أرشيف الرأي

متاهة اليمن.. بين حلم المدنية ودُول الطوائف

ليس لدى اليمنيين اليوم سواء الأمنيات والتفاؤل والجري وراء سراب التوافق بعد أن تفرقت ‏أيدي سبأ ويراهن البعض بأن (مقولة اشتدي يا أزمة تنفرجي)، قد تُطبق في بلد الحكمة ‏اليمانية، فاليمن ابتلِت في العقود الأخيرة بحكام مغامرون جعلوا من شعبهم حقل تجارب سواء ‏في شطره الشمالي أو جنوبه وكانت مطلع التسعينيات فرصة لليمنيين المتطلعون لدولة مدنية ‏يتساوي فيها الجميع وتزامن ذلك بدستور الوحدة الذي يؤكد على التعددية الحزبية وجاءت ‏الوحدة الارتجالية مع الحزبية في مجتمع محافظ كوجبة واحدة ولم يكن ذلك سوى في الشكليات ‏دون التعمق في مضمون تلك الحريات فغدت فوضى وفرخت السلطة أحزاب مواليه تسير في ‏فلكه تزامن ذلك بسياسة رعنا مفادها (فرق تسد) فكانت السلطة ترمي من ذلك تضارب وتباين ‏الأفكار ليبقى النظام في ظل أجواء ديمقراطية مزيفة لم يستفد اليمنيون منها شيئا وإنما غدت ‏مجرد تجميل للنظام الحاكم شأنها شأن خطوات أخرى شكلية كتوزير المرأة وما شابه ذلك من ‏مجملات الأنظمة الدكتاتورية..‏

‏ وهانحن اليوم نحصد نتيجة ذلك التخبط والسياسة التي لا تستند للمشورة أو مراكز بحوث ‏ودراسات وهاهي الدولة اليمنية مُنهكة اليوم وفي أسوأ حالاتها تتآكل وتفقد هيبتها وسلطتها ‏حتى على العاصمة ومركز الدولة المركزية في إداراتها الضعيفة في بسط نفوذها وهذا ليس ‏فقط في الآونة الأخيرة ولكن منذ أكثر من ثلث قرن عندما قفز إلى السلطة وفي غفلة من الزمن ‏العابثون بمقدرات الدولة اليمنية وزرع الفتن في أكثر من بؤرة وادخل اليمن في حروب ‏خاسرة..‏

ولعل الزمن يعيد نفسه ففي تاريخ اليمنيين وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر عاشت ‏اغلب المحافظات الشمالية حالة شتات وتفرق وبروز أكثر من أمام في عصر واحد وهو ما ‏يخالف المعتقد الزيدي نفسه وسميت بسنوات (الفلتة) لدرجة أن عقلاء اليمن شدو الرحال ‏لعاصمة الدولة العثمانية الأستانة يطلبون من سلطانها التدخل لبسط الأمن فعاد الأتراك مرة ‏ثانية فيما سمى بالاحتلال العثماني الثاني والذي بدأ في نهايات النصف الأول من القرن التاسع ‏عشر ولم ينتهي إلا برحيل الأتراك ضمن إجلائهم من بعض البلدان العربية التي خضعت ‏للسيطرة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى..‏

‏ والتاريخ يعيد نفسه بصيغ مختلفة فبعد أكثر من نصف قرن من ثورة اليمنيون على النظام ‏الملكي هاهم تائهون يبحثون عن هوية وهاهي الظروف مواتية لإصلاح ما أفسده الدهر عبر ‏الحوار الوطني، وبعد أكثر من نصف عام على انطلاقه والذي وصل لعنق الزجاجة عند ‏معضلة القضية الجنوبية ولعل الانطباع السائد بأن مزاج العام للرأي العام اليمني عموما ‏والنخب المتحاورة على وجه الخصوص يتجه لإقرار صيغة تعاقدية لتأسيس دولة فدرالية..‏

وفي هذه الأيام التي تسبق الجلسة الختامية والتي تأخرت عن الموعد النهائي المفترض وذلك ‏لعدم التوافق وسمحت للتسريبات والاجتهادات في الفضاء الإعلامي وثورة المعلومات غدا ‏المتابع والمراقب وأي مواطن يعرف كل شاردة وواردة فيما يدور في أروقة (الموفبيك ) يوعز ‏البعض تشنج بعض أطراف الحوار من الحراك الجنوبي هو بسبب بقاء نفوذ النظام السابق ‏والذي لازال يناور حتى اليوم ويعيد إلى ذاكرتهم مأسي ومظالم الفترة التي أعقبت حرب ‏‏1994م مع أن أهداف الحوار هي من اجل طي صفحة الماضي بحيث لا تتكرر مثل تلك ‏الحماقات سواء في جنوب اليمن أو شماله في صعدة، ومن هنا فيأمل الكثيرون من بعض من ‏يدعي تمثيل الجنوب إعادة النظر في مواقفها المتشنجة والعمل على تجاوز هذه الأزمة المفتعلة ‏بعيداً عما يتربص به من كوارث ومشاريع تفتيت، تحاول أطراف عدة تغذيتها، إذ في غياب ‏الوحدة يتجه اليمن نحو المجهول..‏

