بالأمس غير البعيد، أعني أثناء الحروب الستة (16يونيو/ حزيران 2004-10 فبراير/شباط 2010 م) بين القوات الحكومية اليمنية وجماعة الحوثي وقف كثيرون سواء في أحزاب اللقاء المشترك أم خارجها أم على مستويات فردية -كما هو شأن كاتب هذه السطور- ضد منهج الحرب في حل المشكلات الداخلية، التي يمكن أن تطرح على طاولة الحوار، وأن يسمع لها حتى لو كانت بعض المطالب فيها تبدو تعجيزية.
وكان كثيرون يرون أن مايجري من استخدام جماعة (متمرّدة) للسلاح وإشهاره في وجه السلطة، وضد خصومها السياسيين، بعد نهاية كل جولة من جولات القتال، لايبرّر للأخيرة أن تدمر قرى بأكملها، وتهلك كل شيء في سبيل القضاء على خصمها، ومن ثم كان ذلك المسلك مداناً ربما أكثر من إدانة الخروج المسلّح من جماعة يفترض أنها بمجرد أن ترفع السلاح تغدو جماعة مسلّحة متمردة، يجوز للسلطة القضاء عليها ولو بالقوة المسلحّة، تماماً كما يردّد نظام التوحش السوري في دمشق وحزب الله اللبناني والحوثيون تبعاً لهما ولأمهم جميعاً (طهران) اليوم مثل هذه المقولة عن ثورة الشعب السوري، مع مايعلمه الجميع من أنه ظل ستة أشهر يرفع راية السلمية، فيواجه بالآلة العسكرية البربرية من قبل قوات الأسد وشبيحته.
غير أن ما سلكه الحوثيون منذ مابعد مجزرة الكرامة في 18/3/2011م، من استيلاء كامل على صعدة، خارج القانون، وتنصيب محافظ (غير شرعي) لها، باسم الشرعية الثورية، واستمرار ذلك إلى اليوم، رغم كل التطورات اللاحقة، وإيغال الجماعة في القضاء على كل صوت مخالف لها، من الجماعات السياسية كالإصلاح، وعناصر كثيرة في المؤتمر الشعبي العام الرافضة لمشروعها، ناهيك عن خصومها التقليديين كالسلفيين في دمّاج؛ أكّد بأن منهج العنف عنصر أساس في تكوين الجماعة، إذ هي انشقت عن جماعة الشباب المؤمن، ذات الطابع الثقافي والفكري، وقد عجزت كل التوسلات في مؤتمر الحوار وغيره عن إقناعها بالتعجيل بتسليم سلاحها السيادي، وتمكين الدولة من بسط سيادتها على المحافظة، إذا كانت تسعى حقاً للانخراط في العمل السياسي، ولاتؤمن بمنهج العنف.
لقد كان كاتب هذه السطور واحداً من المراهنين على عدم جدّية الحركة الحوثية (المسلّحة) على المشاركة في مؤتمر الحوار، وأن رضوخها لذلك إنما جاء تحت ضغط التهديد الدولي الذي أوصله إليهم ابن عمر صريحاً بأنهم سيصنفون دولياً جماعة عسكرية متمرّدة، حال الإصرار على رفضهم المشاركة، هذا إلى جانب حرجهم من بعض القيادات السياسية (الحزبية) في البلاد، مما دفعهم – على غير قناعة منهم- إلى المشاركة، ولكني كنت أتوقع أنهم بين اللحظة والأخرى قد يفتعلون مشكلة أو يوظفون حدثاً ما في أيّ من مراحل انعقاد المؤتمر، لإعلان تعليقهم المشاركة بادي الأمر، ثم الانسحاب النهائي منه، تحت ذريعة أنهم دخلوه بنية طيبة خالصة، غير أنهم فوجئوا بتحديات كثيرة، ومطالب تعجيزية لاطاقة لهم اليوم بتحملها، فلم يجدوا بداً غير ذلك الموقف (الانسحاب)، ولكنهم ظلوا ضمن قوام المؤتمر عملياً حتى هذه اللحظة، رغم محاولاتهم المتكرّرة فعل قدر من ذلك، دون الوصول إلى النتيجة النهائية المرجوّة.
