أثار حديث الرئيس عبدربه منصور هادي في اللقاء الأخير مع رئاسة هيئة مجلس النواب ورؤساء الكتل البرلمانية والحكومة عن الثوابت التى لا يجوز لأي طرف كان الخروج عليها أو تجاوزها تساؤلات عدة حول ماهية الثوابت الوطنية ومدى ثباتها وتغيرها ؟ ومامصدر شرعية الثوابت الثلاثة التى ذكرها الرئيس والمتمثلة في: النظام الجمهوري والوحدة والديمقراطية ؟ خصوصاً وهناك من بات يفضل هويته الطائفية على هويته الوطنية وآخر يغلّب هويته الجهوية والمناطقية على الهوية الجامعة وثالث يبحث عن هوية يتدثر بها من العدم ليهرب من يمنيته وجذوره التاريخية لمجرد أنه الذى يريد أن يحكم أو يجلس على كرسي الجكم حتى ولو كان ذلك في كيان لا تزيد مساحته عن كيلومتر مربع.
ولعل طرح هذا الموضوع من قبل رئيس الجمهورية يعد مسالة في غاية الاهمية بعد أن تبيّن من خلال نقاشات الحوار التى جرت على مدى عشرة أشهر أن الثوابت الوطنية في هذا البلد لا تزال أشبه بمفهوم هلامي ومطاط غير محدد أو واضح إلى درجة وجدنا فيها أن من دخلوا مؤتمر الحوار الوطني وهم من نَصِفهم بالنخبة أو هكذا يُفترض كان لكل طرف منهم ثوابته ومرجعيته , فهناك من يريد يمناً متحداً في الشكل والمظهر ولا يهمه إن كان منقسماً في الحقيقة والجوهر وهناك من حسم أمره منذ البداية ورفع لافتة (الانفصال) بلا مواربة ورفض المشاركة في الحوار؛ لأنه الذى لا ينسجم مع القضية التى يحملها والدولة المستقلة التى يطمح اليها والتى تبدو بالنسبة له مشروعاً مؤجلاً ليس إلا .. فيما هناك من أتى إلى الحوار ليس اقتناعاً بأهمية الحوار وإنما لمطالبة أطرافه بالعودة إلى الينابيع الصافية للماضي وتبرير حروبه المفتوحة التى خاضها مع القوات النظامية وبعدها مع الجماعات السلفية ثم مع القبائل المجاورة له جغرافياً قبل أن يتسع تدريجياً ليصل إلى عمران في انتظار فتح العاصمة صنعاء وتنصيب نفسه ولياً وفقيهاً على اليمن.
واللافت حقاً أن من شاركوا في الحوار أو امتنعوا عن المشاركة هم الذين لم يتحدثوا بصراحة عن مشاريعهم ودوافعهم التى تقف خلف تشنجاتهم وصراعاتهم القائمة؛ ولذلك فقد يستغرب البعض إذا ما قلنا إن العديد من هذه القوى ظلت أجندتها الحقيقية مخفية ولا ندري كيف يمكن لاصحاب الأجندة الخفية الالتزام بالثوابت وهم الذين لم يفصحوا عن أجندتهم التى يختبون وراءها؟.. فالحراك الجنوبي ظل يتدثر لسنوات بعباءة (رفع المظلومية عن الجنوب) وحينما اعترف الجميع بتلك المظلومية وأعلنوا التزامهم بتصحيح كل الاخطاء التى حدثت في الجنوب مع إدراكهم أن الاخطاء قد حدثت في كل مناطق اليمن وليس في الجنوب وحسب تطرفت أطراف عدة من هذا الحراك في مواقفها الرافضة للوحدة بل إنها من صارت تدعو اليوم إلى تفاوض نِدّي بين بلدين وشعبين و إلى استقلال شعب الجنوب من الاحتلال اليمني .. كما أن الحوثيين الذين تذمروا كثيراً مما اعتبروه إقصاء وتهميشاً لهم هم من ازدادوا تطرفاً بعد القبول بهم كفاعل رئيسي في الحياة السياسية؛ لأن ما يسعون اليه ليس هذه الشراكة وإنما خطف اليمن كله والاستحواذ على حكمه باعتبار ذلك حقاً سماوياً لهم لا ينازعهم احد عليه.
