاظ على الأوضاع الراهنة التي تنسجم مع مصالحها الخاصة، سمة عامة لجميع الأنظمة السياسية المتخلفة. ونظام الفساد والحسوبيات والأدارة السيئة في اليمن ليس حالة استثنائية. فقد كانت ترى النخب الحاكمة في البحث العلمي في العلوم الأنسانية وسيلة فعالة لأحداث تغيرات ستكون مؤثرة أن لم تكن جذرية في القيم والمفاهيم ستؤثر على سياساتها وربما ستؤدي إلى تحولات ديمقراطية تهدد وجودها. ومن هنا سعت جاهدة في اعاقت دورهذه العلوم بكل السبل الممكنة والمتاحة، وبالفعل استطاعت إلى حد كبير من الغاء وظيفة هذه العلوم في المجتمع التي تقوم على المصداقية العلمية في فهم الواقع ووضع المخارج والحلول العملية التي تتعارض كلياً مع مصالحها الذيقة.

وكما يتبين من ما ورد أن الأسباب الرئيسية لتخلف التعليم بشكل عام والبحث العلمي على وجه الخصوص هي سياسية قبل أن تكون أكاديمية. وهذا يعني أن حل هذه المشكلة يحتاج إلى مدخل منظومي يقوم على ثلاث محاور تبدأ أولاً في حل المشاكل السياسية والمتمثلة بقيام دولة مدنية حقوقية ومن ثم الشروع بحل القضايا ذات الخصائص الأكاديمية من خلال أعادة بناء المؤسسات التعليمية والبحثية على أسس علمية وأكاديمية حديثة ومن ثم توفير الموارد المالية.

اضافة إلى ذلك من الضروري القيام بالأجراءات التالية:
- التحديث الشامل لمناهج وطرق التعليم العالي والأساسي وتطوير نظام التعليم والبحث العلمي بشكل عام.
- تجسيد معايير الكفاءه والنزاهه في الوظيفه العامه وتطبيق معايير الحكم الرشيد.
- حظر تعيين عناصر الأمن في الوظائف الأكاديمية.
- العمل على التنسيق مع الجامعات الأجنبية المعترف بها عالمياً وتقديم جميع التسهيلات لمن يرغب منها بفتح فروعاً لها في اليمن بنفس المعايير للجامعة الأصل، وهذا بدوره لن يساعد فقط على تخفيض عدد الطلاب المبعوثين للدراسة في الخارج والذي من شأنه التقليل من التكلفة في النفقات وأنما ايضاً سيعمل على ايجاد المنافسة الضرورية مع الجامعات الوطنية لما لهذا من دور في رفع مستوياتها نوعياً.
- القضاء على المحسوبيات من الممكن أن يأتي من خلال المركزية في توزيع الوظائف، ومن خلال إيجاد لجنة علمية تقوم بتنظيم توزيع المتخصصين من خريجي الجامعات والدراسات العليا، وتقوم بالحصر السنوي للخريجين ، واستلام نسخ من الأبحاث التي من خلالها حصلوا على الدرجات العلمية. وهذا لا يعمل فقط على الحد من شراء الشهائد المزورة سواء كانت الجامعية أو العليا وأنما ايضاً الأستفادة من هذه الأبحاث في العملية التنموية.
- أعادت التأهيل والتدريب للمعلمين والطلاب من خلال فتح مراكز في جميع المديريات لهذا الغرض.
- تنظيم دورات مهنية قصيرة لجميع الطلاب الذين لم يتمكنوا من نيل شهادة الثانوية العامة ومنحهم الشهادات بناء على تقديم أمتحانات خاصة كحالة أستثنائية.
- القضاء على الأزدواجية في التوظيف وايجاد تشريعات تلزم القطاع الخاص بالعودة إلى وزارة الخدمة المدنية لمعرفة ما إذا كان الشخص لدية وظيفة عامة ( لأن القطاع الخاص لديه الحرية في اختيار الأنسب.
- تشجيع القطاع الخاص من خلال تقديم بعض الأمتيازات مثل تخفيض الضرائب للشركات والمؤسسات الخاصة التي تقوم بتوظيف القوى العاملة المحلية رسمياً.
- تقديم الدعم المالي للعاطلين عن العمل - وفتح سجل لهم. وفي حالة ما تتوفر فرصة الحصول على عمل ويرفضها البحاحث عن الوظيفة يتوقف الدعم المالي.
- منع ممارسة النشاطات الحزبية داخل المدارس والجامعات ومراكز البحث العلمي.
- الأهتمام بمواد العلوم الأنسانية وزيادة ساعات وتوسيع دائرة تدريسها وخاصة العلوم القانونية وبالذات القانون الدولي الذي يعتبر حتى الآن في الجامعات اليمنية مادة غير رئيسية. لهذا ليس غريباً أن نجد أن غالبية كثير من القضاة والمشرعين لا يمتلكون أبسط التصورات عن قواعد القانون الدولي والأتفاقيات الدولية الملزمة لليمن وليس بأستطاعتهم حتى فكرة نفاذ القانون الدولي في محيط النظام القانوني الوطني ، ناهيك الحديث عن الدبلوماسين في وزارة الخارجية. فالقانون الدولي يحتل مكانة مهمة في جميع فروع القانون لما له من دور في تنظيم العلاقات الدولية وجزء كبير من العلاقات الداخلية للدولة ذات الخصائص الدولية وخاصة في مجال حقوق الأنسان.

ووزارة الخارجية لا تقوم فقط في تنظيم العلاقات الخارجية، ولكن ايضاً تقوم بوظائف أخرى ذات اهمية قانونية داخلية وخارجية إلى جانب الأجهزة الدولية - وهي الرقابة على تطبيق القانون الدولي كشرط ضروري لكي يقوم القانون الدولي بتأدية وظيفته الكاملة.

فالرقابة الداخلية تتعلق بتنفيذ الألتزامات الدولية على المستوى الداخلي، وخارجياً على تنفيذ هذه الألتزامات من قبل اشخاص القانون الدولي الآخرين. وهذا بكل تأكيد يتطلب اشخاص متخصصين وذوي كفاءة في وزارة الخارجية، خاصةً وأن القانون الدولي نظام قانوني معقد نتيجة لتعقد نظام العلاقات الدولية.

ونتيجة لتزايد تعداد قواعد القانون الدولي التي يتطلب تطبيقها على المستوى الداخلي للدول يتنامى دور الرقابة من قبل اجهزة النيابة والمحاكم. ومن هنا تأتي اهمية مادة القانون الدولي في كليات الشريعة والقانون وكليات الحقوق.

نمو دور العلاقات الدولية والقانون الدولي في حياة المجتمعات والأفراد بحد ذاته يجتذب هذا ايضاً الرقابة من قبل الرأي العام، وفي نفس الوقت يولد الرغبة لدى الأفراد في التأثير على العلاقات الدولية والقانون الدولي بما يتجاوب مع مصالح قطاعات واسعة من الناس. والدور الكبير في هذا الجانب تقوم به وسائل الأعلام، التي هي بعد لم تصبح مؤهلة لأن تلعب مثل هذا الدور.

وأهمية القانون الدولي في هذا الجانب تم التأكيد عليها بكل وضوح من خلال قرار اللجنة العمومية للأمم المتحدة (رقم 44/23 المؤرخ 17 نوفمبر 1989)، الذي شدد على" ضرورة تدريس ونشر القانون الدولي وتوسيع دائرة أستيعابه عالمياً..".

زر الذهاب إلى الأعلى