لا توجد دولة في العالم الثالث اتبعت «روشتات» المؤسسات المالية الدولية «صندوق النقد والبنك الدوليين» وبقيت بخير، أو لقيت عافية لاقتصادها واحتياجات ناسها من الخدمات والمتطلبات المعيشية في حدّها الأدنى.
وعلى العكس من ذلك كانت هذه «الروشتات» والوصفات نكالاً على هذه البلدان؛ فلا «الإصلاحات الاقتصادية» أثمرت؛ ولا الحالة الاجتماعية هدأت، بل على العكس من ذلك؛ انفجرت الاضطرابات الاجتماعية، وتدهور الاقتصاد، ودُفعت الحالة كلها إلى شفير الهاوية.
وقد اعترف «الأطباء» الدوليون أنفسهم بفشل هذه الوصفات التي عمّمت تحت مسمّى «الإصلاحات الاقتصادية» التي تم إقرارها من قبل ما سمي في منتصف التسعينيات «إجماع واشنطن» ودوّنوا هذا الفشل واعترفوا به بأكثر من صيغة، وكتب عنه منظّر «الرأسمالية المتوحشة» ونهاية التاريخ؛ فرانسيس فوكوياما، والذي لخّص هذا الفشل لوصفات المؤسسات الدولية في كتابه «بناء الدولة» بقوله إن رفع يد الدولة وتقليص تدخلها في مجالات معينة مثل الشؤون الاقتصادية، وبيع القطاع العام؛ كان ينبغي أن يترافق مع زيادة تدخُّلها في مجالات أخرى وتقويته.
ويستطرد فوكوياما بقوله: إن المشكلة نتجت عن كون الإجراءات التي اتخذت لتقليص دور الدولة في بعض المجالات كان يجب أن تتزامن مع تقوية دورها في مجالات أخرى، وقد أدرك الاقتصاديون الداعون إلى هذه الإصلاحات الليبرالية هذه الحقيقة تماماً على الصعيد النظري؛ لكن التركيز النسبي في تلك الفترة انصب بشكل أكبر بكثير على تقليص نشاطات الدولة، الأمر الذي يمكن إساءة تفسيره عمداً أو الخلط بينه وبين محاولة تحجيم قدرات الدولة في المجالات كافة.
ويضيف قائلاً: إن أجندة بناء الدولة، والتي لا تقل أهمية عن أجندة تقليص دورها، لم تعطِ قدراً موازياً من الاهتمام والتفكير، فكانت النتيجة فشل الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية في تحقيق الوعود التي قطعتها على نفسها في العديد من دول العالم الثالث، وأدّى غياب الإطار المؤسساتي الملائم إلى ترك تلك الدول في وضع أسوأ مما كان يمكن أن تكون عليه في الواقع بغياب تلك الإصلاحات.
ويوضّح أن المشكلة الحقيقية كانت فشلاً مفهوماتياً أساساً بأبعاد الدولة الواجب تحريرها، وبعلاقة هذه الأبعاد المختلفة بعملية التطوير الاقتصادي، وإذا قسنا على هذا المنوال، وأخذنا الإصلاحات الاقتصادية في اليمن حزمةً واحدة، وهي المنبثقة من نفس الوصفات الدولية؛ فإن ما كان ينبغي فعله منذ بداية برنامج الإصلاحات الاقتصادية؛ هو أن يترافق مسار رفع الدعم عن المشتقات النفطية والسلع الغذائية مع خطوات موازية على المسارات الأخرى المتعلّقة بترشيد وخفض النفقات العامة واستهلاك المشتقات النفطية، وكذلك النفقات الاستهلاكية والنثريات والمصروفات الباهظة وصرف السيارات وغيرها، وزيادة الإيرادات الضريبية والجمركية وفي المقدّمة منها تطبيق قانون «ضريبة المبيعات» باعتباره الأساس الأكبر للإيرادات الضريبية في كل دول العالم، وإصلاح نظام الخدمة المدنية، وتطبيق نظام البصمة في مؤسستي الجيش والأمن، وتنقية الكشوفات من الأسماء الوهمية التي أثقلت كاهل الموازنة والتي تمثّل أعداداً كبيرة تصل إلى مئات الآلاف تذهب ميزانياتها إلى جيوب النافذين ومراكز القوى، بالإضافة إلى ذلك تفعيل مكافحة الفساد بشكل حقيقي، والتخلُّص من الازدواج الحقيقي، وغيرها من الخطوات التي تضمّنها برنامج الإصلاحات الاقتصادية.
غير أن «الجرعات» مضت الواحدة تلو الأخرى منذ عام 98م من القرن الماضي من قبل الحكومات المتواليةسابقاً، ولم يتم اتخاذ أي إجراءات موازية في جميع المسارات، فيما عدا مسار واحد هو مسار الجرعات القاتلة، وكأن الشعب هو الجدار القصير أمام الحكومات المتعاقبة؛ التي لم تجرؤ على الاقتراب من عش الدبابير ومكافحة الفساد المعشعش في دهاليزه، وإعادة صياغة الموازنة العامة للدولة بما يقلّص الإنفاق الوهمي والإنفاق العسكري والأمني المتضخّم الذي يذهب إلى البطون المنتفخة، فيما العسكر والجنود في الجيش والأمن يعانون الفاقة وقلّة اليد أمام متطلبات الحياة المتزايدة التي لم يعد الراتب يفي بالحد الأدنى منها.
إذا كان هذا التقاعس عن المُضي في بقية مسارات الإصلاحات الاقتصادية مفهوماً قبل الثورة الشعبية في 2011م، فإنه جريمة لا تُغتفر بعد ذاك الحراك الشعبي الواسع الذي كانت مصلحة الناس الهدف الجوهري له.
لا يمكن أن يتفهم الناس رفع الدعم عن المشتقات النفطية، فيما مخصّصات الإعاشة للنُخبة المترفة بالمليارات في الموازنة العامة للدولة، وصرف السيارات الفارهة والمدرّعة شغال ومستمر للمتحاصصين على مواقع المسؤولية العامة في الوزارات والمؤسسات وعلى جميع المستويات.
لقد تحوّلت الحياة اليومية للناس إلى أزمة يومية مع انقطاعات الكهرباء، وزحمة البحث عن البنزين في الأيام الماضية، ومسلسل الاغتيالات والاختلالات الأمنية، ولن يكون رفع الدعم فيما إذا ركب صندوق النقد رأسه وجارته حكومة الوفاق في جنونه؛ لن يكون سوى القشّة التي ستلتهب لتشعل كومة الأزمات كلها في حريق فوضوي لن يستطيع أحد السيطرة عليه أو الاستفادة منه أو توظيفه في الأجندات الحزبية الفاسدة..!!.