شعر وأدب

عُودي لِكَي يَغفُو القَمَر

إلى سيرين عزوز(1) ..أينما كانت.

أَذِنَ النَّوَى بِفِراقِنا فَانْسابِي
يَا دَمْعَتِي نَهْرَاً عَلَى أَهْدابِي
وَتَبَدّدَ الْعُمْرُ الْجَميلُ مَواجِعَاً
فَتَهَدَّمَتْ حُجَجِي عَلَى أَسْبَابِي
مَا كُنْتُ مِنْ قَبْلِ الْفِرَاقِ مُحَطَّمَاً
حَتَّى أَتَى فَلَقِيْتُ فِيْهِ مُصَابِي
سِيْرِينُ مَا نَفْعُ الْحَياةِ إِذَا أَتَى
حِيْنٌ عَلَى الْأَخَوَيْنِ كَالْأَغْرابِ
أَمُؤَرَّقانِ ، وَلَيْسَ مِنْ ذَنْبٍ لَنَا؟
ومُفَرَّقانِ، الدَّهْرَ، مِنْ كَذَّابِ؟
* * *
سِيرِينُ يَا لَحْنَ النَّقاءِ سَرَتْ بِهِ
أَنْغامُهُ عَزْفاً عَلَى أَعْصابِي
يَا بَسْمَةً مخْطوفَةً لِلِقائِنَا!
وَوَصِيَّةً نُقِشَت على العُنّابِ
يَا أَنْتِ يَا أُنْشودَتي وَقَصيدَتِي
وَأُخَيَّتي ، إِذْ خَانَنِي أَصْحابِي
يَا مَنْ لَبِسْتِ السِّحْرَ ثَوْبَاً كُلَّمَا
قُرِأَتْ طَلاسِمُهُ يَضِيْعُ صَوَابِي
يَا مَنْ تَسيْرُ فَتَسْتَثِيرُ بِخَطْوِها
حَسَدَ الْوُرودِ وَلَهْفَةَ الْأَطْيابِ
* * *
سِيرينُ يَا سِيرينُ يا سِرَّاً غَفَا
فِي الْقَلْبِ مَكْتومَاً حَبيسَ إِهابِي
سِيرينُ يا حُلُمَاً تَراءَى فِي غَدِي
وَسَفينَةً في شَاطِئِي الْمُرْتابِ
اِطْوي الشِّراعَ مَرافِئي عَطْشانَةٌ
لِمَراكِبٍ سَتَمُرُّ ذَاتَ إِيابِ
اِطْوي الشِّرَاعَ فِداكِ كُلُّ نَفيسَةٍ
مِنْ أَدْمُعي وَمَواجِعي وَرِغابي
عُودِي مِساحَةُ حُزْنِنا ضاعَتْ بِها
كُلُّ الصَّحارى وَالرُّؤَى كَسَرابِ
عُودِي لِكَيْ يَغْفو السَّميرُ مُوَسَّدَاً
كَبِدَ السَّماءِ وَتَنْتَهي أَوْصَابي
عودي لِكَيْ تَرْنُو النُّجُومُ لِشُرْفَتي
ويُزِيْلُ نورُ الشَّمْسِ لَيْلَ عَذابي
عودي بَكَى القُمْرِيُّ فِي تَغْريدِهِ
تَرْجِيعُ أُغْنِيَةٍ وَبَوحُ عِتابِ
عودي فَكُلُّ وُعودِنا مَكْلومَةٌ
وَلِمَوتِنا نَمْشي بِغَيْرِ ثِيابِ
* * *
عودي فَفي وَجْهِ السَّمَاءِ مَوَاكِبٌ
للنُّورِ لا تُخْفى بِوَهمِ سَحَابِ
عودي فِإِنَّ مَعازِفي مَحْزوْنَةٌ
وَقَصائِدِي اشْتاقَتْ جَوى زُرْيابِ
حُرِّيَّةً عُودي وعودي كَرامَةً
وَتَفاؤُلَاً يَتَجاوَزُ اسْتِجْوابِي
عودي ،كَمَا الْإِلْهامُ، فَيْضَ نبوءةٍ
وَغَمامَةً سَمْحاءَ فَوْقَ يَبابي
عودي كَما التَّاريخُ فِي صَفَحاتِهِ
أَمْجادُ قَوْمي مِثْلُ كَوْمِ تُرابِ
كَمْ شَنَّفَ الْأَسْماعَ قَبْلاً ذِكْرُها!
وَالْيَومَ تَذْروها الرِّياحُ بِبابي
اليومَ يُسْمِعُنا الرَّصاصُ دَوِيَّهُ
مِنْ كُلِّ حَدْبٍ يَقْتَفي أَسْرابي
وَيَسيْرُ فِيْنا الظُّلْمُ يُشْرِعُ سَيْفَهُ
متوشحاً بالموت، دونَ قِرابِ
* * *
وَطَنِي كَمُثْخَنَةِ الْجِراحِ أنينُهُ
وَرَبيعُهُ كَالسِّجْنِ في سِرْدابِ
وَطَني حَمَامَةُ سِلْمِهِ مَذْبوحَةٌ
وحِرابُهُ مَوْصولةٌ بِحِرابِ
مَدَّتْ على خُضْرِ الرُّبوعِ جَنَاحَها
وَدِماؤُها تَجْري بِسَفْحِ هِضابي
وَطَني أَنَا الْحَسَراتُ بَلْجُ صَباحِهِ
وَمَساؤُهُ الْآهاتُ فَوْقَ قِبابِ
وَطَني عَلَى الْأَزَماتِ يَصْلُبُ عودُهُ
