أرشيف الرأي

الوطن العربي... بين سياسة التطبيع الإسرائيلي وغرف التحكم الخارجية

ما فتئت الدول الكبرى تعمل على كل المحاور لإيقاع الدول الفقيرة في فخ المصيدة والعلوق ‏بشرك السياسة المضللة لتشرف عن كثب على فكاك هذه الدول من أحبولة المكائد التي أعدتها ‏مسبقا عن عمد وترصد للإيقاع بهذه الدول في إخطبوط التيه المسور بفداحة الجسور المعقدة ‏فالطعم المضلل يتكئ على أبعاد سياسية ذات رؤى متعددة تتصف بملمس الحرير والتضليل ‏المزيف استطاعت هذه القوى الخفية أن تدخل دول الربيع العربي في فخ الفوضى الخلاقة ‏المنبثق عن الثورات الشعبية تحت مسمى الربيع العربي لتخلق جوا من الفوضى غير ‏المتناهية تغذيها تلك القوى الخفية في الظاهر والباطن وتهندس المواجهة بين قوى النظامين ‏الصاعد والساقط على أسس مرسومة تتحكم بها غرف عمليات دقيقة تدعم بمليارات الدولارات ‏التي تضخها دول أخرى إقليمية بحكم عدائها التاريخي للتغيير والديمقراطية.‏

فالدور الذي يلعبه الأمريكان واليهود في الوطن العربي ليس بخاف على أحد وسياسة ‏التفتيت القائمة تعمل بسفور واضح لاحتواء الدول الفاعلة في الوطن العربي وخاصة تلك التي ‏لها رصيد تاريخي أو تتحكم في مواقع إستراتيجية هامة قد تؤثر في الأمن الإسرائيلي أو تحدث ‏رؤية سياسية تعمل على إعاقة التطبيع أو تأخير الأهداف المرحلية الهامة فقد بدأ التركيز ‏بأفغانستان ثم ثنى بالعراق ثم جاء الربيع العربي فأدخل مصر وسوريا واليمن في الفخ ‏الأسطوري المسمى بالربيع العربي وخرافة ديمقراطيته الخانعة الأمر الذي جعل القوى ‏الانتهازية تدخل على الخط المباشر لتهدم المناعة السياسة وتتحكم في مصير هذه الدول تحت ‏غطاء دولي يهدف إلى فك النزاع المزروع بفعل التغذية غير المباشرة لإشعال فتيل النزاع ‏غير المتناهي... وكل الطقوس الغائمة في هذه الدول تعمل بامتياز على نجاح المخطط ‏المرسوم والذي يجري تنفيذه من غرف التحكم الخفية والتي بإرادتها الساخرة فرضت على ‏الفرقاء التوجه إليها بالاختصام والتظلم وطلب الدعم اللوجستي والعسكري وتزويدها بالخبرات ‏الفنية والاستخباراتية فمضت تلك الغرف الخفية تصدر أوامرها إلى المتنازعين زارعة ألغام ‏الفرقة والشتات تحت غطاء شرعي وكل من يخالف أوامرها يهدد بوضعه في البند السابع ‏للعقوبات الدولية فأصبح من الصعوبة تجاوزها أو التصرف خارج إرادتها الدولية فالمتحكم في ‏سياسة الطرفين يعمل على نطاقين مزدوجين يتمثل في الحكومة والمعارضة.‏

فالتخطيط المبرمج والمعد مسبقا بدأت لمساته تتحقق على أرضية الواقع بفعل العوامل ‏التكتيكية الدقيقة والحنكة السياسية البارعة واختراق الدولة العميقة لكيانات الأنظمة العربية ‏الضعيفة فهذه العوامل ذات الأبعاد الإستراتيجية نحت بالمستقبل العربي إلى الفوضى الخلاقة ‏وهي الطعم الذي أعدته غرف التحكم بإتقان بالتعاون مع إسرائيل للإيقاع بثورات الربيع ‏العربي في مصب النهر دون وسيلة لطوق النجاة.. فالعالم العربي المحروم من الخطاب ‏الإعلامي المضاد أمسى نهبا للتأثير الإعلامي الموجه من الغرب فاندفاعه غير المدروس ‏بالمطالبة بالحقوق والحريات وإسقاط الأنظمة الدكتاتورية كان ينقصه الضمانة الديمقراطية ‏والتي جاءت عكس الظن المتوقع فخيبت آمال الأمة وعادت بها إلى مربع الصفر الأمر الذي ‏أوقع الأمة العربية في شرك المصيدة المعد بإتقان حيث غرر بها للدخول في النفق المظلم في ‏متاهة السياسة التي أقحمتهم في أتون الصراع الدامي الذي أفضى إلى حقول الصوملة والأفغنة ‏والعرقنة .‏

