من الأرشيف

القاعدة.. عنوان هزيمتنا الكبرى

في الصورة يطل علينا أيمن الظواهري، في شريط الفيديو الذي عبر الفيافي والقفار ليستقر في قلب الشاشة، قلب الحدث، ومن ثم في القلوب المدماة لملايين من الأمة التي انهزمت عسكرياً واقتصادياً وفكرياً، أو لنقل انهزمت حضارياً، إلى الدرجة التي أصبح الناطق باسمها شبحاً مختفياً بعيداً، في أحد كهوف تورا بورا، أو واق الواق، أو في أي مكان لا يعلمه إلا الله وربما أجهزة المخابرات العالمية.

وفي الصورة، طلائع الثوار السوريين تتقدم بثقة صوب القصر الرئاسي في دمشق، في المراحل الأولى للثورة السورية، بشار الأسد يختفي عن الأنظار، وكرسيه يتأرجح، إلى أن فتح، خذلان الغرب للسوريين، الباب للمقاتلين الجوالين الذين جاؤوا من كل حدب وصوب. دخلت "القاعدة" على خط الثورة السورية، فتشظت المرايا واختلطت الصور في سوريا والمنطقة والعالم، بشكل جعل الثوار يتراجعون، والنظام يستعيد أنفاسه إلى حين.

وقبل ذلك هدمت "القاعدة" بنايتين في نيويورك، فهاج الكاوبوي ودمر بلدين، هما العراق وأفغانستان، والحبل على الجرار، كما يقولون.

هي "القاعدة" إذن – مجاميع مقاتلة من دون حس سياسي أو رؤية مستقبلية واضحة، تقاتل عدوها حتى إذا هزمته، في تصورها، عادت لتقاتل بعضها بعضا حتى الهزيمة. إنها عنوان المرحلة، عنوان الهزيمة الحضارية التي نمر بها، عندما وُضعنا في الزاوية الحرجة، وقد جردنا من كل وسائل الدفاع عن النفس أمام هجمة عالمية رهيبة وضعتنا بكل خبث ودهاء في هذه الزاوية لكي نصل إلى ما وصلنا إليه اليوم، حيث خرجت مجاميع منا يقودون عملية انتحار جماعي رهيب موجه ضد المسلمين في المقام الأول.

عجزنا عن المواجهة عندما انتفى التكافؤ، فتحولت المعركة إلى ضرب من الهجمات الانتحارية العبثية، التي لا تعدو كونها مقدمات للانتحار الفكري والموت الحضاري الذي نوشك أن ندخل فيه. لا يمكن اعتبار أعمال "القاعدة" أكثر من عنوان هزيمة لا راية انتصار، مجرد عرَض للمرض الأكبر الذي نعانيه فقهياً وفكرياً، والهزيمة التي نتجرع مرارتها حضارياً. إنها عملية موت بطيء على المستوى المادي، حيث غالبية قتلى "القاعدة" من المسلمين، وعلى المستوى الفكري، حيث يتوسع الفكر المعلب، وتختطف الميكرفونات الناطق باسم الله والإسلام.

وعلى الرغم من أن الأسباب التي تقاتل لأجلها "القاعدة"، وتخوض معاركها العبثية على أساسها، على الرغم من أن هذه الأسباب لا دينية، بل سياسية في معظمها، إلا أن "القاعدة" ألبست حربها ثوباً دينياً، وأخذت نصوصاً من سياقاتها لتأصل لأعمالها الخارجة عن ضوابط النقل والعقل على السواء.

تقاتل "القاعدة" حسب أدبياتها لأهداف تدور كلها "حول طرد قوات التحالف اليهودي الصليبي من بلاد المسلمين، واستعادة الخلافة"، وهذه أهداف سياسية، إلا أن كثرة استشهاد "القاعدة" بالنصوص الدينية، وإخراجها عن سياقاتها، سوغ لمجاميع الإسلاموفوبيا الغربية الترويج لفكرة "الحرب الدينية" في الإسلام، الحرب التي "يخوضها الجهاديون على أساس ديني، لقتال اليهود والنصارى لأنهم غير مسلمين".

ليس في الإسلام قطعاً – حرب دينية بهذا المعنى، والجهاد في الواقع ليس حرباً دينية، بمعنى أنه ليس وسيلة لفرض الإسلام على غير المسلمين. الجهاد الذي أخرجته "القاعدة" من سياقاته الشرعية والتاريخية لم يشرع لأسباب دينية، ولكن لأسباب سياسية تتعلق بأمور دنيوية لا دينية، بمعنى أن الإذن بالجهاد جاء اضطراراً للظلم الذي وقع على المسلمين، الذين أخذت أموالهم وطردوا من ديارهم، وهذه أسباب لا علاقة لها بفرض الإسلام على غير المسلمين، كما يروج متطرفو اليمين الأورو – أمريكي، استناداً إلى أدبيات "القاعدة"، وحركة الاستشراق.