وَتَزيدُهُ عَزْمَاً جِبالُ صِعابِ
وَطَني جِباهُ الْعِزِّ تَسْجُدُ دُونَهُ
وَتَزُفُّهُ لِلْمَجْدِ حُمْرُ رِكابي
وَطَني أَنَا التَّاريخُ بَعْضُ عَبِيدِهِ
وَبَلاطُهُ مُسْتَوْدَعُ الْأَحْقابِ
وَطَني كَنَهْرِ النُّورِ عَمَّ ضِياؤُهُ
وَبِمائِهِ الْعَلْياءُ سِلْكُ حُبَابِ
وَطَني حَدِيْثُ الْوَرْدِ في أَكْمامِهِ
وَمَواعِدُ الْعُشَّاقِ عِنْدَ الْغابِ
فِي كُلِّ بَيْتٍ مُهْجَةٌ مَجْروحَةٌ
وَحُشاشَةٌ تَصْلى شُواظَ عَذابِ
مَاذا أَقُولُ وَكُلُّ يَوْمٍ مِحْنَةٌ
وَمَجازِرٌ لِلْقَمْعِ وَالْإِرْهابِ؟
وَطَني عَلَى هُدُبِ الدُّعاءِ يَمامَةٌ
بَيْضاءُ تَزْهو فِي الدُّجَى كَشِهابِ
وَطَني بُحَيْراتُ النَّجيعِ عُطورُهُ
جُرْحٌ يَفوحُ وَمِثْلُهُ يَنْدَى بي
وَطَني بَأَفْواهِ الْعَذارى رَغْبةٌ
وَلْهَى تلاشَتْ غُصَّةً برُضابِ
سِيرينُ مَا نَفْعُ النَّسيبِ وشِعْرُنا
أَوْزانُهُ اخْتَلَّتْ وَقافُهُ صابي؟
سِيرينُ مَا يَشْفي الْكَلامُ جَريْحَنا
وَدِماؤُهُ كَالْجَدْوَلِ الْمُنْسابِ!
أَوْصالُهُ قُطِعَتْ و(رجْعُ ندائِهِ:
يا آبِهاً بالموتِ لستُ بآبِ..)(2)
لَنْ تَخْسَري إلَّا الْقُيُودَ فَأَقْبِلي
يَا أُمَّةَ الْأَحْرارِ لِلْإِضْرابِ
كُلُّ الْكَلامِ تَصَنُّعٌ وَتَزَلُّفٌ
لَا يَسْتَوي الْمَذْبوحُ بِالنَّدَّابِ
وَرُؤَى الْقَصائِدِ كُلُّها مَوْبوءَةٌ
حَتَّى يَصِرَّ الْحَرْفُ كَالْأَنْيابِ
سَقَطَتْ عَلَى نَعْلِ الشَّهيْدِ(مَفَاعِلُنْ)
وَعَلَى عُيُونِ الشِّعْرِ خَيْطُ ضَبابِ
إنّي لَأُعْلِنُ خَيْبَتِي وَمَرارَتي
وَعَنِ الْقصائِدِ رِدَّتي وَمَتابي
ولئن بَكيتُ أَمَامَ خَطَبٍ داهمٍ
فَعَلى الْخُطوبِ تَعَوَّدَتْ أَوْصابي
صُبِّي عَلَى كَأْسِ الْمَرَارَةِ عَلْقَمَاً
وَتَقَدَّمي كَيْ تَشْربي أَنْخابِي
سِيرينُ قد تَعِبَتْ بِبُعْدِكِ مُهْجَتِي
وَنَمَا بِرَأْسي الشَّيْبُ بَعْدَ شَبابِ
يَا أَلْفَ شَكْوى فِي الضَّمائِرِ مُرَّةٍ
مَرْفوعَةٍ لِلْقاهِرِ الْوَهَّابِ
يَا أَلْفَ آهٍ فِي الْحَنَاجِرِ لَمْ تَصِلْ
أذُنَ السَّماءِ وَنَخْوَةَ الْأَعْرابِ
الْقَوْمُ ذاتُ الْقَوْمِ لَكِنْ نارُهُمْ
مَخْبوْءَةٌ وَنَفيرُهُمْ كَسَرابِ
(أَنَا يَا "أُخيَّةُ " مُتْعَبٌ بِعُروبَتي
فَهَلِ الْعُروبَةِ لَعْنَتي وَعِقابِي؟)(3)
وَهَلِ الْعُيونُ الزُّرْقُ مَحْضُ خُرافَةٍ
فاضَتْ لِتُغْرِقَ غُصَّتي بِعِتابي؟
سِيرينُ! لَا تَبْكي فَبَعْدَكِ لَمْ يَعُدْ
لِلحَرْفِ مِنْ مَعْنى وَلَا إِطْرابِ
وَتَوَسَّدي رُوحِي وَسِيري فِي دَمي
وَمَصيْرُنا لِلْواحِدِ التَّوَّابِ

- مهند مشعل: شاعر سوري مقيم في دولة الكويت، والقصيدة من ديوان له تحت الطبع.
(1) . صحافية لبنانية، كانت من أبرز الأصوات العربية المدافعة عن القضايا العربية في فرنسا، وكانت تعاني من مرض السرطان؛ ولذلك انتقلت إلى أحد مشافي لندن، وقد تعرف إليها الشاعر في ذلك الوقت، وبعد أن انقطعت بهما سبل الوصل كتب هذه القصيدة.
(2) . من قصيدة للشاعر سميح القاسم
(3) . من قصيدة للشاعر نزار قباني (بتصرّف)

زر الذهاب إلى الأعلى