من الأرشيف

الأزمة الخليجية بحاجة إلى احتواء سريع

أسهبت شبكة الإذاعة الإيرانية الناطقة بالإنكليزية في تغطية خبر الأزمة الخليجية بين السعودية والإمارات والبحرين من جهة وقطر من جهة ثانية.

ركزت تلك التغطية على أن هذه الأزمة ستقود إلى تفكك مجلس التعاون الخليجي، وانهياره، وادعت الإذاعة أن المجلس عانى دوماً من خلافات وضعف.

في أسلوب صوغ الخبر هناك غبطة يسهل التقاطها بين السطور، يُضاف إليها قدر غير قليل من التفكير الرغائبي بأن تسير الأمور من سيء إلى أسوأ في البيت الخليجي.

يكرر الخبر كذلك استخدام وصف «الخليج الفارسي» بشكل ملفت، وكأنه يحمل رسالة تقول إن أي تجمع إقليمي في الخليج لا تكون إيران على رأسه وتدمغه بالختم الفارسي لن ينجح ويجب أن لا يقوم أساساً.

بل إن اسم مجلس التعاون الخليجي باللغة الإنكليزية Gulf Cooperation Council وهو الاسم الرسمي والدولي المعترف به والمستخدم عالمياً يتم تعديله إلى Persian Gulf Cooperation Council.

ربما لم نكن بحاجة إلى إشارة الإذاعة الإيرانية حتى ندرك أن إيران هي المستفيد الأول والمباشر من الخلاف التي تفجر على السطح داخل البيت الخليجي العربي. وأن التمدد والنفوذ الإيراني المتواصل في المنطقة العربية، من العراق، إلى سورية، إلى لبنان، إلى اليمن، ومعطوفاً عليه جيوب التأييد هنا وهناك سواء في الخليج أو وراءه، هو المستفيد الأول والمباشر من إضعاف الجبهة الخليجية بل والعربية في وقت هي في أمس الحاجة إلى الاستقواء الداخلي.

لا تناقش هذه المقالة أسباب الخلاف ولا تنخرط في السجال الذي لن ينتهي حول من يتحمل المسؤولية، لكنها تتأمل في السيناريوات الكارثية والفورية على المدى القصير والمتوسط، إن لم يتم وقف التدهور بالسرعة القصوى. فمجلس التعاون الخليجي يواجه الآن اخطر تحدّ له، ربما منذ تاريخ تأسيسه في أوائل ثمانينات القرن الماضي، وهو تحد يطاول الأمن القومي لكل بلد من بلدان الخليج العربية بشكل منفرد، كما يطاول امنها الجماعي، ويضع دول المجلس أمام خيارين: إما الاحتواء الفوري للأزمة وتداعياتها، وإما إفساح المجال عريضاً أمام إيران لتخترق الخليج في منطقة القلب منه هذه المرة، وليس على هوامشه كما هي حال الاختراقات الإيرانية في العقود الماضية. وما لا شك فيه أن صناع القرار ومنظري الاستراتيجية الإيرانية في طهران يفركون الآن ايديهم أملاً بأن تتفاقم الأزمة وتزداد توتراً، وينقسم مجلس التعاون الخليجي على نفسه، وتسير الأمور باتجاه السيناريو الثاني ليسهل الاختراق الذي طالما حلمت به طهران.

التحدي الكبير الذي يواجهه مجلس التعاون الخليجي يستلزم مقاربة دقيقة وعقلانية وهادئة بعيدة كل البعد عن ردود الفعل الغاضبة والعاطفية، وتعتمد على تقليب المسألة والنظر في اعتبارات كثيرة منها الآتية:

الاعتبار الأول هو ضرورة إدراك وتعقل الدرس الإيراني في السياسة الإقليمية. وهنا يدفع العرب، وبخاصة عرب الخليج، ثمناً باهظاً إن فات عليهم الدرس المتكرر في السياسة الإيرانية الإقليمية كونها لا تضيّع وقتاً ولا تتردد في اقتناص الفرص بشكل فوري، والمباشرة في تبني خيارات هجومية واستثمارية سياسية كلما لاحت لها فجوة محتملة في الجوار الإقليمي. وربما لن ننتظر طويلاً حتى نرى توظيفاً إيرانياً سريعاً للأزمة الخليجية من قبل طهران. وستحوم ملامح هذا التوظيف حول تكريس الانقسام الراهن وتعزيزه عبر مد جسور «التعاون» و»الديبلوماسية» لتتموضع هذه الجسور في المساحة الفاصلة بين محوري الأزمة: السعودية والإمارات والبحرين من جهة، وقطر وإلى حد ما عُمان والكويت من جهة ثانية. تشجيع بلورة هذين المحورين هو ما سيقع في قلب التوظيف الإيراني المُتوقع، لأن هذا معناه الإبقاء على فجوة الانقسام التي ظهرت فجأة، ثم السهر على رعايتها وتوسيعها.

