بضعة أسابيع تفصلنا عن النهاية المفترضة لنهاية الحوار السياسي الوطني الشامل في اليمن الذي انطلقت فعالياته في مارس الماضي، والراصد لسير الحوار الذي بدأ بصورة حماسية وأجواء تفاؤلية، مدفوعاً بمباركة اليمنيين الذين أنهكتهم الصراعات والمعاناة اليومية وتطبعوا بحالة اليأس والقنوط المقرونة بسوء الخدمات وحالة الفاقة والعوز والفوضى وتأكل مفاصل الدولة بل وغيابها، والفلتان الأمني وتناحر اليمنيون مذهبيا في مشهد لم نألفه من قبل.
وما أن أوشكت نهاية الحوار على نهايته حتى طفت على السطح خلافات كادت أن تطيح بأخر أمل يعول عليه اليمنيون حيث لوحظ أطراف الحوار ومن ورائهم القوى التابعين لها من كل الوان الطيف السياسي كلا ينطلق من مصالحة الضيقة وبنزعة أنانية في استحواذ الآخر وإقصاء خصومة والخروج بأكبر قدر ممكن من كعكة السلطة حيث يتهافت القوم بصورة مفضوحة، في هذه الأجواء تعثر الحوار في أهم مفاصله وهى القضية الجنوبية، متزامنا مع لغط تشريعي لنصوص غدت مقدسة وحور مفاهيمها وغايتها لان الجميع ينطلقون من خلال مصالح آنية أنانية وذاتية دون مراعاة مدى خطورة المرحلة فقد دخلت النُخب المتحاورة في الأيام الأخيرة للحوار في جدل (العزل السياسي) والذي كان الرئيس هادي يلوح به أمام خصومة بعد أن أوصى فريق الحكم الرشيد في ذلك الحوار استنادا إلى نص دستوري يؤكد على العزل السياسي لكل من شملتهم المبادرة حسب القرار الجمهوري لسنة 2012 وهذا لاشك مبدأ عملي نظريا لأنه يساهم في الحلول ولكنه يبدو مستحيل تطبيقه لأنه ببساطة سيطيح بأركان الحكم الذين يتربعون على طاولة الحكم اليوم..
الإشكال الواضح والتناقض هو ان الرئيس هادي قد يشمله ذلك وهو ما يعني وضع الرئيس التوافقي وكل مراكز القوى التي تتصدر المشهد السياسي اليوم وغيرهم من أطراف الأزمة في خندق واحد، أما الأشكال الآخر فهو خطاء احزاب اللقاء المشتركة والذين اغرتهم القرب من السلطة فلم يدركون تبعات ذلك حين الموافقة على المبادرة الخليجية فكان يفترض حينها الاشتراط بالعزل السياسي مقابل الحصانة وبأن تتضمن صراحة عدم مزاولة عناصر بعينها وليس الشمولية المطلقة التي تاهت فيها الحقيقة وأصبحت النصوص مطية للبعض للقفز على الحقائق..
ومن هنا فالمبادرة قد حملت في طياتها بذور فنائها فلم تكتشف تلك المطبات والألغام إلا حين طُرحت للنقاش والحوار وفي محك تفاعلات المشهد السياسي بكل تعقيداته، وهذا يجرنا إلى القول بأن تطبيق العزل السياسي سيزيح كل المختلفين في المشهد السياسي اليوم سواء كانوا حاكمين أو مشاركين في السلطة بصورة غريبة فهم يسيطرون على نصف الحكومة وفي نفس الوقت يعارضونها وفي ذلك مفارقة غريبة ميزة مآلات الربيع العربي في نسخته اليمنية، وليس هذا فقط بل أنهم في هذه المرحلة يعتبرونها مؤقتة (وبأن الرئيس الحالي مجرد مُحلّل) فهم عائدون وفق هذه الرؤية غير مدركين بأن ثورة شعبية أطاحت بهم ومنحتهم حصانة لم يكونوا يحلمون بِها، ولا يمكن أن يعودوا للسلطة بواجهات وعناوين مختلفة فقد تجاوزهم الزمن والمرحلة أفرزت قوى أخرى..
