[esi views ttl="1"]

بين الشيطان والولي

توالت الأحداث بشكل متسارع خلال الأيام الماضية، الوقت مهم بالنسبة للجميع، كيري ينظر ‏إلى ساعته، نتنياهو يذرع مكتبه جيئة وذهاباً، ينتظر شيئاً ما، يطير إلى موسكو، يتحدث هنا ‏وهناك، وعين ظريف على جنيف، وفابيوس يطلق التصريحات هنا وهناك، ورئيسه يطير إلى ‏تل أبيب، ويعطي تطمينات لنتنياهو بشأن الاتفاق النووي مع إيران، ونتنياهو يتوعد، ويحذر ‏من "الذئب الذي يلبس ثياب الحمل في طهران"، وبندر بن سلطان ما يزال يبحث عن قصر له ‏في عمان، كي يراقب عدوه اللدود بشار الأسد، ويطمئن على سير أمور صديقه الطموح جنرال ‏مصرعبدالفتاح السيسي، حركة طيران مسؤولي المنطقة، واتجاهات السير تشي بالطبخة التي ‏نضجت في جنيف.‏

وقع ما كانت تخشاه إسرائيل إذن، حليفها الأمريكي لم يلتفت إليها، فضل أن يغضبها قليلاً ‏هذه المرة، ولكن ليس لصالح الفلسطينيين، وإنما لصالح "الذئب الذي يلبس ثياب الحمل في ‏طهران"، وحَمل طهران يحاول أن يخفي انحناءته، وتنازله عن برنامجه النووي العسكري، ‏ومشاريعه الامبراطورية بابتسامات باهتة، الإيرانيون يجيدون الابتسام، ويجيدون تحويل ‏الانحناءة إلى "حركة مقاومة وممانعة" كذلك.‏

وقع الشيطان الأكبر الاتفاق النووي مع الولي الفقيه، ولم يستمع لنصائح ومخاوف وتهديدات ‏الإسرائيليين المرتبكين بين خطاب بيريز وتشنج نتنياهو. يضرب إسرائيلي عجوز يسكن في ‏إحدى المستوطنات بالضفة كفاً بكف: "لم يعد لدى إسرائيل قادة عظام من أمثال بن غوريون ‏ومائير، حتى شارون رحل عن المشهد السياسي"، يتحسس الإسرائيلي العجوز جيب سترته، لا ‏قلق إذن، جواز السفر ما يزال في مكانه، مزدوجو الجنسية ليس عليهم أن يقلقوا، لديهم وطنان: ‏واحد يعيشون فيه، والآخر احتياطي يسافرون إليه إذا غامت سماء الأول.‏

بعد توقيع الاتفاق في جنيف بيوم واحد ظهر بان كي مون على الشاشة يبتسم ويقول "جنيف ‏اثنين ينعقد يوم 22 من يناير"، كي مون كان ينتظر الضوء الأخضر من لافروف وكيري ‏إذن، تم الاتفاق مع إيران في جنيف فلنذهب إذن إلى جنيف مرة أخرى، ولكن من دون ضجيج ‏نووي، هذه المرة الدماء السورية ستكون موضوع النقاش، والولي الفقيه سيحضر إلى جنيف ‏مرة أخرى، يريد أن يقول للعالم إن المفاتيح في يده.‏

وبعد التوقيع على الاتفاق النووي بيوم واحد كذلك سرب شخص ما في واشنطن أن الشيطان ‏الأكبر والولي الفقيه كانا يمارسان عادتيهما المفضلة في الاجتماعات السرية، من دون علم ‏بندر بن سلطان ونتنياهو وفابيوس وهيغ وبقية الأصدقاء، أخذت فابيوس الغيرة والغيظ معاً ‏فادعى أنه كان على علم بلقاءات الغرام بين الولي الفقيه والشيطان الأكبر.‏

هكذا هم الأمريكيون، عندما تكون الأمور جدية يغلقون كل النوافذ والأبواب ويجلسون إلى ‏الطاولة، ذهبوا للقاء الشاه المعمم في مكان قصي من جزيرة العرب، مكان يتسم بالهدوء ‏والغموض والبعد عن الأضواء، لا شبهة عليه، سلطنة عمان إذن كانت المكان المناسب، ‏وقابوس الذي طار إلى طهران قبل فترة غطى على مهمة تسهيل اللقاءات السرية بمهمة أخرى ‏هي "بحث العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين"، وهي اللازمة الإخبارية التي تتصدر ‏عناوين أخبار وكالات الأنباء الرسمية العربية، والتي تغطي بها صخب اجتماعات الأشقاء.‏

لا غضاضة إذن في أن ينحني الولي الفقيه للشيطان الأكبر، قليلاً وهو يتنازل عن طموحه ‏النووي، ويفتح مواقعه النووية السرية للتفتيش، ويفرح بسبعة مليارات دولار بعد أن أنفق مئة ‏وسبعين مليار دولار على برنامجه النووي، وبسبب الحصار الذي فرض عليه على خلفية هذا ‏البرنامج، لكن الولي الفقيه يقول مبتسماً إنه انتصر، تماماً كما ابتسم حليفه بشار عندما سلم ‏سلاحه لكيري ولافروف، وادعى انتصار الممانعة، وما علينا إلا أن نضع حصاة تحت اللسان ‏ونصدق، ولي طهران ومقاوم دمشق.‏

