بمناوراتها غير المقنعة باتت روسيا «العظمى» تلعب سياسة دولية بالطريقة الإيرانية السمجة، فهي تفاجئ العالم الأسبوع الماضي بمبادرة بدت جدية، تستند إلى القانون الدولي ومجلس الأمن لتجريد النظام السوري من السلاح الكيماوي في مقابل منع حرب كانت تلوح في الأفق، موقف متفق مع مسؤولية «دولة عظمى»، فإذا بها تتردى بعد أيام، فتخرج في صورة حكومة ديكتاتور صغير يجيد الكذب والمناورة.
الإيرانيون أجادوا هذه السياسة، فهم يدعون جيرانهم إلى الإخاء والتعاون ثم يتآمرون عليهم، يتحدثون عن تحرير القدس ثم يحتلون لبنان، أما الروس فيتحدثون عن إنقاذ المنطقة والعالم من سلاح بشار الكيماوي، وهم في الحقيقة يريدون إنقاذ بشار وإطالة عمر نظامه، يخربون علاقتهم مع دول العالم بكل بلطجة.. المهم عندهم أن يبقى بشار! ليس مهماً أن نعرف ما الفائدة العائدة عليهم من ذلك، فهذه مشكلتهم، أما مشكلتنا فهي كيف سنعيش بجوار بشار لو نجح الروس في خداع الأميركيين أو تآمروا معهم هم والإيرانيين وعقدوا صفقة خلف ظهر الشعب السوري ودول الخليج، أو حتى «طفشوهم» فيبتعدوا عن سورية وكل المنطقة.
في النهاية، وبعد رحيل أميركا وابتعاد الغرب عن الحالة السورية، سنبقى نحن في السعودية والخليج وتركيا والأردن ولبنان والعراق، ووسطنا نار مشتعلة في قلب شرقنا الأوسط، تغذيها الكراهية والطائفية والظلم وتداخلاتنا الإقليمية، فما هي كلفة ذلك؟
يجب ألا نستبعد افتراض استمرار الحرب سنوات، حتى لو كان البديل للتدخل الأميركي الحاسم، رفع مستوى تسليح المعارضة، فبقدر ما نقف مع الثورة تقف إيران وحزب الله وروسيا مع النظام وأكثر، يدعمونه ليس بالسلاح بل حتى بالرجال، لم تعد مشاركة الحرس الثوري الإيراني وقائده قاسم سليماني في الحرب السورية سراً، بل باتت لهم القيادة والصدارة في أكثر من جبهة هناك، كما أن روسيا لم تلتزم يوماً بوقف السلاح عن النظام، وبالتالي فنحن أمام وصفة لحرب أهلية طويلة الأمد قد تستمر سنوات وسنوات، ولنتذكر أن الحرب الأهلية اللبنانية استمرت 15 عاماً متصلة.
ستكون لذلك تأثيرات هائلة في أمن واستقرار المنطقة، فالأمل بتوافق عربي - إيراني، يريحنا ويريحهم، سيؤجل إن لم يتلاشَ، بل إن فرص المواجهة ستزداد في أجواء الحرب وتبادل الاتهامات، كلما حققنا انتصاراً «بالطبع على الأراضي السورية» غضبوا وكان لهم رد فعل، وكلما حققوا انتصاراً فعلنا مثل فعلهم، ستؤجل المصالحة في البحرين، وستعطل الخطة الخليجية لنقل السلطة في اليمن، سيزداد إنفاقنا على التسلح والأمن.
