من الأرشيف

الحوثيون ودماج… لماذا الآن؟

دماج بلدة يمنية صغيرة، تتبع محافظة صعدة في أقصى شمال اليمن ، ويقطنها عدد من القبائل اليمنية ذات التوجه السلفي المحسوب غالباً على السعودية، وقد برز اسمها إلى سطح الأحداث السياسية والعسكرية خلال الأيام القليلة الماضية، بسبب تعرضها لقصف مكثف بأنواع الأسلحة الثقيلة من قبل الحوثيين ذوي التوجه الشيعي المقرب من إيران، الذين باتوا يسيطرون على معظم محافظة صعدة في شمال اليمن، ولا يزالون يحاولون السيطرة على دماج، واخضاع خصومهم السلفيين بالقوة. فما هي دماج؟ وما حكايتها؟

قبل أكثر من ثلاثين عاماً أسس الشيخ مقبل الوادعي المنتمي إلى دماج، الذي كان مختصاً بدراسة الحديث وعلوم الجرح والتعديل، بعد تحوله من الزيدية إلى السلفية، مركز 'أهل الحديث' ذا التوجه السلفي في منطقة دماج بمحافظة صعدة. وقد عرف عن الشيخ الوادعي أنه لا يتدخل في السياسة، بل ويحرم تأسيس الأحزاب السياسية والدخول في لعبة الانتخابات، جرياً على عادة السلفية التقليدية، التي لا ترى في الأحزاب السياسية أكثر من عوامل تجزئة لوحدة الأمة، وبالتالي دخولها في صراعات لا تنتهي.

كما عرف عن الوادعي هجومه اللاذع على الأحزاب السياسية الإسلامية المنبثقة عن تيار الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى نقده لأعمال الجماعات الجهادية في اليمن وغيرها. غير أن مراجعات سلفية عديدة تمت خلال السنوات الماضية بفعل تأثر السلفيين في اليمن بالأحداث من حولهم، وبدافع الدخول للعمل السياسي، هذه المراجعات أدت إلى انقسامات داخل 'الصف السلفي'، بين من يحرم تشكيل الجمعيات والأحزاب السياسية، ومن لا يرى ذلك من تلاميذ الوادعي قبل وبعد رحيله، وقد أثمرت هذه المراجعات مؤخراً تأسيس حزب سياسي ذي توجهات سلفية باسم 'الرشاد اليمني'، يشارك في مؤتمر الحوار الوطني الحالي في البلاد.

ورغم التحولات السياسية والاجتماعية الهائلة التي حدثت خلال السنوات الماضية، إلا أن التيار الرئيسي الذي أسسه الشيخ الوادعي، والذي يقوده اليوم تلميذه الشيخ يحيى الحجوري، لا يزال يتمسك بأفكار الوادعي حول الانتخابات والأحزاب السياسية، حيث عرف عن الشيخ الحجوري تقيده بمنهج شيخه الوادعي في تحريم الدخول في لعبة الأحزاب السياسية والانتخابات، بل إن الحجوري أفتى سابقاً أتباعه بمنع الدخول في مواجهات خارج دماج مع الحوثيين، رغم الهجمات الحوثية المتكررة على المنطقة، حيث يرى الحجوري أن مهمتهم نشر 'علوم الحديث' وليس المنافسة السياسية، والدخول في مواجهات مع الغير، كما أنه رفض مساعدة عناصر من تنظيم 'أنصار الشريعة' المرتبط بالقاعدة، في مواجهته للحوثيين، على اعتبار أن القاعدة مجموعة متطرفة تقوم بأعمال مخالفة للشريعة الإسلامية.

غير أن الهجمات الحوثية المتكررة للسيطرة على منطقة دماج، ومحاولات إخلائها من الوجود السلفي، ربما ساعدت على تحول أهل دماج إلى اختيار طريق العنف دفاعاً عن أنفسهم، مع الأخذ في الاعتبار أن غالبية أهالي المنطقة – إذا ما استثنينا الطلبة الأجانب- مسلحون أصلاً تسليحاً جيداً، مثلهم مثل غيرهم من القبائل اليمنية، وهو ما جعل مهمة الحوثيين صعبة في اقتحام المنطقة التي تداعت لنجدتها أطراف سلفية عدة من أماكن مختلفة في اليمن، وهنا مكمن الخطورة، حيث تقترب الصورة من حالة الصراع المذهبي الذي لا يبدو أن أحداً يريده في البلاد.

ومع استمرار المواجهات في دماج، يخشى فعلاً من دخول مجموعات مسلحة أخرى، على خط الصراع في دماج، وقد أشار تقرير نشرته صحيفة 'القدس العربي' لمراسلها في صنعاء قبل أيام إلى مخاوف النخب السياسية من نشوء جماعة مسلحة جديدة في صعدة، مما يمكن لعناصر القاعدة من الدخول على خط المواجهة، وهو بالطبع آخر ما يمكن أن يحتاجه اليمن في هذه الفترة المليئة بالإشكالات السياسية والأمنية والاقتصادية المعقدة.

