من الأرشيف

قداسة المشير عبد الفتاح بونابارت

يترجرج الجنرال الجديد في ثياب الجنرال القديم الميّت، يبدو الأمر فكاهيّاً ومضحكاً، وعبثيّاً أيضاً، بحجم المفارقة بين المأساة و الملهاة (المسخرة بتعبير كارل ماركس).

لقد جمعوا له عوادم الماضي الذي يبعثونه من قبره باعتباره اليقين والمجد، في محاولة كوميدية لصناعة أسطورة جديدة، تماماً، كما فعل تحالف "السيف والقلنسوة الكهنوتية" مع لويس بونابرات، قائد الانقلاب على قيم الثورة الفرنسية الأولى.

في الحالة المصرية يصبح التحالف ثلاثيّاً "السيف والقلنسوة الكهنوتية ورجال الأعمال" ينفخون في رماد ماض ناصري، كان أهل القلنسوة والبيزنس على عداء شديد معه، لكنهما الآن لا يمانعان في لحس العداء للاستبداد القديم، لكي ينعموا برغد الاستبداد الجديد.

في سبيل ذلك، لا تعدم أن تسمع خطابا "خمسيناتيّاً وستيناتيّاً" لتسويق دكتاتور العشرية الثانية من الألفية الثالثة، يتحدثون عنه باعتباره "الزعيم الضرورة الجديد" بيد أنهم كي يمرروا هذه الخراف، لابد أن يسبغوا على "القائد الضرورة الميّت "صفات القداسة واليقين ويغسلوه من كل خطأ و هزيمة.

غير أن جوقة الجنرال الجديد تقع في تناقض مدهش، وهي تطوقه بنياشين المجد حين يذهب شرقاً إلى بلاد القياصرة الغابرين وتعتبره "ناصرها" الجديد الذي يرعب أميركا، ثم فجأة تقلده أوسمة الحكمة والكياسة، وهو يهمس بوداعة في أذن واشنطن بعبارات استجداء وتسول لإعادة الود على طريقة عتاب المحبين.

ولا يشعر أحدهم بالخجل أو يجد تناقضاً، وهم مستمرون في التصفيق لشخص ينسلخ من "ناصرية مزيّفة" ليتسربل بنقيضها "ساداتية مدعاة".

وفي حقيقة الأمر، لا هو "ناصر" ولا "سادات"، هو مبارك في أوضح حالاته، ذلك البائع المتجول في حواري وأزقة السياسة العالمية بجراب يخلو من أي سلعة، إلا ما كان يبيعه مورثه من خدمات لقاء استمراره في حكم مصر، ممارساً فساده واستبداده اللانهائيين.

بضاعة مبارك، التي لا يمتلك سواها الجنرال الجديد، تقتضي التماهي الكامل والتناغم التام مع الأجندة "الأميركصهيونية" في المنطقة، ولا تخرج عن "الحرب على الإرهاب"و" ضبط إيقاع المنطقة بما يضمن أمن إسرائيل وتفوقها"، وذلك من خلال عرض خدماته كشرطي للمنطقة، وإن اقتضى الأمر أن يمارس تعريضاً وتحريضاً على دول عربية "ليبيا مثلاً"و محاولة تقليم أظافر المقاومات العربية.

وعلى الرغم من كل هذا الوضوح في الصورة لايزال بعضهم مصرّاً على تسويقه كزعامة إقليمية دولية مهيبة، حتى تكاد تشعر أن منهم من يريد أن يخرج له "نهرو وتيتو وخروشوف" من قبورهم ليكتمل المشهد.

هو المشهد ذاته الذي عرفته فرنسا مع انقلاب 1851 الذي يعبر عنه، كارل ماركس، في كتابه "الثامن عشر من برومير" بالقول: إن تقاليد جميع الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء.

وعندما يبدو هؤلاء منشغلين فقط في تحويل أنفسهم والأشياء المحيطة بهم، في خلق شيء لم يكن له وجود من قبل، عند ذلك بالضبط، في فترات الأزمات الثورية كهذه على وجه التحديد، نراهم يلجأون في وجل وسحر إلى استحضار أرواح الماضي لتخدم مقاصدهم، ويستعيرون منها الأسماء، والشعارات القتالية والأزياء لكي يُمثلوا مسرحية جديدة على مسرح التاريخ العالمي في هذا الرداء التنكري الذي اكتسى بجلال القدم وفي هذه اللغة المستعارة" وكأن ماركس، يعاين الحالة المصرية الآن، وهم يحاولون استحضار بطولة من قبور ماض حين يضيف "مع ما هو عليه من قلة البطولة، اقتضى إخراجه إلى حيز الوجود بطولة وتضحية وإرهاباً واقتضى حرباً أهلية ومعارك بين الشعوب" مستعرضاً تاريخاً من المحاكاة القسرية حتى يصل إلى ذلك "المغامر الذي كان يخبئ ملامحه التافهة المنفرة تحت القناع الحديدي لنابوليون الميّت".

زر الذهاب إلى الأعلى