مهما اختلفت الاجتهادات وتباينت اسباب ومسببات الازمات المتداخلة والمتشابكة التي تحيط بالمشهد السياسي والاجتماعي في اليمن والتعقيدات والتحديات التي ينوء بها هذا المشهد فان امام اليمنيين اليوم فرصة نادرة لتجاوز هذه الازمات والخروج من نفقها المظلم والحالك بالسواد اذا ما حرصوا على ان تأتي مخرجات حوارهم الطويل والشاق الذي كان قد بدأ في 18 مارس الماضي محققة لتطلعاتهم في التغيير والتحول وبما يعزز من روح التوافق الوطني الذي ينطلق ببلادهم صوب مرحلة جديدة ترتسم فيها معالم الدولة اليمنية الحديثة والقادرة على مواكبة مجريات العصر بعيداً عن امراض الماضي وموروثاتها المتجذرة التي اسهمت في تخلف هذا البلد وإبقائه مكبلاً بعوامل الفقر والفاقة والصراعات القبلية والمناطقية والمذهبية.
هذه الخلفية تغدو ضرورية ربما للتذكير بان اية محاولة لإرهاق مؤتمر الحوار باكراهات المصالح الفئوية أو المناطقية والألاعيب السياسية انما هو الذي قد يحوله من ملتقى للتقارب وبناء الثقة وتبديد الخصومات وحل المشكلات إلى مجرد مهرجان سياسي واعلامي ومن دون ان يخرج بفلسفة واضحة للدولة التي يراهن اليمنيون على الوصول اليها بعد ان اخفقوا لعقود طويلة في بلوغ هذا الهدف الوطني حيث لا بد وان تدرك جميع القوى والتيارات السياسية اليمنية ان مؤتمر الحوار هو الفرصة الاخيرة ان لم يكن قارب النجاة الذي لا بد وان يعمل الجميع من اجل الحفاظ عليه من ان تنحرف به الاعاصير والأمواج العاصفة عن مساره حتى يصل إلى بر الامان باعتبار ان في نجاته نجاة لهم من الغرق كما ان من الواقعية ان تعي المنظومة السياسية اليمنية انه لا يمكن قياس مدى نجاحها على المستوى الكلي ما لم يفض مؤتمر الحوار إلى نتائج عملية تفتح افقاً جديداً من التفاهم والشراكة الوطنية بين جميع اليمنيين بعيداً عن كل الخلافات والخصومات التي تنخر في النسيج الاجتماعي وتوسع من هوة الانقسام بين ابنائه.
ان الجدل الدائر اليوم داخل مؤتمر الحوار الوطني حول الخيارات المطروحة لحل (القضية الجنوبية) وان كان عائداً إلى خلاف الفرقاء بشأن المعادلة الملائمة لإصلاح قواعد الوحدة القائمة بين شطري اليمن منذ مايو عام 1990م وإزالة ما علق بها من الشوائب خلال السنوات الماضية فان ما يخشى منه ان يؤدي هذا الخلاف الذي برزت بعض ملامحه في الايام الاخيرة بصورة واضحة إلى حالة من الانسداد السياسي التي يصعب الخروج منها مع ان مثل هذا الخلاف كان يمكن حسمه في وقت مبكر لو ان اللجنة (8+8) المشكلة مناصفة من الشمال والجنوب قد انطلقت من تشخيص الواقع والسلبيات التي واجهت الدولة الموحدة اذ ان مراجعة كهذه كانت كفيلة بإذابة الجليد المتراكم بين الطرفين وتحطيم الحواجز النفسية بينهما وتقريب وجهات النظر وتحقيق التوافق على خارطة طريق للمعضلة اليمنية في الشمال والجنوب وعبور تخوم المناطقية التي دفعت كل طرف إلى التمسك بحلوله وشروطه ومواقفه إلى درجة بدأت فيها نقاشات هذه اللجنة وكأنها تدور بين منهجين وثقافتين وهويتين وجناحين يسعى كل منهما إلى الجنوح بالحوار نحو اتجاهات بعيدة عن اهدافه والمسار الذي يراد له ان يسير فيه.
ومن اوضح تداعيات هذا الخلاف انه الذي نجح في تقسيم المجتمع اليمني وثوابت الهوية اليمنية التي لا تقبل القسمة على (شمالي) و (جنوبي) والشاهد على ذلك هو انتقال التفكير داخل لجنة القضية الجنوبية من خانة التصالح بين ابناء الوطن الواحد إلى خانة الاقصاء المتبادل وإعادة ترسيم الهوية الوطنية وما كان لذلك ان يحدث لولا ان تلك الوصفة من التقاسم المناطقي الذي طغى على هذه اللجنة وتجاوزها إلى التشكيل العام لإطار مؤتمر الحوار برمته ولا بد ان أي تعثر في الوصول إلى توافق حقيقي بشأن القضية الجنوبية ستتحمل مسؤولياته كل الاطراف المشاركة في الحوار والتي لم تبذل جهداً حقيقياً في معالجة الملفات الصعبة والأكثر سخونة خصوصا وهي من سارعت إلى حسم مواقفها حول كثير من القضايا المتصلة بشكل الدولة اليمنية الجديدة ونظامها السياسي على اساس التطور العكسي الذي يحل فيه الاتحاد محل الوحدة والفيدرالية بديلاً من الدولة المركزية والمحاصصة الجهوية في شغل الوظيفة العامة محل الكفاءة والمؤهل والخبرة وما يثير القلق هنا ان يتم التوافق على كل هذه الرؤى بمعزل عن أي توافق يصون ويحمي الهوية الوطنية من طغيان الهويات المناطقية وتأثيرها على عامل الانتماء للوطن الواحد.
لا احد ينكر وطنية ابناء الجنوب وغيرتهم على وحدتهم وانا على يقين تام انهم يرفضون حملات التعبئة والشحن المناطقي التي تظهر في الخطاب السياسي والإعلامي لبعض الاطراف السياسية المتاجرة بالقضية الجنوبية والتي صار خطابها فجاً وسمجاً في الوقت نفسه وما يعول على ابناء جنوب اليمن هو ان لا يتركوا للانتهازيين الفرصة لاختبار وطنيتهم وانتمائهم لليمن تحت ذريعة (المحاصصة) تارة و(الفيدرالية) وتقسيم اليمن إلى اقليمين أو رأسين تحت شعارات اثبتت زيفها وبطلانها.