ومع قرب الإعلان عن اختتام المؤتمر رأوا أن كل المؤشرات تنبئ أنه ماض إلى إعلان نتائجه، بما فيها الاتفاق على تسليم سلاح الجماعة السيادي، وبسط الدولة نفوذها على محافظة صعدة، وأنهم قد تورّطوا إذ قبلوا المشاركة ابتداء، مع ماحققوه بالمقابل من نتائج، بعضها إلى الابتزاز أقرب. ولذلك ولما لم تُجدِ كل تلك المشكلات التي افتعلتها الجماعة، أو سعت لتوظيف بعض الأحداث الأخرى في البلاد لتبرير انسحابها من المؤتمر؛ اتخذت القرار الأكثر كشفاً لوجهها الدموي العنيف، وذلكم كان قرار فتح المعركة الخاسرة الأكبر في دمّاج، بهدف القضاء المبرم على معقل دار الحديث، بما يمثل من رمزية على رأي آخر مخالف للسائد الخاضع للقبضة الحديدية في المحافظة، وقتل شيوخها وطلبتها وتشريدهم، أو اعتقالهم وانتهاك كراماتهم، بطريقة الجماعة التي غدت من الخبرة في هذه الجوانب، بما لامزيد عليه.
ومن المحتمل أن تتطور الأمور تبعاً لذلك، وفي ظل إصرار الجماعة على رفض إيقاف عدوانها غير المسبوق على دمّاج إلى دفع القيادة السياسية لاتخاذ قرار لمواجهة الجماعة، وإخضاعها للدولة. وهنا ستجد ضالتها، فتعلن انسحابها من المؤتمر،بحجة أن حرباً سابعة مبيّتة قد أعلنت ضدّها!
لقد رأت شخصيات وطنية وأفرادا كثيرون على مستويات عدّة أن في التدليل المفرط الذي تعامل به القيادة السياسية ورئاسة مؤتمر الحوار الحوثيين، قبل انعقاد مؤتمر الحوار وأثناءه، أمراً تجاوز نطاق المعقول أبداً، ولا بد من وضع حدّ لذلك، إذ إن الاستمرار في ذلك المنهج يمنح الحوثيين مزيداً من الزهو، للمضي في منهج الغطرسة والعنف، الذي تزايدت حدّته ضد خصومها السياسيين في صعدة- بوجه خاص- أثناء انعقاد المؤتمر، وقبل أن يبدأ الحوثيون في إعلان معركة دمّاج الأخيرة، على نحو مايجري اليوم من عدوان متواصل، يستخدم فيه الحوثيون السلاح الثقيل بمختلف أنواعه، بما في ذلك الدبابات وراجمات الصواريخ، مع ارتداء الزي العسكري الرسمي، واستعمال العربات العسكرية، لميليشيات خارجة عن القانون، ضد جماعة سلمية لامجال للمقارنة بين قدراتها وإمكانات جماعة تغولّت على السلطة بكل إمكاناتها؛ إلا أن ذلك لم يغيّر من مسلك القيادة السياسية، ولا رئاسة مؤتمر الحوار تجاه الجماعة شيئاً، واكتفت باستمرار أعمال لجنة الوساطة، مع تغيير فني فيها، بغية تفويت الفرصة على الجماعة، كي لا تتنصل من قرارات المؤتمر، وتعلن انسحابها في المحطة الأخيرة من أعماله! لكن ذلك لم يجد شيئاً كذلك بل دفع الحركة الحوثية المسلّحة للمضي في قرار الحرب ومسلسل العدوان في دمّاج، دونما التفات إلى أنهم وقعوا على قرارات في المؤتمر تدين العنف، وتؤمن بمنهج السلم، وتلزم بالعمل المدني، وهو مايسعون – فيما يظهر- للتنصل منه، مع أنهم لطالما أطلقوا مثل تلك العناوين في مناسباتهم المختلفة، لكي تطير مع الهوى، بمجرّد إطلاقها، وكي يبقى منهج العنف ولغة السلاح المنهج (الحاكم) الفعلي على الأرض.
