من الأرشيف

الروشتات القاتلة..!!‏

لا توجد دولة في العالم الثالث اتبعت «روشتات» المؤسسات المالية الدولية «صندوق النقد ‏والبنك الدوليين» وبقيت بخير، أو لقيت عافية لاقتصادها واحتياجات ناسها من الخدمات ‏والمتطلبات المعيشية في حدّها الأدنى.‏

وعلى العكس من ذلك كانت هذه «الروشتات» والوصفات نكالاً على هذه البلدان؛ فلا ‏‏«الإصلاحات الاقتصادية» أثمرت؛ ولا الحالة الاجتماعية هدأت، بل على العكس من ذلك؛ ‏انفجرت الاضطرابات الاجتماعية، وتدهور الاقتصاد، ودُفعت الحالة كلها إلى شفير الهاوية.‏

وقد اعترف «الأطباء» الدوليون أنفسهم بفشل هذه الوصفات التي عمّمت تحت مسمّى ‏‏«الإصلاحات الاقتصادية» التي تم إقرارها من قبل ما سمي في منتصف التسعينيات «إجماع ‏واشنطن» ودوّنوا هذا الفشل واعترفوا به بأكثر من صيغة، وكتب عنه منظّر «الرأسمالية ‏المتوحشة» ونهاية التاريخ؛ فرانسيس فوكوياما، والذي لخّص هذا الفشل لوصفات المؤسسات ‏الدولية في كتابه «بناء الدولة» بقوله إن رفع يد الدولة وتقليص تدخلها في مجالات معينة مثل ‏الشؤون الاقتصادية، وبيع القطاع العام؛ كان ينبغي أن يترافق مع زيادة تدخُّلها في مجالات ‏أخرى وتقويته.‏

ويستطرد فوكوياما بقوله: إن المشكلة نتجت عن كون الإجراءات التي اتخذت لتقليص دور ‏الدولة في بعض المجالات كان يجب أن تتزامن مع تقوية دورها في مجالات أخرى، وقد أدرك ‏الاقتصاديون الداعون إلى هذه الإصلاحات الليبرالية هذه الحقيقة تماماً على الصعيد النظري؛ ‏لكن التركيز النسبي في تلك الفترة انصب بشكل أكبر بكثير على تقليص نشاطات الدولة، ‏الأمر الذي يمكن إساءة تفسيره عمداً أو الخلط بينه وبين محاولة تحجيم قدرات الدولة في ‏المجالات كافة.‏

ويضيف قائلاً: إن أجندة بناء الدولة، والتي لا تقل أهمية عن أجندة تقليص دورها، لم تعطِ ‏قدراً موازياً من الاهتمام والتفكير، فكانت النتيجة فشل الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية في ‏تحقيق الوعود التي قطعتها على نفسها في العديد من دول العالم الثالث، وأدّى غياب الإطار ‏المؤسساتي الملائم إلى ترك تلك الدول في وضع أسوأ مما كان يمكن أن تكون عليه في الواقع ‏بغياب تلك الإصلاحات.‏

ويوضّح أن المشكلة الحقيقية كانت فشلاً مفهوماتياً أساساً بأبعاد الدولة الواجب تحريرها، ‏وبعلاقة هذه الأبعاد المختلفة بعملية التطوير الاقتصادي، وإذا قسنا على هذا المنوال، وأخذنا ‏الإصلاحات الاقتصادية في اليمن حزمةً واحدة، وهي المنبثقة من نفس الوصفات الدولية؛ فإن ‏ما كان ينبغي فعله منذ بداية برنامج الإصلاحات الاقتصادية؛ هو أن يترافق مسار رفع الدعم ‏عن المشتقات النفطية والسلع الغذائية مع خطوات موازية على المسارات الأخرى المتعلّقة ‏بترشيد وخفض النفقات العامة واستهلاك المشتقات النفطية، وكذلك النفقات الاستهلاكية ‏والنثريات والمصروفات الباهظة وصرف السيارات وغيرها، وزيادة الإيرادات الضريبية ‏والجمركية وفي المقدّمة منها تطبيق قانون «ضريبة المبيعات» باعتباره الأساس الأكبر ‏للإيرادات الضريبية في كل دول العالم، وإصلاح نظام الخدمة المدنية، وتطبيق نظام البصمة ‏في مؤسستي الجيش والأمن، وتنقية الكشوفات من الأسماء الوهمية التي أثقلت كاهل الموازنة ‏والتي تمثّل أعداداً كبيرة تصل إلى مئات الآلاف تذهب ميزانياتها إلى جيوب النافذين ومراكز ‏القوى، بالإضافة إلى ذلك تفعيل مكافحة الفساد بشكل حقيقي، والتخلُّص من الازدواج الحقيقي، ‏وغيرها من الخطوات التي تضمّنها برنامج الإصلاحات الاقتصادية.‏

غير أن «الجرعات» مضت الواحدة تلو الأخرى منذ عام 98م من القرن الماضي من قبل ‏الحكومات المتواليةسابقاً، ولم يتم اتخاذ أي إجراءات موازية في جميع المسارات، فيما عدا ‏مسار واحد هو مسار الجرعات القاتلة، وكأن الشعب هو الجدار القصير أمام الحكومات ‏المتعاقبة؛ التي لم تجرؤ على الاقتراب من عش الدبابير ومكافحة الفساد المعشعش في دهاليزه، ‏وإعادة صياغة الموازنة العامة للدولة بما يقلّص الإنفاق الوهمي والإنفاق العسكري والأمني ‏المتضخّم الذي يذهب إلى البطون المنتفخة، فيما العسكر والجنود في الجيش والأمن يعانون ‏الفاقة وقلّة اليد أمام متطلبات الحياة المتزايدة التي لم يعد الراتب يفي بالحد الأدنى منها.‏

إذا كان هذا التقاعس عن المُضي في بقية مسارات الإصلاحات الاقتصادية مفهوماً قبل ‏الثورة الشعبية في 2011م، فإنه جريمة لا تُغتفر بعد ذاك الحراك الشعبي الواسع الذي كانت ‏مصلحة الناس الهدف الجوهري له.‏

لا يمكن أن يتفهم الناس رفع الدعم عن المشتقات النفطية، فيما مخصّصات الإعاشة للنُخبة ‏المترفة بالمليارات في الموازنة العامة للدولة، وصرف السيارات الفارهة والمدرّعة شغال ‏ومستمر للمتحاصصين على مواقع المسؤولية العامة في الوزارات والمؤسسات وعلى جميع ‏المستويات.‏

لقد تحوّلت الحياة اليومية للناس إلى أزمة يومية مع انقطاعات الكهرباء، وزحمة البحث عن ‏البنزين في الأيام الماضية، ومسلسل الاغتيالات والاختلالات الأمنية، ولن يكون رفع الدعم ‏فيما إذا ركب صندوق النقد رأسه وجارته حكومة الوفاق في جنونه؛ لن يكون سوى القشّة التي ‏ستلتهب لتشعل كومة الأزمات كلها في حريق فوضوي لن يستطيع أحد السيطرة عليه أو ‏الاستفادة منه أو توظيفه في الأجندات الحزبية الفاسدة..!!.‏

زر الذهاب إلى الأعلى