[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

جدل النُّخب اليمنية بين التوافق والعامل الخارجي

غدا من المسلم به لمن يرصد ويحلل الأزمة اليمنية مدى تأثير العامل الخارجي المتمثل ‏بالدول الراعية لما سمى بالمبادرة الخليجية وكذا دول أخرى كالولايات المتحدة وبريطانيا ‏وغيرهما، فبعد اندلاع ثورة الربيع العربي في نسخته اليمنية تطبعت الحالة اليمنية بخصوصية ‏ميزتها عن غيرها من بلدان الربيع العربي وقولبتها في صورة السهل الممتنع، فهي من جهة ‏جنّبت اليمن المُتخم بالسلاح والمنُجر لتقاليد وعادات جعلت السلاح جزاء من شخصيتهم بحيث ‏قيل بأن (اليمني يولد وفي وسطه خنجر)..‏

‏ ومن هنا فقد تقبّلت ووافقت اغلب ألوان الطيف السياسي(المتمثلة فيما يسمى بأحزاب اللقاء ‏المشترك) بتلك المبادرة من هذا المنطلق رغم تضحيتهم بمبدأ الحصانة لرئيس النظام السابق ‏وعدد من المتعاونين معه، وقد أظهرت الأيام المتعاقبة مدى هشاشة المبادرة والتي لم تدرك أو ‏تجاهلت طبيعة ونفسية الرئيس السابق المهووس بالسلطة وفي أي موقع قيادي فقد برز حزب ‏المؤتمر موازيا للدولة وغدا اليمن برأسين رئيس للجمهورية اليمنية وآخر رئيس الرئيس، من ‏جهة أخرى يفترض بداهة من خسر السلطة أن يبادر حزبه بتغيير قيادته تلقائيا وهذا ما يُعمل ‏به في العالم المتقدم والبلدان النامية على السواء، ومن هنا فقد أصبح المؤتمر نداً للنظام الجديد ‏ومن المفارقات انه لازال جزءاً منه الأمر الذي حيّر المراقبين وعامة الشعب على حد سواء، ‏كون النظام السابق لازال يبسط نفوذه على قاعدة قدم في السلطة وأخرى في المعارضة ! وظهر ‏المؤتمر للأسف وكأنه جزءاً من المشكلة بدلا من أن يكون جزءاً من الحل..‏

‏ من جهة أخرى فأن اغلب الأحزاب الفاعلة في المشهد السياسي المشكلة لما يسمى اللقاء ‏المشترك تلازمها أيضا أبدية رئاسة أحزابهم، ولم تبادر للتغيير آو النقد الذاتي ويكمن سبب ‏تركيز النخب والإعلام على المؤتمر لأنه اقترن برئيسه الذي جثم على صدور اليمنيون زها ‏ثُلث قرن..‏ ومن المؤسف بأن ولوج اليمنيون لأجواء التعددية الحزبية جاء متزامناً لانبلاج الوحدة ‏الارتجالية وهو الأمر الذي افرز جملة من الإشكالات لازال الشعب اليمني يتجرع مرارتها إلى ‏ألان حيث امتزجت أجواء الحرية على خلفية اجتماعية محافظة أسفرت لحالة من الفوضى ‏اقرب منها للديمقراطية متلازما مع صراع محموم على تقاسم المناصب فخلق ثقافة ممجوجة ‏أنانية وروح إقصائية لدى القيادات المشاركة في الوحدة وكذا النخُب السياسية بكل توجهاتها ‏لازالت آثاره إلى ألان، فتوالت وتراكمت المظالم والفساد في كل مفاصل الدولة وتم تهميش ‏قطاعات كبيرة لمن كان لهم الفضل في الوحدة من القيادات الجنوبية وهو الأمر الذي افرز ‏احتقانات انفجرت متزامنة مع موجة الثورات العربية رغم أن اليمنيون قد استهلوا احتجاجاتهم ‏منذ العام 2007 عندما تجاهل النظام السابق أنات وتذمُر تلك القيادات التي أقصيت بصورة ‏مفضوحة بعد الحرب الظالمة التي شنها في العام 1994م فبدلا من ترتيب البيت اليمني انفرد ‏النظام بالسلطة فتحول لعائلي جهوي متحالفا ببعض المستفيدين من كل أرجاء اليمن (ليضفي ‏على الفساد صورة وحدوية ومتساوية) !‏

حينها بدأت أحلام التوريث مقرونة بفساد مُطلق وهو الأمر الذي انعكس في مزاج اليمنيون ‏وبالذات أبناء المحافظات الجنوبية، ونتيجة استمرار أحلام القيادات السابقة سواء من الشمال ‏والجنوب والتي عبثت بمقدرات الوطن في العودة للمشهد السياسي فلا يعول اليمنيون على ‏مخرجات الحوار الذي وصل إلى طريق مسدود ولاسيما في جزئية القضية الجنوبية،ولعل من ‏جملة أسباب تصلب بعض أقطاب الحراك والتمسك بخيار الانفصال هو نتيجة استمرار هؤلاء..