الاعتبار الثاني هو ضرورة إيقاف الأزمة فوراً وعند حدها الذي وصلت إليه، وعدم السماح لها بالتفاقم عن طريق القيام بأية إجراءات أخرى. فتجميد الأزمة على ما هي عليه والحيلولة دون تدهورها هما الخطوة الأولى لبداية حلها وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه. وهنا يمكن أن يشكل عدم قيام قطر بسحب سفرائها من الدول الثلاث مدخلاً إلى إبقاء الباب مفتوحاً لأية جهود وساطة يمكن أن تبدأ في المستقبل. فالقناعة التي يجب أن تتملك الجميع تكمن في أنه لا يوجد حل عملي إلا بالحوار وإعادة ترسيم العلاقات والمواقف على أسس تعاونية وتكاملية وسيادية. سياسة القطع لا تحل المشكلات، فهذه السياسة في عالم اليوم المتسم بالعلاقات الاقتصادية والسياسية والإعلامية المفتوحة والمركبة والمعولمة ليس لها من ناحية عملية تأثير كبير.

الاعتبار الثالث هو التأمل في سيناريو التدهور ومراحله لإدراك خطورة الموقف. وهنا لنتخيل ما قد ينتج من أية خطوات إضافية تُتخذ من الطرفين، وكيف ستقود كلها إلى تعقيد الأمور والسير بها نحو الهاوية: مثلاً إغلاق الحدود مع قطر ووقف الحركة التجارية والاقتصادية معها، وفي المقابل انفتاح خطوط ديبلوماسية بين قطر وإيران وقيام زيارات من قبل وزير الخارجية الإيراني مثلاً للدوحة ومسقط، أو العكس. هذا فضلاً عن تدمير التداخل الاقتصادي والاستثماري الكبير والمتشابك بين أسواق بلدان الخليج، وهو أمر لا يحتاج إلى إثبات. وعلى سبيل المثال والإشارة السريعة هنا ذكرت تقارير اقتصادية منذ اقل من أسبوعين أن المستثمرين القطريين في سوق العقارات الإماراتي يتصدرون قائمة الاستثمار في ذلك القطاع.

الاعتبار الرابع هو إعادة تذكر إحدى القواعد الصعبة في مشروعات التكامل الإقليمي، وهي صعوبة توحيد السياسة الخارجية والسياسات الأمنية، وتجربة الاتحاد الأوروبي تقدم الدرس الأكثر غنى في هذا الصدد. فهذه التجربة التي تعتبر رائدة بين تجارب التكامل الإقليمي في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية تقول لنا إن هناك جوانب في هذا التكامل يمكن تحقيقها والتقدم في إنجاز مستويات عالية في تنفيذها مثل الجانب الاقتصادي والجمركي وجانب تنقل الأفراد والبضائع، وجوانب أخرى متعلقة بالفن والتشريعات وحقوق الإنسان وغيرها. وفي المقابل هناك جوانب بالغة الصعوبة حيث يتسم التقدم في إنجازها وتحقيق مستويات ولو متواضعة فيها بالبطء والتدريج وأحياناً الجمود، وعلى رأس هذه الجوانب السياسة الخارجية المشتركة، وكذلك السياسات الأمنية الداخلية - وهذه تختلف عن الاستراتيجيات الكبرى التي تكون أحياناً هي الدافع الأساسي للتكامل الإقليمي، كالانخراط في حلف «الناتو» مثلاً كإطار عسكري يحمي المنظومة برمتها. لكن المقصود بالسياسات الأمنية هنا ما يتعلق بالداخل والمجتمعات والتهديدات «غير الوجودية».

الاعتبار الخامس، وبالتأكيد ليس الأخير إذ هناك اعتبارات أخرى يمكن إضافتها، يتعلق بمستقبل التعاون بين دول الخليج والطروحات الأخيرة التي نوقشت في القمم الخليجية بشأن الانتقال من مرحلة «مجلس التعاون الخليجي» إلى «الاتحاد الخليجي». مستقبل تلك الأفكار الطموحة يجب أن يتم التمهيد له عبر مراحل وسيطة تعزز من التعاون والتسييس الخليجي الداخلي على أسس براغماتية ومصالح متبادلة. والأزمة الحالية تطرح بقوة ضرورة إيجاد آلية خليجية لفض النزاعات تكون فعالة وقوية وتقف إلى جانب التقدم إلى الإمام عند الرغبة في الانتقال إلى أية مرحلة جديدة من التعاون.

في السياسة والعلاقات الدولية والإقليمية لا تعتبر الخلافات شيئاً نادراً أو مُستغرباً، بل ربما كانت هي النمط الأكثر تسيداً، والسياسة أصلاً هي حسن إدارة تلك الخلافات وتقليلها إلى الحد الأدنى وتفادي انعكاساتها السلبية. الأزمة الحالية من هذا المنظور يمكن تحويلها إلى مناسبة لاجتراح مقاربات إيجابية وآليات مستقبلية تقوم على قاعدة احتواء الخلافات والسيطرة عليها وحلها، وعدم تركها للسيطرة على الحكومات والدول وبالتالي قيادة الجميع إلى المجهول.

* أكاديمي وكاتب عربي

Email: [email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى