المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية قصة فشلٍ معروفٍ سلفاً. ويكفي لهذا الاستنتاج الرائج أنها لا تجري على أساسٍ متفق عليه، سواء كان هذا الأساس قرارات دولية، أو حتى مصلحة مشتركة بالتوصل إلى حلٍّ يتوفر على حد أدنى من العدالة، مقبولٍ من الشعب الفلسطيني. وتضاف مع الزمن أَسباب أخرى، منها تعاظم قوة اليمين الإسرائيلي والضعف العربي، إقليمياً ودولياً وغيره.
حصلت القيادة الفلسطينية على سلطةٍ في ظل الاحتلال، مقابل الاعتراف بإسرائيل، والتنازل عن المقاومة المسلحة، والذي تحوّل إلى عقيدةٍ أمنيةٍ بديلةٍ عن المقاومة، تتضمن التنسيق الأمني مع إسرائيل.
أما تحوّل هذه السلطة إلى دولة ذات سيادة فعلية على الأرض، فقد بات رهينة التفاوض في ظل موازين القوى بين المحتل والواقع تحت الاحتلال، وليس على أساس قاعدةٍ متفق عليها.
نقول "رهينة"، لأنه منذ بدأت المفاوضات الثنائية هُمِّشَت القرارات الدولية؛ وجرى تهميش حتى التضامن الأممي الديمقراطي مع الشعب الفلسطيني، إذ أصبح كل شيء رهنًا بنتيجة التفاوض الثنائي.
الأفق المسدود للتفاوض ليس سكوناً، بل تجري في ظله عمليات تكثيف الاستيطان في المناطق المحتلة، وتحويل القدس إلى غيتو عربي في مدينة يهودية. ويجاب عليه فلسطينياً بالتلويح بالعودة إلى المنظمات الدولية، مما يعني مغادرة معادلة المفاوضات الثنائية، وهو ما تعتبره إسرائيل خطواتٍ من طرفٍ واحد قد تجيب عليها، بدورها، بخطواتٍ من طرف واحد، ولكن، على الأرض، وليس في المنظمات الدولية. كل "طرف" يلجأ إلى الساحة التي يعتبرها مصدراً لقوته.
قد يقود ذلك إلى مواجهةٍ، على الأرض وعلى المستوى الدولي. وأضعف ساحات المستوى الدولي الساحة العربية التي يطالب الأميركيون حكامها، في كل مرة، بأن ينصحوا القيادة الفلسطينية ب"عدم تفويت الفرصة هذه المرة"؛ ولا فرصة ولا يحزنون.
ومنذ مرحلة ما قبل الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، وحتى استشهاد ياسر عرفات، غالباً ما كان يضغط على القيادة الفلسطينية بالتلويح بإيجاد بدائل لها. ومؤخّرًا، ونتيجة ملابساتٍ إقليميةٍ وُجِدَت أطرافٌ عربيةٌ تساعد في طرح هذه الإمكانية لابتزاز قيادة السلطة. والمطروح في الواقع هو بدائل إسرائيلية، فقد أصبح حتى محمود عباس يعتبر متطرفًا ومتصلّبًا.
لغرض مواجهة هذا الواقع، ولا سيما الخطوات الإسرائيلية الأحادية الجانب، لا بد من التوصل إلى صيغةٍ وحدوية فلسطينيةٍ تجمع حركتي حماس والجهاد الإسلامي مع حركة فتح وبقية القوى الفلسطينية في قيادة منظمة التحرير، وإقامة حكومة وحدة وطنية فلسطينية. وثمة مصلحة لغزة ولحركة حماس في ذلك، فمسؤوليات السلطة في غزة أصبحت عبئًا على المقاومة. ولا حاجة للتفصيل، فالحصار المديد ليس تفصيلاً، وكذلك تأثيرات السلطة على حركة حماس. لا يجوز أن يدوم وضع غزة كحالة مستقلة عن بقية الشعب الفلسطيني. وتكريس مثل هذه الحالة، وإعادة إنتاجها، وما يتطلبه ذلك في ظل الحصار، هو ذاته مأزق حقيقي.
هذا أكيد، ولكن مخاوف حركة حماس من نوايا السلطة الحالية الحاكمة في مصر أكيدة أيضا. وفي حالة الوحدة الفلسطينية، وقيام سلطة مشتركة في غزة، لا بد من منح حركة حماس ضمانات فلسطينية وإقليمية أنها سوف تكون شريكاً حقيقياً، ولن تتعرض لما يتعرض له غيرها في مصر حالياً. وسوف يبقى ضمانها الرئيسي أنها قوة عسكرية وأمنية فعلية، وليست مجرد سلطة منتخبة لا تحكم فعلا.
نشأت، في الماضي، شكوك أن هدف قيادة حركة فتح الوحيد من المصالحة هو إجراء انتخابات، لتصحيح ما تعتقد أَنه هفوة تاريخية. ولكن الانتخابات في ظل تهديدٍ دوليٍّ، وإسرائيليٍّ، وحصارٍ مديدٍ على غزة، نتيجة لحرية الاختيار التي مارسها الشعب الفلسطيني سابقاً، لا توحي بحرية الانتخاب، ولا تعني إِلا تعميقاً للشرخ. فالانتخابات التي لا تجري في ظل وحدة وطنية تهدد، غالباً، بالتحول إلى صراعات أهلية.
لهذا، يجب أن تثبت السلطة في رام الله أن هدفها من المصالحة ليس الانتخابات وحدها، بل الوحدة الوطنية، في حين يقع على حركة حماس أن تثبت أنها لا تعارض الانتخابات مبدأً، ولا تخشاها، وأن تبادر هي وتقترح موعدا لذلك، ولو بعد عام من تحقيق المصالحة وقيام حكومة الوحدة الوطنية التي توفر الظروف لإجرائها.
من شأن حكومة وحدةٍ وطنيةٍ سابقةٍ على الانتخابات أن تغيّر الأجواء فلسطينياً، وتخلق، أيضاً، أجواء الثقة اللازمة للانتخابات. ولتعتبر القوى الفلسطينية هذه الحكومة مرحلةً انتقاليةً محددةً ومنضبطة بمواعيد! ليس للفلسطينيين دولة ذات سيادة، ولا هم حققوا الحد الأدنى من مطالبهم الوطنية، ليخوضوا في لعبة السلطة والمعارضة.
وزيادةً في تأكيد الوحدة الوطنية في مواجهة الاحتلال، يجب أن تكون الأولوية لصياغة وحدوية لمنظمة التحرير، بموازاة تشكيل حكومة وحدة وطنية. ولماذا لا تُخاض الانتخابات نفسها في قائمة مشتركة؟ هذه ليست أضغاث أحلام، بل هي أمور طبيعية، إذا كان الهدف هو الوحدة الوطنية فعلاً.
البقية، بما فيها الملفات الخمسة للمصالحة، هي، برأيي، تفاصيل لا تهم أحداً إذا حضر ما هو جوهري، وهو الوحدة الوطنية في مواجهة الاحتلال، ويصبح كل تفصيل فيها عائقاً أمام المصالحة، إذا لم تكن مواجهة المأزق هي الموضوع.