‏وهاهم اليوم يتجرعون كأس المماحكات بين ذيول ذلك النظام ودهاقنة السياسة الذين يمثلون ‏أطراف القضية الجنوبية تحديدا فتصلب كل هذه الأطراف سوى من الحرس القديم الذي شن ‏الحرب ضد شركائه في الوحدة أو ضد من عرفوا بالحوثيين لم يكن ذلك حرصا على الوحدة ‏الوطنية بقدر تشبثهم بالسلطة التي لازال البعض يحلم بها حتى اليوم بالعودة بشكل أو بأخر ‏غير مدركين بتحولات المشهد اليمني وظهور قوى صاعدة غيرت قواعد اللعبة، ورغم ذلك ‏نرى جميع الأطراف المتناحرة تتطلع لما بعد الحوار وتتهافت لتظفر بكعكة السلطة ولو أجزاء ‏مجزئة من بقايا وطن .‏

فبينما يرى البعض بأن ارتهان القرار اليمني لإرادة الخارج سوى الإقليمي أو الدولي يقضي ‏على سيادة القرار اليمني فإن آخرين يرون في ذلك ميزة تكبح جِماح المغامرين الذين اثبتوا ‏عجزهم بعد تجاربهم الفاشلة على مدى عقود وعاثوا فسادا في مجتمع تم تجهيله وفقرة وزرع ‏ثقافات كادت أن تنقرض كثلاثية (القات والسلاح والقبيلة) ومن هنا فهؤلاء للأسف جزء من ‏الحل المفترض رغم أنهم سببا في المشكلة، ناهيك عن أولئك الذين يدعون تمثيل الجنوب من ‏الحراك الجنوبي المنقسم على نفسه..‏

‏ ولان تجريب المجرب يعد ضربا من الحماقة، فأن ارتهان اليمنيون في هذه الحالة يعدُ ‏فضيلة سياسية ولعل ما يُميز مألات الربيع العربي في نسخته اليمنية عن قريناته من الثورات ‏العربية البائسة في معظمها بخصوصية ثورة اليمن بالتوافق على المبادرة الخليجية بمراحلها ‏التي بلغت إحدى أهم محطاتها المتمثلة في حوار الطيف السياسي فأن الرؤية الإقليمية عند ‏انسداد أمال التوافق قد يكون إشراف الدول الراعية شيئا محموداً ففي حال ساعدت هذه المبادرة ‏لحلول تفضي للتفاهم والتوافق لإقرار دستور جديد يؤسس لدولة مدنية ديمقراطية فدرالية برؤية ‏يمنية فهذا بداهة هو ما يتمناه كل اليمنيون، وما يعكر أحلامهم سوى أولئك الذين سرقوا آمال ‏الأمة في الوحدة والتنمية، ولن تقوم لليمن قائمة طالما بقى أذيال من يسيطر على السلطة والقوة ‏والثروة يتحكم في قواعد اللعبة، وجميع اليمنيين يدركون من هى هذه القوى التي اختلفت فيما ‏بينها..‏

‏ بل أن البعض يخشى البوح بقناعاته لارتباط ذلك أما بأمنه أو بلقمة عيشه، كما لن تستقر ‏أحول اليمنيون أرضاً وشعباً إلا بالدولة المدنية التي يفترض بسط سيطرتها ويتساوى فيها ‏المواطنين في الحقوق والواجبات والعدل أساس الحكم، فالجدل الدائر منذ شهور حول شكل ‏الدولة فقد بات من المؤكد الاتجاه للنظام الفدرالي، وتمحور الجدل في رؤيتين (فدرالية من ‏إقليمين آو من مُتعتدة الأقاليم)، وبداهة فليست الوحدة سبب تعاسة اليمنيين بل من فرض هذه ‏الوحدة الارتجالية ودخلها بعقلية إقصائية وأنانية نرجسية فضة، كما أن استمرار وحدة مايو ‏التي ارتبط اسمها بالبؤس والظلم والدجل والتدليس لم يعد لها وجود في واقع الحال!، وبالمقابل ‏لن تكون الفدرالية فردوس اليمنيين المؤمل والتي ستجعل من طريق الأمة مفروشا بالورود في ‏ظل هذه الثقافة والاحتقان منذ عقود، فالإشكال في اليمن ليس في الوحدة أو شكل الدولة وكذا ‏أيهما أجدى النظام البرلماني أو الرئاسي فالعبرة بانعكاس ذلك باستقرار اليمنيون وأمنهم ‏وكرامتهم ومصدر رزقهم.‏