لقد مر العالم العربي باستهداف تاريخي وتآمر دولي على مر التاريخ لكن نتيجة للتكتل ‏المصيري باءت تلك الضربات بالخسران والبوار وبقي هذا الكيان متماسكا تتكسر معاول ‏الأعداء على صلابة صخرته الصماء فالموجة العدائية القديمة كانت تحمل الطابع العسكري ‏الذي ولد موجة عكسية عملت على ارتداد الفعل بصورة أعنف من أجل الدفاع عن الأرض ‏والعرض والشرف أما الموجة الاستعمارية الجديدة فهي تحمل في طابعها أشكالا متعددة من ‏الوسائل الاستعمارية فهي تأتي في صورة المنقذ من الموت والمساعد على الخروج من ‏الأزمات والمحارب لأسطورة الإرهاب والمستشار في الأمن والحرب والخبير الفني ‏لاستخراج الثروات والمتدخل السريع لفك النزاعات والداعم بالسلاح التقليدي والمرجعية في ‏التكتيك العسكري والمحرر من الاستعمار العربي والمتدخل باسم حقوق الإنسان والحكم في ‏النزاعات الإقليمية والمشرف على ترسيم الحدود الجغرافية والمنفذ للأحكام الدولية.‏

فالديمقراطية الغربية هي النظرية السياسية المعتمدة لاختيار الحاكم في الدول العربية التي ‏تعتمد النظام الديمقراطي وهو نظام متعدد المناحي والأيدلوجيات يتكئ على فلسفة ذات جذور ‏إغريقية اعتمدها الغرب بعد القضاء على السلطة الثيوقراطية واتخذها وسيلة لاختيار الحاكم ‏بسلاسة انتقالية رائدة ومن ثم أصبح مصدرا ومتحكما في هذه الديمقراطية بحكم براعة ‏الاختراع التي تسجل في قائمة إنجازاته الناجحة فالوطن العربي يقع تحت ابتزاز هذه الدول ‏الراعية للديمقراطية وهي دول لا تعطي دعمها إلا بمقابل الكثير من التنازلات الكبيرة التي ‏تحقق لها المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية من خلال تبنيها للديمقراطية ويعتبر ‏تعزيز الديمقراطية في هذه الدول من قبيل تصدير الثورة الغربية وكسب ولاء الأخرى ‏المنحازة إلى معسكرها الديمقراطي وهي المشرفة على اختيار الحاكم المناسب الذي يرعى ‏مصالحها وينفذ سياساتها المختلفة كعامل مخلص يقوم بالمهام الموكلة إليه على أتم حال وفي ‏حال صعود القوى غير المرغوب فيها تقوم هذه الدول المتحكمة في صندوق الديمقراطية ‏بتوليد النزاعات والفوضى بتسليط القوى المعارضة لإسقاط هذه الحكومات الصاعدة تحت ‏ذرائع واهية كالذي حصل في الجزائر وغزة ومصر فالعالم العربي لا يمتلك نظاما سياسيا ‏أصيلا ينبثق من بيئته الثقافية ومحيطه الجغرافي إنما يستعمل نظاما تبعيا ينتمي إلى البيئة ‏الغربية فالنظام السياسي الإسلامي أصبح منبوذا في ظل الديمقراطية المستوردة فأضحت ‏أنظمة الحكم قلقة تشوبها العشوائية والانفصام حيث تبني دساتيرها على خليط بين العلمانية ‏والإسلام حتى في حال وضعها بعض المواد الإسلامية في الدستور فإنما هو استرضاء ‏لمواطنيها على طريق النفاق السياسي.‏

كذلك يخضع النظام الاقتصادي العربي لأسس رأسمالية تقوم على استثمار رأس المال بنظام ‏ربوي يصب في جيوب المحتكرين للإنتاج عن طريق السيطرة على السوق العالمي الذي ‏تتحكم فيه الشركات العملاقة بما تفرضه من أساليب اقتصادية تخضع لقوانين النظام الجديد ‏القائم على روافد العولمة واحتكار السوق كذلك ما يتعلق بالإنتاج الزراعي والصناعي فالوطن ‏العربي لا يؤمن إلا نسبة ضئيلة من الأمن الغذائي والبقية تعتمد على الاستيراد الخارجي ‏فهناك سياسة تبعية خفية تفرض على الوطن العربي تقوم على سياسة الاستيراد للسلع ‏الخارجية وترك استثمار الإنتاج المحلي وهي سياسة درج عليها الوطن العربي من أيام ‏الاستعمار ومضى ينفذ تلك السياسة استرضاء للدول الكبرى التي تلعب في التحكم في سياسة ‏البلدان النامية وتخضعها عن طريق الاتفاقات السرية والمعلنة للخضوع لسياسة الأمر الواقع ‏بعيدا عن الاستجابة لمتطلبات الوطن والمواطن وهذه السياسة الاقتصادية الموجهة هي التي ‏أفقرت البلدان العربية وأخضعتها للتسول والقرض من صندوق التنمية الدولي والذي بدوره ‏يعمل لصالح سياسة أمن إسرائيل وسيطرتها على الرقابة الاقتصادية للوطن العربي لتجعله ‏يسير في ظل سياسة صهيونية تستهدف أمنه واستقراره.‏

