كثيرة هي الدروس التي أوصى ويوصي بها واقع الصومال الراهن، وبعضها إن لم تكن كلها على درجة عالية من القدرة على إعطاء العبرة وإذكاء حاسة الشعور بالمخاطر قبل الانزلاق إليها، وما يهمني في هذه الإشارات ليس ما وصل إليه الصومال من تمزق واحتراب وما وصل إليه أهله من بؤس وشتات وما تركته هذه الحالات من دروس قاسية ومريرة كان من حق شعوب كثيرة في المنطقة الاستفادة منها وعدم تكرار الأخطاء التي أدت إليها، وإنما يهمني من صومال اليوم درس إيجابي جدير بالمحاكاة والاقتداء، وأن يأتي هذا الدرس من الصومال الممزق الجريح فإنه يدل على شيء كبير ومهم، ذلك الشيء هو أن الأحداث المؤلمة التي دمرت الدولة في تلك البلاد، ودمرت المباني لم تدمر عقل الإنسان الذي ظل حياً ينبض ويفكر ويبحث عن الحلول العاجلة لإيقاف امتداد المأساة إلى كل شيء في حياة الناس والدفع بهم إلى الوقوف في حالة من الحيرة الشاملة والإحباط التام.
الدرس الذي أتحدث عنه وأرى فيه قدراً عظيماً من الإيجابية ويؤكد بقاء العقل الصومالي واستعداده للخروج بالبلاد من بعض الأزمات الخانقة ومنها على سبيل المثال أزمة الكهرباء، فقد عرفت وتأكد لي أن الصومال الذي يعيش حالة حرب طويلة المدى، وحالة انفلات قل نظيرها مازال مغموراً في مدنه وقراه بالأضواء التي تمكنه من النشاط ومن مواصلة مسيرة الحياة، ولم يشهد ما تشهده بعض المدن العربية من إطفاءات يجعلها تعيش في ظلام دامس.
ويعود الفضل في الإضاءة الدائمة التي تغمر الصومال إلى العقول المتبقية والقادرة على تجاوز الظلام. وإذا كانت قد عجزت عن تجاوز الحرب والانقسامات.
فقد اهتدت هذه العقول النيرة إلى ضرورة استخدام الطاقة الشمسية والاستغناء النهائي عن التيار الكهربائي والمولدات التي تصم الآذان، وما زاد إعجابي أن استخدام الطاقة الشمسية وهي طاقة نظيفة ورخيصة ومتوفرة في المنطقة بكميات لا حدود لها قد وصلت إلى الريف الصومالي وبدأت تساعد الفلاحين على رفع المياه إلى المزارع المحرومة منه وبتكاليف لا تكاد تذكر قياساً بثمن الكهرباء.
وروى لي أحدهم أن استخراج المياه من الآبار في مزارع الخضار والفاكهة يتم عن طريق الطاقة الشمسية ولم يعد المزارع يبحث عن البترول والديزل وأصبح تجار هاتين المادتين في حالة من الغضب والإفلاس، فقد تجاوزتهم المعرفة البسيطة ولم يعودوا قادرين على التهريب والمغالاة في أسعار كل من البترول والديزل ولست أدري كيف غابت عنا مثل هذه الأمثولة، ولماذا يتعرض الفلاّح في بلادنا للابتزاز ولغياب الديزل وارتفاع أثمانه، ثم لماذا نقضي معظم ليالينا في الظلام الدامس لاسيما في القرى التي كانت قد بدأت تشهد نوعاً من الإنارة الحديثة، وبدأت تتابع أخبار العالم وانتصاراته العلمية عن طريق التلفزيون الذي تحوّل في الأيام الأخيرة إلى صندوق صامت يشبه بقية الصناديق التي تحفظ وثائق الملكية (البصائر) وما خلّفه الآباء والأجداد من نفائس عزيزة على القلوب من أثواب وطنافس نادرة .
والسؤال الذي تحاول الأوضاع الراهنة في بلادنا تغييبه أو نفيه، هو: لماذا كانت الحاجة أم الاختراع في الصومال ولم تسهم حاجاتنا -وهي كبيرة- في حل مشكلة واحدة من مشكلاتنا المتراكمة؟ ولماذا لا نزال نتحدى قناصة خطوط الكهرباء بإعادة إصلاح هذه الخطوط وإعلان أسماء هؤلاء القناصة في وسائل الإعلام بدلاً عن البحث عن وسائل وأساليب جديدة لإنارة المدن ومنها الطاقة الشمسية التي تجعل من الصعب على القناصة مهما كانت قوتهم ومدى نفوذهم أن يعتدوا على خيوط الشمس أو على الشمس نفسها؟ ومن حسن حظ بلادنا وأهلها أن الشمس لا تغيب عنها طوال أيام العام، وأن هناك مصادر أخرى لإنتاج الطاقة النظيفة وهي متوفرة في بلادنا نتيجة تكويناتها وتضاريسها المختلفة، ومن ذلك طاقة الرياح.
وفي جبل نقم وما حول صنعاء من جبال عالية لا تكف رياحها عن الحركة ما ينتج آلاف من «الميجاوات» يضاف إلى ذلك المياه الحارة التي تتوزع في أماكن عديدة من البلاد، وتكفي لإنارة المحافظات جميعها.
لقد أكلت السياسة بمفهومها السلبي والانفعالي عقول اليمنيين وأخشى أن أقول وضمائرهم، ولم يعد في مقدورهم -تحت هذا الكابوس السياسي- أن ينظروا إلى أبعد من مصالحهم الذاتية الآنية، وكأنهم لا يسمعون الصراخ الذي يتع إلى كل يوم عن غياب الكهرباء والغاز والديزل وهي من ضروريات الحياة، ومن منتجات هذا البلد الغني بكل شيء والفقير إلى كل شيء.
الروائي الكبير محمد الغربي عمران في روايته الثالثة:
(الثائر) هو عنوان الرواية الجديدة للكاتب والروائي المبدع محمد الغربي عمران، وقد أخذتني -شأن سابقتيها- بعيداً عن الحالة الراهنة في رحلة فنية تاريخية تجمع بين الواقع والأسطورة في سرد بالغ العذوبة وفي لغة على درجة عالية من الوضوح والاتقان. الرواية صادرة عن دار الساقي في بيروت.
تأملات شعرية:
تطاردني حين تنطفئ الكهرباء
عيونُ المساء
وأصواتُ شعبٍ يئن من الجور
يشكو ظلامتَهُ وانكساراتهِ
لإلهِ السماء.
أيها الراكضون وراء سرابٍ
من الوهم
ماذا صنعتم لهذي البلاد
وماذا تبقى لكم
ولنا
أيها الراقصون على جثث الأبرياء.