في ضوء هذا العنف الذي تمضي في مشروعه اليوم جماعة الحوثي في شمال الشمال، والقاعدة في جنوب البلاد، حيث تتدثر الأولى برداء التشيع، فيما تحمل الثانية لواء التسنن؛ فإنّه لامفرّ لليمانيين من الاختيار بين ثنائية التعايش الحقيقي المجسّد على الأرض، القائم على أساس قواسم الدين العامة، وثوابت المجتمع والوطن اليقينية، وبين خيار الانكفاء على الذات، والتمترس وراء الأطر الضيّقة، والدعوة – من ثمّ- إلى مواجهة مسلّحة لكل مختلف معنا في الاعتقاد أو الفكر أو السياسة، وذلك يعني إعلاناً مفتوحاً لاحتراب أهلي لايبقي ولايذر – لاسمح الله-.
إنّه مع تأكيد الخلاف مع جماعة الحوثي - وكذا القاعدة من قبل- في شأن منهج العنف الذي يميّزهما كسمة جوهرية، فإن ذلك ليس لأن إحداهما جماعة شيعية زيدية (جارودية) تقترب أو حتى تتطابق مع مذهب الجعفرية الإمامية الاثنى عشرية، إذ الأخرى سنيّة سلفية، مع أن الموقف من كليهما واحد، من حيث الرفض وإعلان الإدانة، وذلك بالنسبة لكثيرين منهم كاتب هذه السطور. وإذا ما تخلت كلتاهما عن منهج العنف حكماً للنزاع مع السلطة أو غيرها، فليس أمامنا جميعاً من سبيل سوى منهج التعايش – رغم الخلاف- مادام ذلك أمراً خاصاً بعقيدة أيّ منهما التعبدية، إذا غدت كلتاهما تعلن التزامها بالدستور والقانون، وتؤيد أن كل مسلك يتعارض معهما يعرّض فاعله للمساءلة القانونية.
من هنا ولأن حديثنا اليوم عن هذا العنف المتوحش في دمّاج من قبل جماعة الحوثي المسلّحة فإن التأكيد جدير هنا على أن المشكلة معها ليست في مذهبها الخاص، أو أيديولوجيتها التعبدية المميزة، إذا تخلّت فعلياً عن المضي في منهج العنف، وتركت نشر ثقافة الكراهية، والاعتقاد بالتميّز السلالي، الذي تطفح بها أدبياتها المنشورة، وفي مقدّمتها (الوثيقة الفكرية والثقافية)، التي نشرت أثناء الثورة في ربيع الأول 1433ه - فبراير 2012م، بتوقيع رموز جماعة الحوثي وسواهم وفي مقدّمتهم عبد الملك الحوثي، وكذا التخلّي عن القدح المعلن في رموز الأمة العظام، وفي مقدّمتهم كبار الصحابة وخلفاء الرسول – صلى الله عليه وآله وسلّم الثلاثة- وأم المؤمنين عائشة - – رضي الله عنهم جميعاً- كما تكشف عنه بجلاء ملازم مؤسس الحوثية الراحل حسين بدر الدّين الحوثي.
