كانت مزعجة تلك المشاهد التي نقلها التلفزيون الرسمي لجلسة من مؤتمر الحوار الوطني، تصدى فيها مساعد الأمين العام للحزب الاشتراكي لقراءة بيان تفويض للرئيس هادي بتشكيل لجنة لتحديد عدد الأقاليم وأن يصبح قرارها نافذا (هكذا) ويمكنني القول إنها غير معبرة عن رغبة المواطنين وآمالهم، وكان الأداء تعبيرا عن عقلية «الحزب القائد» وتم أخذ الموافقة بزعيق البعض وتكبير البعض الآخر كل بحسب الانتماء الحزبي، وتحمل الرجل الفوضى التي صنعها البيان وانتقده حزبه ضمنا على فعلته معلنا تمسكه «المؤقت» بلوائح المؤتمر ومن غير المستبعد أن صفقات حيكت وإغراءات تم الاتفاق عليها للخروج بهذا المولود المشوه.
اليوم صار واضحا أن الصفقات التي أنجزت كان هدفها السعي لـ«تمرير» ما سمي بوثيقة الضمانات، وهي ملهاة سياسية عجيبة، إذ إن محتواها الفعلي هو تقاسم السلطة تحت دعوى «الشراكة في التنفيذ»، وإسكات كل صوت معارض تحت شعار «تبني سياسة إعلامية وخطاب إعلامي إيجابي» (نفس ما كان يطالب به الرئيس السابق عند اشتداد الحملات الإعلامية على نظامه).. وأعجب النصوص هي التي تدعو إلى إرساء حكم رشيد بينما نص الوثيقة يدعو صراحة لنفي وجود معارضة حقيقية، إذ منح الذين صاغوا الوثيقة لأنفسهم حق تمثيل الوطن دون أن يكون للمواطنين أي رأي فيهم، وتحويل أشخاصهم إلى هيئات شرعية، ومن المستغرب أنهم يطالبون بالتقييم الدائم للأداء والإنجاز وسيقومون هم بذلك.
خلاصة القول في هذا الصدد أن الموقعين على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية «المزمنة» اجتهدوا طيلة عامين في تسوية الملعب لتحديد الأنصبة التي سيرثونها من تركة النظام الذين كانوا شركاء فيه إلى أن انقلبوا عليه، لأن بقية نصوص وثيقة الضمانات ليست إلا كلمات لم تكن تحتاج إلى هذا الوقت لصياغتها وإنفاق الأموال على المشاركين في مؤتمر الحوار الوطني، فهي موجودة في نصوص دستورية قائمة وقوانين نافذة، وكان من اليسير أن تكون الحكومة قادرة وجادة في تنفيذ المهام التي أوجزتها الوثيقة مثل الالتزام باحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون وغيرها من المهام الأصيلة لأي حكومة شرعية في العالم، ودونما الحاجة إلى هذا الاستنزاف.. وأمعن الذين صاغوا هذه الوثيقة في ترك المدد المطلوبة لتنفيذ ما اعتبروه ضمانات دون تحديد خشية أن يتركوا المواقع التي سينتزعونها، وأكدوا على طلب اعتماد الوصاية الدولية على البلاد من خلال التركيز في بند خاص على «اعتماد الضمانات الواردة في فريقي القضية الجنوبية وقضية صعدة».
مرة أخرى ولن تكون الأخيرة يتجاوز القابعون على منصة رئاسة المؤتمر كل اللوائح التي صاغوها هم بأنفسهم ومارسوا انتقائية نصوصها عند كل عثرة، ولم يحترموا إلا الاتفاقات الجانبية التي أبرموها خارج القاعات الرسمية، ولا أدري كيف سيبرر أي من هؤلاء العبث والخفة والاستخفاف بالوطن، وهل حقا يتوهمون أنهم سيصنعون يمنا جديدا يحاكي الذي ساهم البعض منهم في تشكيله وصياغته وتثبيته خلال عقود مضت ولم تتوقف عجلاته إلا في فبراير (شباط) 2012.