‏ وفي المقابل لابد للجميع استيعاب أن الحل لن يكون إلا في نظام يتعايش فيه كل اليمنيون، ‏نظام يتخلص من فكرة الإقصاء أو النظام الشمولي بل دولة مدنية قوية وعادلة تحوي وتضم ‏كل الشعب، ومن مساوئ المرحلة هو تطرف بعض أطراف الحوار ولاسيما من يدعون ‏تمثيلهم للحراك الجنوبي وإصرارهم على القفز للمجهول،في نهاية جدل النخب اليمنية يُخشى ‏ان يتمخض الحوار ليلد انفصالا ناعما فبدلا من تحول ثورة الشعب اليمني المقهور ضد الفساد ‏والمفسدون إلى رؤى من شأنها البحث عن ما وراء الأسباب والسعي لتقنين وتشريع أسس ‏دولة مدنية يتساوى فيها اليمنيون في الحقوق والواجبات تراهم وفي أجواء متوترة واحتقان ‏الماضي يهرولون نحو المجهول بإقرار الفدرالية دون التعمق في نتائجها وسط شعب تاه بين ‏ضبابية المفاهيم وسياسة التجويع والتجهيل وتراهم يعاقبون الأرض بالتقسيم بسكاكين دهاقنة ‏السياسة..‏

‏ في هذا السياق يقول الأديب خالد الرويشان (إذا زعق زاعق بفكرة الأقاليم فأن غابة السياسة ‏اليمنية تشتعل بالسكاكين والفؤوس، وكل يقطع ويقلم على هواه، دون أن يسأل أحدا نفسه، هل ‏هذا هو الحل؟ ولماذا أقاليم في جنوب البلاد ومثلها في شمال البلاد ؟ وهل وراء الأكمة ما ‏ورائها ؟ الم يكن الفساد والفاسدون السبب الرئيسي في كل ماسينا؟ وأن الأرض والشعب كانا ‏ضحية ذلك الفساد والمفسدين فلماذا نعاقب الأرض بالتقطيع، والشعب بالتقليم.؟)‏

لعل من نتائج التحولات التي أفرزتها ثورات الربيع العربي جملة مفاهيم لم تكن متداولة ‏بنفس الجدية والحدة التي تطرح اليوم من ذلك الفدرالية وتقسيم المجزأ أصلا ومثلما قدمت ‏الديمقراطية للشعب اليمني متزامنة مع الوحدة كوجبة واحدة تقدم له الفدرالية في أجواء حوار ‏متوتر بعد سنوات من الظلم والإقصاء والعبث بمقدرات الامة، فهذا الشعب الذي غدا حقل ‏تجارب لمراهقي السياسية كان قبل التسعينيات ينظر للحزبية ملازمة للارتهان للخارج ‏والخيانة فكانت تجرم من يتحزب وتداول اليمنيون مقولة من تحزب خان، وغدت بين عشية ‏وضحاها مفروضة ففرخت أحزاب وأسئ استخدام تلك القيم وغدت مقرونة بالفوضى والعبث ‏وهاهو الشعب نفسه الذي لُقن مفاهيم (الوحدة المقدسة) أو (الوحدة أو الموت) وفي الجنوب كان ‏تلاميذ المدارس يتغنون بحلم الوحدة في كل طابور صباح! ومن المفارقات فقد بات يتجه ‏لمفاهيم أخرى ويُزين له الفدرالية دون أن يفقه البعض ما تعنيه !‏

لقد حان الأوان لاقتناص فرصة تاريخية جديدة ومتاحة للم الشمل حول طاولة الحوار فليثبت ‏الحريصون على وطنهم ووحدته من خلال التوافق وإيجاد صيغة لدولة لامركزية ولو في شكل ‏المحافظات السابقة، وكيف يُراد لمعضلات اليمن وفق مفهوم فداويها بالتي هي الداء، فالفدرالية ‏بداهة ليست وصفة سحرية تفرش طريق ومستقبل اليمنيون بالورود وتتلاشى مشاكلها بمجرد ‏إقرارها، فالإشكال الجوهري هو غياب الدولة المدنية عندما عبث أطراف الوحدة باليمن ‏واليمنيون منذ إعلانها ودخلوها بروح إقصائية وبنيّات مبيتة..‏

وعندما خلت الساحة اليمنية لمن استفرد بالسلطة لم تتاح لحاكم يمني قبله فرصة تاريخية منذ ‏نحو قرنين فحكم أكثر من آل حميد الدين وحظي بإمكانيات مادية هائلة مقارنة بسابقيه فالنفط ‏لم يسخر لبناء مقومات الدولة كما ينبغي بل قسم حصص والوطن حول لمزرعة خاصة ناهيك ‏عن الدعم الدولي والنتيجة فقر مدقع وشظف العيش وفساد مطلق في كل مفاصل الدولة وجعل ‏الوحدة مقرونة بالبؤس والظلم والقهر والإقصاء، فمن يعيد ثقة الناس بتلك القيم التي خلت من ‏مضامينها كالوحدة والديمقراطية، ناهيك عن مفردات مستحدثة الفدرالية، ام إننا ندخل نفق آخر ‏غير مجهول المعالم.‏

زر الذهاب إلى الأعلى