الأمر الأخر هو أن يدرك الجميع بأن الحوار بقدر ما هو سلوك حضاري وظاهرة ايجابية ‏أنفرد بلد الحكمة اليمانية،إلا أن بعض النُخب تعتقد بحتمية الدور الخارجي بالنظر لتفاوت ‏الرؤى الذين قد يضغطون في إتجاه حل مُعين قد لا يستسيغه البعض، وفي هذا أمران فلابد من ‏قناعة ورضاء كل الأطراف.. ومن جهة أخرى غدا أمرهم بيد غيرهم وبعبارة أكثر وضوحا ‏الارتهان لإرادة الراعي الإقليمي والدولي فبفضل نظامنا السابق غدا الوطن مرتهناً للخارج ‏وبدون مقابل سوى استمرار النظام أكثر مدة ممكنة، فمن ضمن أشكال ذلك الارتهان هو جعل ‏اليمن ملاذا آمنا لخلايا القاعدة وأوكل لليمنيون مقارعتها نيابة عن الآخرين وتلك انجازات ‏السياسة الخارجية لليمن خلال العقود الماضية.‏

يتناول البعض قضية الفدرالية من باب الإعجاب مقرونا بالتعريف بها في مجتمع يجهل ‏غالبيته تفاصيل الشكل الجديد والمفترض للدولة اليمنية وهذا إسهام رائع لنشر الوعي ولكن ‏ليس كل ما يتم التنظير حوله ومعمول به في أرقى الأمم سيثمر بالضرورة في اليمن فقد جربنا ‏الديمقراطية وشكل الوحدة الاندماجية كوجبة واحدة في عهد واحد فتصدى لها دهاقنة السياسة ‏وأصحاب المصالح الضيقة الأنانية بإقصاء الآخرين وتمحور السلطة في دائرة ضيقة يغلب ‏عليها الطابع القبلي الأسري والمصالح بين بعض رموز من هنا وهناك، فا نتجت نظام مسخ ‏فقد شرعيته رغم تطبيل الإعلام ليلا ونهار بالزعيم الفذ، وهذا ما كان للأسف فوأد الوحدة ‏وأجهض مفهوم ومعنى الديمقراطية وعبث باليمن لنحو ثلث قرن أو يزيد.‏

وحقيقة لم تحضي جزئية خلافية في مناقشات الحوار الوطني الدائر منذ ستة أشهر كما هى ‏قضية الفدرالية فبدلا من أن تكون إحدى مفردات حلول مشاكل اليمن غدت بذاتها مشكلة فقد ‏انعكس ذلك على الرأي العام والأعلام فتم تناولها من أوجه وأشكال متعددة، رغم جدل إقرار ‏الفدرالية والذي بدأ لدى البعض (فوبيا التقسيم) قد بداء كفكرة منذ الأعداد للوحدة وكان حينها ‏رائياً صائبا ولكن حماقة من قاموا بها فوتوا تلك الأفكار التدرجية فقفزوا للوحدة الاندماجية ‏دفعة واحدة مقرونا بروح إقصائية فجه، وكان لذلك محاذير ندفع اليوم ثمنها وغيرت مزاج ‏الشارع اليمني الذي كفر بالوحدة، وكانت بعض القوى الجنوبية تنادي بها بل وحتى أكثرهم ‏عتواً علي سالم البيض الذي في بيان الانفصال أثناء الحرب التي كانت تدور رحاها في العام ‏‏1994 كان يؤمن بالوحدة وتصحيح مسارها ولم يسمى دولته المقترحة التي لم تر النور بغير ‏المسمى اليمني بينما اليوم كل التيارات ترنو لأبعد من هذا ويتنصلون من يمنيتهم وكأنها عار، ‏ومن هنا يبدو أن المخرج من هذه السفسطة المصيرية ليس بالسهولة المتوقعة ومن هنا يعتبر ‏البعض الحلول الجاهزة بإيعاز خارجي أنجع الحلول رغم محاذيرها طالما تفرقت أيدي سبأ.‏

زر الذهاب إلى الأعلى