أما محلياً فثمة كلفة على كل دول المنطقة من جراء إطالة أمد الحرب، لبنان قد يكون أول من يجر إلى أتونها، الوصفة جاهزة، والجميع واقف على الحرف وينتظر من يدفعهم، أما إن نجا من ذلك فلن ينجو من الكلفة المادية الهائلة للاجئين، والأخطر منها تأثير الوجود طويل الأمد للسوريين بلبنان في التوازن السكاني «الطائفي» الذي توافق عليه اللبنانيون منذ استقلاله، بألا يكون صغيراً جداً «فيتمرون» ولا كبير جداً «فيتسنن»، هدد اللاجئ الفلسطيني هذا التوازن فحصر في المخيم وحرم من حقه في العمل، فكان سبباً لحربه الأهلية الأولى، قس هذا بذاك واسأل ما تأثير وجود نصف مليون سوري ثري وفقير ومعدم في لبنان بعد 5 سنوات؟
الأردن أقوى أمنياً، ولكن يواجه هو الآخر تهديداً ديموغرافياً، ونصيبه من اللاجئين أكبر، مليون و300 ألف لاجئ حتى الآن، هي الموجة الخامسة من اللاجئين تصيب شرق الأردن، وبالتأكيد سيكون لها تأثير في طبيعته وتركيبته السكانية والسياسية، اللاجئون يستقرون بمرور الزمن في بلد اللجوء، يمدون جذورهم، يتصاهرون، يؤسسون مصالح وحلفاء، حتى لو انتهت الحرب بعد سنة أو خمس، سيبقى بعضهم، ثمة كلفة باهظة لذلك، والأردن ذو موارد محدودة، من المفيد أردنياً أن يطرح السؤال، كيف ستكون بلادنا لو استمرت الحرب السورية 5 سنوات؟
العراق سيسحب أكثر نحو الحرب السورية، الوضع اليوم متأزم فيه بين شيعته وسنته، وإذا كان هناك عاقل يريد تخفيف الاحتقان الطائفي، فإن استمرار الحرب هناك سيسعر منه، شيعته يتطرفون ويقاتلون هناك في صف نظام بعثي! وسنته يتطرفون ويقاتلون النظام والشيعة ويهدمون الأضرحة، بل يقاتلون حتى الجيش الحر. أكراد العراق أيضاً تنزلق أقدامهم أكثر كل يوم في سورية، ينصرون إخوانهم الأكراد الذين تهددهم «النصرة» في معركة نفوذ وليس لعرق أو دين، بينما تنظيم دولة العراق والشام يهددهم لأنه يكره كل ما هو «آخر»، في النهاية يزداد عدد اللاجئين في كردستان.
أما تركيا، فكأن أردوغان لا تنقصه مشكلات، فتطفح عليه الحرب السورية بمشكل طائفي لم تعهده بلاده من قبل، فها هي تظاهرات علوية تناوئه وترفع صور بشار، للمرة الأولى تشهد بلاده اصطفافاً طائفياً يضيف إلى مشكلات أردوغان مع العلمانيين والأكراد، مشكلة جديدة مع العلويين تهدد الوحدة الوطنية هناك، ربما إعلان الحرب على بشار أقل كلفة من حالة الانقسام هذه غير المسبوقة التي تكاد أن تأكل نجاحات الحكومة.
أما السعودية، وإن لم تكن دولة مجاورة لسورية، لتتحمل كلفة مئات آلاف من اللاجئين، إلا أن دورها القيادي في المنطقة يحتم عليها أن تتحمل كلفة من يتحمل عبء اللاجئين، فاستقرار الأردن ولبنان من استقرار السعودية، ولكن وعلى رغم القدرة المالية الهائلة لها، وما تتمتع به من استقرار فإن الربيع العربي بات مكلفاً عليها، بل إن الكلفة لا تتوقف، فالتدخل السعودي هنا أو هناك قد يعدل المسار ولكن لا يضمن النتائج ما لم يتابع، والمتابعة مكلفة، اليوم تتحمل السعودية مسؤولية تحقيق الاستقرار في البحرين، وهنا نجحت بشكل جيد، كما أن الكلفة ليست باهظة، عدا أن البحرين استثمار ذو اتجاهين فستفيد من السعودية ويستفيد الاقتصاد السعودي منها، ولكن دخلت المملكة مغامرة مكلفة في مصر، وثمة مصلحة استراتيجية لها في مصر لا تنقطع أو تتغير بتغير الحكام فيها، ولكن مصر مكلفة وتحتاج إلى معجزة اقتصادية، حريٌّ بالحكومة المصرية أن تحققها، وإن لم تفعل، لا بد من أن تهب المملكة لمساعدتها، في ظل هذه الأعباء وغيرها، تتردى الأوضاع شمالاً في سورية، وتزداد تردياً بالتخلي الأميركي والتمدد الروسي - الإيراني.
ما العمل؟ لا أحد يعرف، فالحرائق تشتعل هنا وهناك، بعضها ناتج من خطأ في التقدير، والبعض الآخر نتيجة طبيعية لتحولات الربيع العربي التاريخية، المهم الآن، إسقاط بشار وإطفاء الحريق السوري قبل أن يمتد إلى الجيران.