الخلاف الأساسي هنا بين السلطة وما يمكن تسميته مجازاً (النظام البائد) بينما كانوا جميعا قبل ما عُرف بالثورة الشبابية في خندق واحد ولكن فرقتهم المصالح وعليه فهذا يؤكد فرضية أن اليمن لن يكون سعيداً ألا بتواري كل هؤلاء من الساحة والمشهد السياسي فهم سبب مشاكله المزمنة وعليه فاليمن يحتاج لمبادرة جديدة ليس خليجية هذه المرة بل أممية تهدف خروج كل اللاعبين الغث والسمين من المشهد لإتاحة الفرصة لوجوه جديدة لم تتلوث بدنس السلطة، ولكن قد تبدو مثل هذه الدعوات مثالية وغير عملية وتدخل في باب التمنيات والحلول الافتراضية التي لا تلقى لها صدى في الواقع .
السؤل البديهي الذي قد يبدو ساذجاً وبديهيا ويطرح نفسه بقوة وهى أن المقصود من العزل السياسي هو من أوصل اليمن لهذه الحالة وقامت ثورة وتم خلعة بمبادرة خليجية قبل بها مقابل حصانة وعليه فلا نتوه في المسميات وتفسير النصوص وندخل في جدل عقيم يفترض أصلا التسليم بالأمر الواقع، فأما لا يتم العزل السياسي ويستمر المؤتمر بقيادته الحالية مدى الحياة ولكن بالمقابل يضحي بالحصانة طالما لديه هذه الشعبية وطموح السلطة وإلا فيقبل بالحصانة فهو أساساً المقصود وليس أهل السلطة الحاليين بغض النظر كون الجميع شملتهم الحصانة فلتُسمى الأشياء بمسمياتها، ونتأمل لروح المبادرة وغايتها وليس فقط إلى نصوصها فهي في نهاية الامر ليست بقرءآن منزل.. هذا إذا كانت هناك إيثاراً للنفس وتضحية بالمناصب لمن يدعي انه (سئم السلطة)!
فهذا الفرس وهذا الميدان فعند ساعة الحسم وساحة الوغى يثبت مدى عشقه للسلطة وشهوة الحكم هذا هو الإشكال باختصار بعيدا عن المواربة و(الديماغوجية) التي يجيدها البعض فلن تقوم لليمن قائمة طالما بقى من بيده السلطة أو بعضها والقوة والثروة يتحكم بقواعد اللعبة الأمر الآخر أن اليمنيون اليوم حبيسين نصوص تشريعية كبلوا بها أنفسهم والسبب عدم وجود حسن النية لدى جميع الأطراف، وإلا فنظريا فالأمر في غاية البساطة فلو كان المستهدف بالعزل السياسي بادر تلقائيا بعد نقل السلطة بالتخلي عن رئاسة المؤتمر لما حصل شيئا من تداعيات تطبيق المبادرة ولكان أطراف الحوار السياسي من المكون الجنوبي المسمى بالحراك إبداء موقفا لينا لأنه بالفعل غير مطمئن من الجهة التي أقصته وشنت عليه الحرب ستتوارى عن الحكم طالما هى شرهة للسلطة بهذه الصفة، فالوطنية إجمالا هي سلوك وممارسة وتضحية وليست زعامة أبدية مفروضة على قواعد أحزابهم، وخطب رنانة، فمتى يدرك هؤلاء خطورة المرحلة، والاختباء وراء أوهام مفترضة والكف بالإيحاء (بفوبيا الاجتثاث) المزعوم والمفترض فكيف يجتث جيش من الموظفين، وكما أن النظام الحالي ولد من رحم السابق، فأيهما أهم مصالح حفنة من هذا الحزب أم مصلحة الوطن..
لقد وصلنا لمرحلة تبديل الأولويات فلم يعد الوطن في قائمة الاهتمامات بقدر ماهى مصلحة تماسك الحزب وأعضائه ونصيبهم من غنائم المناصب المستقبلية هذا باختصار سر تعثر الحوار بعيدا عن المزايدة والسفسطة والجدل العقيم، حسن النوايا والتضحية بالمواقع الحزبية بوابة انفراج الأزمات في أي مجتمعات وإلا سيضلون يدورون في حلقة مُفرغة.