من الأرشيف

أمريكا وإيران: شتاء وأعياد ميلاد

منذ زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى نيويورك، وخطابه من على منبر الأمم المتحدة، أثناء اجتماعات الجمعية العامة الشهر الماضي، والحديث حول سريان أو احتمال سريان قليل من الدفء في شتاء العلاقات الأمريكية الإيرانية لا ينقطع في الدوائر السياسية والإعلامية على جانبي الأطلسي. لا تستند التوقعات فقط، وإن كانت تستشهد، إلى نوع من الدفء الذي ظهر في المكالمة التلفونية بين أوباما وروحاني، التي استمرت خمس عشرة دقيقة، قبل أن يودع روحاني نظيره الأمريكي بقوله بالانكليزية: have a nice day ، ويودع أوباما روحاني بقوله بالفارسية "خودا هافز" وهو ما علق عليه مراقبون بأن الرئيسين يتحدثان لغة واحدة، في محاولة لاستثمار الشيفرات اللغوية لحمل رسائل سياسية بين الجانبين، تلك الرسائل التي كشفت بعض مضامينها عبارات روحاني في نيويورك، من مثل وصفه أمريكا ب’الأمة العظيمة’ بدلاً من ‘الشيطان الأكبر’، الذي درج الإيرانيون منذ ثورة خميني على نعتها به. وكذا حرص روحاني على ‘إدانة الهولوكوست’، ووصفها ب’الفعل الذميم’ في حواره مع ال’سي أن أن’، وهي المسألة التي تعد من أسباب التوتر في علاقات إيران واسرائيل إبان فترة حكم الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد.

وبعد عودة روحاني من نيويورك إلى طهران صرح بأن حل مسألة الملف النووي الإيراني قد تأخذ من ثلاثة إلى ستة أشهر، وهي فترة وجيزة تنم عن تفاؤل الرئيس الإيراني بحل هذه القضية المعقدة، التي مضت عليها سنوات طويلة من دون حل، كما تعكس مدى رغبة طهران في رفع سيف العقوبات الغربية عن رقبتها، وهي العقوبات التي فرضت بسبب إصرار طهران على المضي قدماً في تطوير منشآتها النووية. وعلى الرغم من أن بعض الرسائل المعارضة لتوجه روحاني قد وصلته من أجنحة مختلفة في مؤسسة الحكم الراديكالي في إيران، إلا أنه في ما يبدو يحظى بدعم المرشد الأعلى، كما أن أغلبية الإيرانيين المتضررين من العقوبات الغربية على إيران تؤيد في ما يبدو كذلك- سياساته الخارجية.

بات واضحاً- إذن- توجه السياسة الخارجية الإيرانية نحو التقارب مع الغرب على أساس حل الإشكالات القائمة، على الرغم من أن إيران لا تريد أن يفهم الغرب أنها تنطلق من منطلق الضعف، كما لا تريد أن تتأثر جبهتها الداخلية بهذه السياسة الجديدة، ومن هنا يمكن أن نفهم حقيقة التناقض الشكلي في تصريحات المسؤولين الإيرانيين حول توجهات روحاني الجديدة.

ففي الوقت الذي يصرح وزير الخارجية الإيراني محمد ظريف بأن ‘فرصة حقيقية’ تسنح لحل مشكلة الملف النووي مع الولايات المتحدة والغرب، يقول نائبه عباس عراقجي إن ‘إيران لا يمكنها أن تثق بالغرب بشكل كلي، سنظل على الخط نفسه في المستقبل’، حسبما نقلت عنه وكالة فارس شبه الرسمية، وهذه رسالة ذات شقين: الأول خارجي موجه إلى الغرب بأن إيران ليست مندفعة في الاتجاه الذي بدأه روحاني في نيويورك، والثاني داخلي لطمأنة الأجنحة المتشددة في إيران إزاء المكتسبات النووية وثوابت ثورة خميني.