إعادة التذكيربالثوابت الثلاثة كان ربما ضرورياً ومهماً في ظل ما تتعرض له الهوية الوطنية من تصدُّعات بعد أن سمح الصراع السياسي خلال الفترة الماضية بالقفزعلى كل ما هو ثابت وكل مالا ينبغي الاختلاف حوله, مع ذلك فإن مخاطبة الرئيس للناس بهذه الثوابت بعد فترة طويلة من النسيان والتغافل قد مثَّل في حد ذاته محفزاً للتساؤل: هل مازالت لدينا ثوابت وطنية بعد كل ما جرى في مؤتمر الحوار الوطني من إفراغ لمضمون تلك الثوابت تحت ضغط متطلبات المرحلة الانتقالية والوفاق الوطني؟.
إذ إنه وبصرف النظرعن معطيات المناسبة التى قادت الرئيس للحديث عن تلك الثوابت, فإن الواجب أيضاً أن نذكّره في الوقت ذاته أن مثل هذه الثوابت هي من جرى إفراغها من محتواها بوثيقة جمال بنعمر التى تحولت إلى مرجعية رئيسية لمخرجات الحوار وبموجبها سيصاغ الدستور الجديد الذى سيمثل المظلة التشريعية للدولة اليمنية الجديدة, بل إنه وبالمختصر المفيد فقد سقطت مبادئ النظام الجمهوري حينما استبدلت قواعد المواطنة المتساوية بالمحاصصة الجهوية في الوظيفة العامة وحينما تم التشريع لمصطلح (الجغرافيا مقابل السكان).
كما أن ثابت الوحدة هو من تعرض لأقسى عمليات التصفية والتشوية حينما تخلت النخب السياسية عن مسؤولياتها في حماية هذا الثابت وجعله عُرضة لعبث مجموعة انفصالية تسير من الخارج والمثير حقاً ورغم علم الجميع بذلك, فقد ظلت هذه المجموعة تمارس ابتزازها على الدولة من دون أن تجد من يردعها بقوة القانون لتعلم أن عدالة مطالبها هي في ظل الوحدة وأن هذه المطالب تصبح دون مشروعية إذا ما ارتبطت بالانفصال, ليضاف هدف الوحدة إلى بقية الاهداف والثوابت التى تم التنازل عنها تحت مبرر أخطاء التطبيق والاستعاضة عنها باتحاد فيدرالي يتشكل من ستة أقاليم يخشى ان يهرب كلٌ منها إلى هوية فرعية لا علاقة لها بالهوية الجامعة.
أما ثابت الديمقراطية فها هو الذى يتأكل ويتلاشى لصالح العصبيات الجهوية والمذهبية خصوصاً بعد أن اتجهت بعض الاطراف والجماعات إلى إعادة تعريف الثوابت بما يتفق مع السقف السياسي لتحركاتها واجندتها واطماعها في الهيمنة على جزء أو اجزاء من اليمن الفيدرالي.
ومن الطبيعي بعد كل ذلك أن نجد انفسنا أمام ثوابت تفتقر إلى الثابت وثوابت تتغير معانيها ومفاهيمها بتغير الاحداث وتغير المواقف إن لم نكتشف أن الحديث عن الثوابت في هذا الوقت ليس سوى محاولة لاقناع الجميع بأن كل شيء في هذا البلد قابل للمراجعة والتغيير بما في ذلك الثوابت الوطنية وأن ما يقال عن أن المبادئ والثوابت لا تتبدل ومايتبدل هو الآليات والتفاصيل ليس أكثر من دعوة إلى الجمود والرتابة على ما في هذا القول من اعتساف للحقيقة إذا ما علمنا أن لكل دولة في العالم ثوابتها وقوانينها التى تحمي ثوابتها باعتبار تلك الثوابت هي من تصون قيم التعايش وتحمي الدول من الصراعات وأمراض الكراهية والحقد وسلوك الشيطنة ونوازع الإقصاء .. وإذا ما كان هذا هو حال الآخرين’ فهل مشكلتنا في اليمن أننا الذين لم نتعب من الاندفاعات الفوضوية التى نخشى هذه المرة أن تقودنا وطناً ومجتمعاً إلى الهاوية؟