وفي سياق المواجهات الحالية في دماج، يمكن للقارئ للأحداث أن يلحظ أنه بعد أن تمت للحوثيين السيطرة شبه الكاملة على محافظة صعدة، عقب اندلاع أحداث 'ثورة الشباب' في اليمن ضد نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وبعد ارتخاء القبضة الأمنية للنظام على المنطقة، مطلع العام 2011، حاول الحوثيون أكثر من مرة التخلص من الوجود السلفي في المحافظة، ليفرضوا حسب تصورهم سياسة أمر واقع مع اتجاه 'الحوار الوطني' في اليمن نحو نتائجه الختامية، التي ربما يرى الحوثيون أن كثيراً منها لا تصب في مصلحتهم، بعد أن تم التوافق ضمن 'فريق عمل صعدة' المنبثق عن مؤتمر الحوار على 'عودة صعدة إلى سلطة الدولة وقيام الحكومة بواجباتها في المحافظة، وعودة مئات آلاف النازحين الذين هجرهم الحوثيون إلى مناطقهم في صعدة، ونزع الأسلحة الثقيلة'، الأمر الذي يعني بالنسبة للحوثيين خضوع ما يرونه 'الإرث التاريخي لدولة الأئمة الزيديين' من جديد لسلطة الدولة والجمهورية، وضياع مكتسبات سياسية وعسكرية حققوها خلال ست جولات من الحرب التي بدأت عام 2004 مع نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح.

وقد لوحظ خلال المواجهات بين السلفيين والحوثيين في دماج، أن الحوثيين كانوا يحرصون على إيصال رسالة إعلامية تتضمن شراسة الهجوم الحوثي على المنطقة، على غير عاداتهم في مواجهاتهم مع النظام السابق، حيث كانت رسائلهم الإعلامية تشير إلى أنهم جماعة معتدى عليها، وتقف في موقف الدفاع عن النفس أمام كثافة نيران قوات الجيش اليمني. أما في حالة ضرب دماج خلال الأيام الماضية فلم يأبه الحوثيون كثيراً للرسالة الإعلامية التقليدية، بل على العكس، حرصوا على توجيه رسائل إعلامية نارية ، توازي حجم الكثافة النيرانية على دماج.

ويرجع حرص الحوثيين على الظهور بمظهر القوي المسيطر في معارك دماج إلى عدة أسباب، يأتي في مقدمتها حسب تصوري، محاولة إيصال رسالة إلى قبائل محافظة صعدة، التي تشير تقارير إلى تململها من سيطرة الحوثيين على محافظتهم، حيث يخشى الحوثيون من تأثر القبائل المجاورة بصمود قبائل دماج، ومن ثم القيام بعمل مسلح للتمرد على الحوثيين الذين فرضوا أنفسهم بقوة السلاح على قبائل المحافظة.

كما أن الحوثيين في ما يبدو يسعون كذلك، بمحاولة إخلاء الوجود السلفي في المحافظة، إلى إنشاء 'مربعهم الأمني' الخاص في صعدة أسوة بحزب الله اللبناني، الذي نجحت سياسته في اعتماد 'المربعات الأمنية' في الحفاظ على كوادره ومؤسساته إلى حد ما في مأمن من الاستهداف الأمني. ويرى الحوثيون في الوجود السلفي في المحافظة عائقاً يحول دون تحقيق هذا الهدف، بعد أن تم في سبيل تحقيقه طرد مئات الآلاف من المحافظة ممن لا يتفقون وسياسة الحوثي وتوجهاته.

وعلى الجانب السياسي، أراد الحوثيون كذلك، إيصال رسائل إلى المشاركين في مؤتمر الحوار الوطني، بأن نتائج المؤتمر ينبغي أن تتوافق مع قوة الأطراف المشاركة فيه، على اعتبار أنهم من الأطراف القوية التي يمكن أن تعرقل سير عملية الحوار الذي لا ينبغي لنتائجه أن تتعارض مع توجهاتهم. وهناك أيضاً احتمال أن جماعة الحوثي سعت من خلال تفجير الوضع في دماج إلى جر الدولة إلى جولة سابعة من المعارك لكي يجدوا منفذاً للتخلص من التزاماتهم إزاء الحوار الوطني، ومن ثم الانسحاب منه نهائياً، حسب اتهامات الجانب الرسمي لهم، أو أنهم على الأقل يسعون إلى سرعة حسم المعركة وتصفية الجيب السلفي الموجود في صعدة، لتتشكل في أيديهم ورقة ضغط قوية يلعبون بها قبيل نهاية الحوار الوطني كما ذكر.

وفوق كل ذلك، لا يمكن إغفال العوامل الخارجية التي تنعكس بدورها على الداخل اليمني، فالصراع الدائر في سورية، وحالة الاستقطاب الطائفي التي يشهدها الشرق الأوسط، والتنافس السعودي الإيراني على قيادة الأمة الإسلامية، كل ذلك في تصوري تم استدعاؤه مع نيران الأسلحة الثقيلة التي قصفت بها دماج خلال الأيام الماضية، والتي مزجت الرسائل المحلية بالخارجية، تماماً كما تشابك في تفسيرها المحلي والخارجي بشكل وثيق.

زر الذهاب إلى الأعلى