ومع ذلك يبدو أن قراراً ما قد اتخذ في طهران، وهو قرار صعب إلى درجة كبيرة تحتم ابقاءه طي الكتمان لحين تهيؤ الظرف المناسب للإعلان عنه، هذا القرار يدور حول أولوية القيادة الإيرانية الحالية، ومدى قدرتها على الاختيار بين طموحات إيران النووية والعسكرية من جهة، ورغبتها في رفع العقوبات لتحرير الاقتصاد الإيراني، وجعل إيران قوة اقتصادية وشريكاً عالمياً. وهذان الخياران يعكسان نمطي تفكير مختلفين داخل مؤسسة الحكم الإيرانية، أحدهما يميل إلى ضرورة الاستمرار في البرنامج النووي لما له – في تصورهذا الفريق – من مردود على مستوى الطموحات الإقليمية الإيرانية، وفريق آخر يرى عدم جدوى ذلك في ظل اشتداد وطأة الأزمة الاقتصادية الخانقة، التي زادها التزام إيران بفاتورة حرب الأسد ضد الثوار في سورية، وتذمر الشارع الإيراني من سياسات الحكومة، كما أن هذا الفريق يرى أنه بالإمكان تحقيق الطموحات الإقليمية بالقوة الاقتصادية الناعمة، التي لا تحتاج إلى القوة النووية.

في ما رشح من تصريحات بعد مفاوضات إيران مع مجموعة (5+1) منتصف الشهر الحالي في جنيف، يبدو أن الإيرانيين كسروا بعض ثوابت السياسة الخارجية لبلادهم خلال السنوات الماضية، وذلك بمناقشة خطوات تضمن عدم الاستمرار في تخصيب اليورانيوم، الذي دأب الإيرانيون على اعتباره حقاً مقدساً للشعب الإيراني لا يمكن مناقشته، ففي تصريحات لمسؤول أمريكي الاسبوع الماضي، وعقب جولة يومين من المحادثات ذكر أنه ‘لم ير خلال عامين من مشاركته في المفاوضات مع إيران هذا المستوى من المحادثات المكثفة والمفصلة والمباشرة والصريحة مع الوفد الإيراني’. بينما قال المتحدث باسم البيت الأبيض جاي كارني إن الاقتراح الإيراني أظهر ‘مستوى من الجدية والمضمون لم نشهده من قبل’.

ومع أنه لا يمكن الجزم بشيء إزاء سلوك الإيرانيين خلال الفترة المقبلة، إلا أن الإشارات الصادرة من طهران ترجح احتمال تفضيل الإيرانيين مسار ‘الطموح الاقتصادي’ مقابل ‘الطموح النووي’، الذي يبدو أن طهران بصدد الإقدام على صفقة بخصوصه. والسؤال المطروح في حال ترجيح تنازل طهران عن طموحها النووي هو كيف سيكون موقف واشنطن؟ وهل سيتجاوب الأمريكيون مع السياسة الإيرانية الجديدة؟ أم أن التجربة الكورية الشمالية في ما يخص البرنامج النووي لكوريا الشمالية ستتكرر هذه المرة بين طهران وواشنطن، خاصة إذا ما نظرنا إلى تاريخ طويل من عدم الثقة المتبادل بين العاصمتين؟

فعلى الرغم من أن استعداد طهران لمناقشة المحظورات، بما في ذلك زيارة المفتشين الدوليين للمواقع النووية الإيرانية، والتلميح إلى قبول الزيارات المفاجئة، حسب تصريحات وزير الخارجية الإيراني، وحسبما رشح الخميس الماضي عقب يومين من المحادثات، إلا أن المصادر الأمريكية ترى أنه من المبكر ‘الحديث عن وجود انفراج’، وهذا يذكرنا بتصريح سابق لسوزان رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي قالت فيه بأن ‘رفع العقوبات عن إيران لن يكون إلا بعد أن تتأكد الولايات المتحدة وحلفاؤها من أن إيران لن تنتج السلاح النووي’.

عادة ما يذهب التوصيف الكلاسيكي للعلاقات الأمريكية الإيرانية إلى أنها ‘شتاء بلا أعياد ميلاد’، في إشارة إلى سلب عوامل التفاؤل في النظر إلى هذه العلاقات التي يسودها شتاء لا يشبه الشتاء الطبيعي الذي تتخلله أعياد الميلاد. فهل سنشهد قريباً دفئاً في شتاء هذه العلاقات، أو على الأقل نوعاً من بهجة احتفالية أوعيداً بميلاد حقبة جديدة تخفف ما يراه البعض شتاء في علاقات البلدين.

برع الإيرانيون منذ القدم في نسج السجاد، وهي حرفة علمتهم الصبر والتحمل والتبصر في خيوط السجاد المتشابكة، واليوم- وعلى ما يبدو- يحاول ‘الحائك’ الإيراني أن يقوم بدور مختلف، بنسج قطعة خاصة من السجاد الإيراني تناسب إلى حد كبير المواصفات والمعايير الغربية في صناعة السجاد. فهل ستروج تجارة ‘السجاد الجديد’ في الأسواق الأمريكية والغربية؟

زر الذهاب إلى الأعلى