الذي يعجب في الإيرانيين أنهم استفادوا من تاريخ طويل من "التقية الدينية"، في تطوير ‏‏"التقية السياسية"، يغطون انحناءاتهم بالبسمات، تماماً كما غطوا على لقاءاتهم بالشيطان ‏الأكبر، وعلى علاقاتهم الاقتصادية مع "الكيان اللقيط" بالهتاف الشهير "الموت لأمريكا، ‏الموت لإسرائيل". وبالمناسبة فقد ظهر الولي الفقيه يتحدث الأسبوع الماضي إلى بعض ‏مؤيديه، وأبدى رغبته في تحسين العلاقات مع الشيطان الأكبر، ومن شدة إعجاب مؤيديه ‏بحديثه هتفوا، من دون وعي ربما، "الموت لأمريكا".‏

ومع كل ذلك تنفست إيران أخيراً الصعداء، كانت في سباق مع عدد من الخصوم لإفساد ‏الطبخة، ولكن العمامة السوداء باركت أخيراً للعمامة البيضاء نجاحها في لعبة شد الحبل التي ‏صرعت بموجبها نتنياهو وغيره، ولا يهم بعد ذلك ضياع الأحلام النووية، والطموح ‏الإمبراطوري، أو تأجيل ذلك لحين الخروج من الرمال السورية.‏

في صورة تذكارية جمعت وزراء الخارجية الذين وقعوا على اتفاق جنيف النووي، سرت ‏عدوى الابتسام في الكل حتى لافروف، الرجل "الجلمود"، مكفهر الوجه، ظهر في الصورة ‏مبتسماً، ترى لو التقطت الكاميرا صورة نتنياهو كيف سيكون شكل ابتسامته؟ ما علينا، نحن ‏عادة لا ينبغي أن نصدق ابتسامات الساسة، ومضيفات الطيران.‏
وماذا بعد؟

بعد التوقيع على الاتفاق، رحب به معظم معارضيه الذين سعوا لإفشاله، عدا نتنياهو الذي ‏قال عنه إنه ليس اتفاقاً تاريخياً ، بل خطأ تاريخي، وأمر طائراته بالتحليق في مناورة مكشوفة ‏في اليوم التالي فوق صحراء النقب، لم تستطع طائراته وصول صحراء بلاد ما وراء النهر، ‏فليحلق إذن بالقرب من البحر الميت.‏

العرب على عادتهم، بعد فشلهم في اقناع أصدقائهم الأمريكيين في وقف الاتفاق/الصفقة ‏ركبوا موجة الترحيب به. مدهشون وعظماء هم العرب، لديهم القدرة دائماً على الترحيب بما ‏لا يرغبون فيه، ولكنهم في الوقت نفسه مساكين يسعون كالكائنات الضعيفة للاحتماء بلعبة ‏تناقض الكبار، طالما أنهم لا يطمحون إلى أن يكونوا كبارا، بل يرغبون دائماً في الجلوس على ‏المقاعد الأمامية المخصصة لكبار الضيوف ويتفرجون. فإذا ما انتهت المباراة، وهي تنتهي ‏عادة لصالح غيرهم، قاموا يصفقون على مضض.‏

مشكلة العرب أنهم ليسوا أقوياء، وعدم قوتهم يكمن في عدم اعتمادهم على أنفسهم. تمتلئ ‏ساحتهم دائماً بغيرهم، ويدخل ملاعبهم لاعبون من كل مكان إلا فريقهم، بينما يذهبون هم ‏بعيداً بحثاً عن ملاعب أخرى لا علاقة لهم بها. خلافات العرب البينية تنهكهم دائماً، فلا ‏يصلون إلى ساحة اللعب إلا بعد أن يكونوا قد استنفدوا كل طاقتهم في تحريك طواحين الهواء.‏

يقول لك مسؤول عربي "إن المنطقة تتعرض للصراع بين مشروعين: المشروع الإيراني ‏المتخفي وراء الشعارات الرنانة، والمشروع الأمريكي الإسرائيلي المتخفي وراء الديمقراطية ‏والشرق الأوسط الجديد"، وعندما تسأل هذا المسؤول عن المشروع العربي المفترض وجوده، ‏يلوذ بالصمت.‏

يلزم العرب أن يتعلموا من إيران حتى إن كانوا لا يكنون لها مودة، يمكنهم أن يقتربوا منها ‏لا لتملقها، ولكن لفهمها أكثر، كي يسهل التعامل معها، ويواجهوها بأساليبها ذاتها، يلزمهم ‏الكثير من الصمت والقليل من العمل، ويلزمهم المشروع الذي لا يدعي أحد وجوده، كان أحد ‏المجانين يردد يوماً: اقترب من أصدقائك كثيراً، واقترب من أعدائك أكثر، هذه هي النصيحة ‏التي ينبغي للعرب الإصغاء إليها، وخذوا الحكمة من أفواه المجانين.‏

زر الذهاب إلى الأعلى