آمل أن يدرك الجميع أن هذا العنف الذي تقوده جماعة الحوثي المسلّحة اليوم بدمّاج لاعلاقة له بالمذهب الشيعي الزيدي الهاوي، أو الجارودي، أو حتى الإمامي الجعفري، بل كان وسيظل سياسياً بامتياز، ولكنه يتدثر برداء التشيع المذهبي لتحقيق مشروعه في الهيمنة ليس أكثر، مع أنه تشيع سياسي، أو طائفية سياسية، إن كان لا مناص من توصيفه في إطار العناوين المشاكلة. والشواهد على ذلك كثيرة غير أن أهمها – في هذه العجالة- شاهد خصومة الحوثيين مع الحوثيين أنفسهم؟ أعني الصراع المسلّح بين أولاد العلامة الراحل بدر الدين الحوثي مع ابن عمومتهم العلامة محمّد عبد العظيم الحوثي، حيث يهجّرونه من دياره، ويقتلون أتباعه، ويطاردونهم، وذلك قبل الدخول مع السلفيين في مواجهات مسلّحة منذ العام1432ه-2011م .
ولذلك لم يعد مستغرباً أن يصرّح محمّد عبد العظيم في ذات حوار معه بأن جهاد أبناء عمومته الحوثيين" أفضل من الصلاة، وأفضل من جهاد اليهود، وأنهم أخبث من إسرائيل ، وأضرّ على الإسلام " ( محمّد عبد العظيم الحوثي، حوار مع صحيفة الأهالي(اليمنية) (أجرى الحوار مهدي محسن)، العدد (170)، 1/1/1432ه- 7/12/2010م ، ص9)، مع أن محمد عبد العظيم لا يختلف عن عقيدتهم إلا في الجرأة ورفض المراوغة، ومسلك النفاق السياسي، أو ما يسميه البعض (الديبلوماسية)، بل يصرّح في الحوار السابق ذاته بأنهم اختطفوا منه عنوان الحوثية، إذ هو الحوثي الحقيقي، وأولئك دخلاء وطارئون، لكن حربهم مع الحكومة ساعدت في اشتهارهم بذلك العنوان (المرجع السابق، ص 8)!!
من هنا فلا أحسب أن رفع عنوان (الرافضة المجوس)، من قبل السلفيين أو سواهم، كرد فعل مقابل لشعار (النواصب الوهابية) من قبل الحوثيين ومن على شاكلتهم، أو شعار عمر... عمر... عمر ... مقابل حسين ...حسين...حسين...، أو الإيغال المتبادل في تعظيم أو ذمّ بعض الشخصيات المثيرة للجدل في تاريخنا القديم أو الحديث، أو تكرار المناداة ب(جماعة الصحابة)، مقابل جماعة (آل البيت)، أو سوى ذلك من الشعارات العصبوية التي تبثها – بوجه خاص- قنوات التخلف والجاهلية باسم أهل السنّة مثل: صفاء أو وصال، أو التشيع مثل: أهل البيت أو الكوثر، أو سواها، الغارقة جميعها في التسييس والتبعية المكشوفة لأنظمة سياسية إقليمية معروفة الأجندة والأهداف والمشاريع. لا أحسب أن شعارات أو عناوين كهذه تحل المشكلة، أو تدفع أي طرف للقدرة على الحسم، وإلغاء الآخر، بل تذكي مزيداً من الصراع، وتورث مزيداً من الأحقاد، لتتناقله الأجيال، فتسعى تلك الأنظمة – من ثمّ- لتجعلنا ندور في حلقة عنف مفرغة، إلى أمد لا يعلم نهايته إلا الله، كي تبقى الراعية لهذه المشاريع (الجهنمية)، في مأمن عن ثورات التغيير، حيث يشتغل كل طرف في بلداننا بالقضاء على أخيه، في مجتمعه، وستجد في وضع التغيير الذي حدث، فزّاعة جديدة، ضد شعوبها، وكأن هذا الصراع نتيجة حتمية للتغيير الثوري الجديد، فيما يستمر لها الحكم والوصاية على العالمين!
* أستاذ أصول التربية وفلسفتها- كلية التربية- جامعة صنعاء