وفي مجال التربية والتعليم نجد العالم العربي متخبطا بين النظريات التربوية الأوروبية ‏والأمريكية وبين بعض الأفكار الهشة التي لا ترقى إلى نظرية تربوية شاملة فليس للوطن ‏العربي نظرية تربوية مستقلة تعبر عن فلسفته وطموحه التربوي عن استقلال وتحرر من ‏التبعية فلم يوفق إلى بناء نظرية تربوية تجمع بين الأصالة والمعاصرة مثل ما عمل الغرب ‏حين تدرج في بناء نظريته التربوية على أسس تراكمية ابتدأت بمثالية أفلاطون ثم رومانتيكية ‏روسو ثم علمية فرنسيس بيكون الواقعية ثم المدرسة البرجماتية الأمريكية بزعامة جون ديوي ‏ثم الإفادة من مدرسة علم الاجتماع الحديث بزعامة التوسير ثم إضافة عصر المعلومات إعلان ‏المبادئ الأربعة التي جاءت في تقرير اليونسكو وهي: (تعلم لتعرف، تعلم لتعمل، تعلم لتكون، ‏تعلم لتشارك الآخرين) فالمجال التعليمي عند العرب يخضع لأساليب تقليدية تبعد كثيرا عن ‏محتوى معيار الجودة المعتمد عند الدول المتقدمة فالتعليم العام في الوطن العربي يخضع ‏للابتزاز والإهمال المتعمد وهي سياسة درجت عليها الكثير من دول الوطن العربي فأبناء ‏النخبة يدرسون في مدارس خاصة بينما أبناء الشعب يدرسون في مدارس الدولة وهي مدارس ‏تفتقر للبنية التحتية محرومة من الوسائل التعليمية والمعامل العلمية بعيدة عن أدنى معايير ‏الجودة التعليمية.‏

أما على مستوى الإعلام فقد عاش الوطن العربي أسيرا لتأثير الإعلام الخارجي فهو يخضع ‏لسلطة إعلامية موجهة تخدم السياسة الغربية فقد ظل الخطاب الإعلامي يتأرجح بين النقل ‏والتوليف البعيد عن التحليل والتعليل يتطفل على الآلة الإخبارية الغربية أو الشرقية وهي ‏مؤسسات خارجية تخدم سياسة موجهة تعمل على تطبيع القضايا الأرستقراطية التي تخدم ‏السياسة الاستعمارية المتمثلة في الديمقراطية اللبرالية التي تقوم على احتكار السوق للشركات ‏الاقتصادية الكبرى وتعمل على تخدير العقل العربي عن إدراك المخاطر أو التنبه لقضايا ‏العولمة الوافدة في صور متعددة تجمع بين احتكار الخطاب الإعلامي واحتكار اقتصاد السوق ‏فقد أضحى الإعلام العربي بوقا يردد ما تقيئه المؤسسات الإعلامية الخارجية على شاشات ‏قنواتها الفضائية بعيدا عن قضايا أمته العربية فلم يكن يوما إعلاما منبثقا من إطار القضية ‏العربية أصالة وفنا وقيما ومسئولية لم يركز على خطاب إحيائي تعبوي يعمل على روح ‏النهوض السياسي والاقتصادي لم يخاطب العقول لاستثارتها ولا الأرواح لطموحها بل ظل ‏يردد ذلك الغثاء المتلاشي من تمجيد الحاكم وتخليد شخصيته وخلق الأساطير الممجوجة عن ‏إحسانه وعبقريته وبطولاته الوهمية وظل هكذا أسير الخزعبلات التي تدعو إلى السلطة ‏المطلقة للحاكم فالمواطن العربي لم يكن حاضرا في الخطاب الإعلامي العربي ولا قضايا الأمة ‏العربية فلم يستهدف إبراز وتجسيد وترسيخ تلك القيم في عقول الناشئين من أبناء الأمة العربية ‏ليربطهم بواقع أمتهم ويحذرهم من مصير التبعية بل جعلهم يعيشون على سياسة إعلامية ‏تجهل العقول وتسرطن التفكير وتهجن الهمم وتخلق جوا يعصف برياح التطبيع ويهدر ببحار ‏التبعية.‏

وخلاصة الأمر أن الوطن العربي يعيش حالة من التبعية المقيتة وهشاشة في الأنظمة شجعت ‏الأعداء على اختراق منظومته السياسية والاقتصادية والإعلامية وأجبرته على السير في ‏ركاب سياسة التطبيع الإسرائيلية وقعدت به عن السير في ركب الحضارة بما تفرضه عليه من ‏توصيات تعمل على إعاقته واستنزاف ثرواته في طرق شائنة تخدم سياسة العدو وتهيض ‏أجنحة المشاريع التصحيحية وتقف أمام صحوة الشعوب وتطلعها للحرية والعدالة وتجهض كل ‏مشاريع التغيير وتقف حجر عثرة لأي محاولة من شأنها إخراج الوطن من عثرته السياسية ‏والاقتصادية لتسلك به إلى منحى التحضر والازدهار وترقى به إلى أفق الحق العدل.‏

زر الذهاب إلى الأعلى