روبرت بيب واحد من أشهر المختصين في دراسات الإرهاب، في جامعة شيكاغو درس العمليات الإرهابية بين عامي 1980 و2005، وأخذ عينة من 315 عملية. بعد دراسات مستفيضة، وتحليل خطاب مفصل، خرج إلى نتيجة صادمة للقائلين ب"الحرب الدينية"، قال: "هناك علاقة واهية جداً بين العمليات الانتحارية والأصولية الإسلامية، ولكن كل العمليات الانتحارية تشترك في كونها جاءت لأهداف استراتيجية سياسية، لا دينية، تتمثل في الضغط على "الديمقراطيات" المعاصرة لسحب قواتها من الأراضي التي يعتبرها الإرهابيون أرضهم". وهي أهداف لا علاقة لها بنشر الإسلام وفرضه على غير المسلمين، كما تروج الجماعات اليمينية في الغرب، التي – للمفارقة العجيبة – تلتقي معها "القاعدة" في نظرتها للجهاد في الإسلام.

وعلى الرغم من ذلك، فقد خطفت "القاعدة" مفهوم الجهاد في الإسلام، حتى أصبح لفظ "الجهاديين" اليوم يعني عملياً مقاتلي "القاعدة" بكل ما يمثلونه من بعد عن أخلاق الجهاد في الإسلام، ولم تكتف "القاعدة" باختطاف "الجهاد" الذي يمثل العقيدة "القتالية لدى المسلمين ضد المعتدين"، بل اختطفت الإسلام بأكمله لتدخله معها إلى حيث الكهوف المظلمة التي تخرج منها شرائط الموت والدمار.

مشكلة "القاعدة" أنها تنظر للإسلام على أساس أنه – بالمقام الأول – مجموعة من المعارك التي انتصر فيها المسلمون، وليس على أساس من التشريع الذي راعى الواقع والمصالح، ومراحل القوة والضعف. "القاعدة" أخذت للإسلام الصورة التي ظهر فيها آخر مرة وهو في قمة انتصاره، وكلفت نفسها إعادة إنتاج هذه الصورة، ولكن بشكل بدائي جنى على الصورة وأهلها. لا تنظر "القاعدة" إجمالاً – إلى فترة الإسلام المكي، حيث الاستضعاف والصبر والدعوة، ولكن تستهويها صورة العصر المدني وما تلاه من عصور الانتصارات العسكرية التي جمدت "القاعدة" حركة التاريخ عندها، تفعل "القاعدة" ذلك على الرغم من أننا اليوم من حيث المعطى أقرب إلى المرحلة المكية منا إلى المرحلة المدنية إذا ما اسقطنا التاريخ على الواقع.

إن "القاعدة" ليست تصرفاً مشروعاً، وعملاً مدروساً، ولكنها ردة فعل اعتباطية وغير منظمة لهزيمة سياسية وعسكرية لحقت بالمسلمين على مدى قرون، إنها ليست مجرد ردة فعل على الهزيمة، ولكنها كما ذكرنا هزيمتنا الأخلاقية والدينية، والحضارية في أقوى تجلياتها.

لا يمكن تصور محمد صلى الله عليه وسلم يفخخ سيارة في سوق ، أو يحمل حزاماً ناسفاً؟ هل يمكن تصوره، وهو يندس بين مجموعة من المدنيين ليفجر نفسه في محاولة عدمية لاستعادة مجد الإسلام، بالطريقة التي دأب عليها أنصار "القاعدة". هل يمكن تصوره يندس بين جموع الخارجين من المسجد يوم الجمعة لينفجر فيهم؟ قد يقول قائل إن بعض الأعمال الشنيعة لا تفعلها "القاعدة"، وأنها من صنع مخابرات دولية، وقد يكون ذاك صحيحاً، لكن الصحيح أيضاً أن "القاعدة" لا تتبرأ من مثل هذه العمليات، بل تتبناها في كثير من الأحيان.

أفعال "القاعدة" تجعلها – من حيث تدري أو لا تدري – تلتقي مع رؤية كبار المتطرفين من المحافظين الجدد في الغرب عن الجهاد والإسلام بشكل عام، هؤلاء الذين لا يكفون عن القول إن الإسلام دين الحرب والعنف والسيطرة، على الرغم من أن كلمة "الإسلام" مشتقة من الأصل اللغوي ذاته الذي اشتقت منه كلمة "السلام"، التي جُعلت بدورها – تحية أهله، واسماً للدار التي يؤول إليها مصير المتقين حسب نصوصه، بل إن سور القرآن تبدأ باسم الله "الرحمن الرحيم"، وليس باسم "إله الحرب"، كما لدى أديان أخرى.

ومع ذلك، لا أحد ينكر أن الإسلام أجاز استعمال القوة والأعمال العسكرية في سياقات محددة وبقوانين صارمة تحدد الكيفية والآلية والظروف والسياقات التي يتم فيها اللجوء إلى العمل العسكري بنصوص واضحة، غير أن "القاعدة" أخذت تلك النصوص خارج سياقاتها التاريخية، وأسقطتها على غير واقعها.

مرة قال توم فريدمان إنه لو كانت أوروبا مسلمة لما قتل أكثر من ستة ملايين يهودي في المحرقة. وهي شهادة تكفي ليفهم دانيل بايب وأمثاله أن مفهوم الجهاد في الإسلام ليس المرادف لمفهوم "الحرب الدينية" أو "الحرب المقدسة"، الثابت في الميثولوجيا القديمة، أو الثيوقراطية المسيحية في ثوبها الصليبي في العصور الوسطى.

زر الذهاب إلى الأعلى