خلال هذا الجدل أنجز الحوثيون أول عملية «تنظيف مذهبية» في دائرة نفوذهم المسلح وفرضوا اتفاقا انسحب معه سلفيو معهد دماج إلى أرض شتات داخلية، ولم يكن مستغربا أن جماعة الإخوان المسلمين في اليمن لم تسع لنجدة إخوانهم بعد أن جرتهم إلى مستنقع الاقتتال، ولم تدع أعضاءها، ولو من باب إسقاط العتب، إلى وقفة احتجاجية تشبه وقفاتهم الشهيرة في أروقة الموفينبيك ولم يكن ذلك اعتباطا وإنما لإدمانهم الصفقات السياسية بعيدا عن ضجيجهم وصراخهم عن المبادئ والمثل العليا، ولعل إدراكهم بخسارة سندهم القبلي (قبيلة حاشد) فرض عليهم الالتفات إلى حصيلة المغانم والمكاسب التي سيجنونها بالصمت على عملية الهجرة السلفية الأولى ونرجو أن تكون آخر الهجرات الداخلية.
لقد فرض «السيد» عبد الملك الحوثي نفسه وأتباعه (أنصار الله) لاعبين أساسيين يمارسون السياسة من بوابة القوة المسلحة والاصطفاف المذهبي، وكانت المشاهد التي نقلتها محطتهم التلفزيونية الخاصة وهم يحتفلون بذكرى مولد الرسول الأعظم يوم الاثنين الماضي، شاهدا على المستوى المتقدم الذي وصلوا إليه تنظيما وقدرة على الحشد، واستطاعوا جمع ما لا يقل عن 200 ألف من أنصارهم في صنعاء وصعدة داخل الملاعب الرياضية الحكومية التي سلمتها لهم الحكومة مع منحهم حرية تأمين المكان واختيار الوسائل التي يرغبونها لتحريك أتباع «السيد».. ما يجب التنويه إليه هو أني لا أرى ما يستوجب الاعتراض على نجاح أنصار الله في سعيهم لاستعادة نفوذهم السياسي، وما على المحتجين إلا أن يتذكروا أن هذا الفصيل لم يقبل المشاركة إلا منطلقا من تمثيله منفردا للمذهب في «مؤتمر الحوار الوطني الشامل» وتحمل كبار قادة الأحزاب عناء زيارة «السيد» عبد الملك الحوثي إلى مقره في صعدة ليطلبوا موافقته على مشاركة «أنصار الله» في حوارات الموفينبيك وكذلك فعل السيد بنعمر مبعوث الأمم المتحدة الذي منحهم 30 مقعدا كتمثيل مذهبي خالص وبموافقة الجميع ودونما اعتراض من أحد، فعلامَ هذه الضجة الآن؟
ستنتهي لقاءات الموفيبنيك كما يرغب السيد بنعمر والسفراء العشرة الذين يحملون عصا المجتمع الدولي، كما يقول هو، وسيهددون ويتوعدون، وحتما سينجحون في الحصول على التوقيعات الكافية لتمرير ما ينتظره اليمن منذ تسعة أشهر أنهكت الجميع أو باستخدام الصراخ داخل القاعة والتكبير لما يصدر من المنصة، ولكنهم لن يسألوا ولا أعتقد أنهم معنيون بالسؤال: كيف ستتم معالجة القضية الجنوبية وكيف سيطبق اليمنيون ما تم تمريره عبر الإغراء والإغواء.
عبد الملك الحوثي وأتباعه حصلوا على ما يريدون دون حاجة لإجماع ولا تصويت ولا تواطؤ بنعمر، فقد فرضوا رغباتهم على الأرض بالقوة واستنهاض المذهب.. فهل يجب أن ننتظر أن يحمل الجنوبيون السلاح كما فعل أشقاؤهم الحوثيون كي نذعن ونوافق على ما يريدون؟.. أليس من الأفضل أن يجري الأمر بالتراضي والتوافق على كيفية خلق أجواء إخاء حقيقي واستعادة مشاعر الدفء التي كان الجنوبيون والشماليون يتبادلونها في أيام الدولتين السابقتين؟ لعل البعض يعتقد أنه من السهل أن يتحدى وأن يفرض واقعا بأموال الدولة وسيفها، ولكن ذلك يزيد الأمور تعقيدا وارتباكا.
اليمن مقبل على مرحلة قاسية اقتصاديا وأمنيا واجتماعيا ويجب ألا يضيع الجهد في صياغة وثائق سيكون من الصعب تمريرها على الواقع، ولذا فإن على الرئيس هادي فتح أبوابه مشرعة أمام الجميع وأن يستمع إلى الجميع وأن ينأى بنفسه عن الذين مارسوا الحكم لعقود طويلة ونافقوا وجاملوا وصارت مشاريعهم الخاصة والحزبية أكبر من مصلحة الوطن.