من الأرشيف

الصراع الغربي الروسي على أوكرانيا

أوكرانيا دولة يتحدث فيها سكان الغرب بالأوكرانية بينما تغلب اللغة الروسية على سكان الشرق، وهي دولة تجاذبات دولية وإقليمية. فهي مهمة لروسيا من ناحية جيوستراتيجية نظراً لموقعها المهم كعمق استراتيجي روسي، وفي الوقت ذاته فإنها دولة مهمة للغرب الذي يريد أن يطوق التمرد الروسي في آن، ويحتاجها ممراً لإمدادات الطاقة في آن آخر.

وبعد فرار الرئيس فيكتور يانكوفيتش تحت جنح الظلام إلى روسيا في 22 شباط/فبراير الماضي، تطورت الأوضاع أمنياً وسياسياً، فانسحبت قوات الأمن من معظم الدوائر الحكومية، وحدث ما يشبه الفراغ الدستوري قبل أن يتدخل البرلمان ليكلف أوليكساندر توريتشينوف، أحد الحلفاء المقربين لرئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشنكو، رئيسًا مؤقتًا للبلاد، لملء الفراغ الدستوري، ثم جرت الإنتخابات الرئاسية في شهر ايار/مايو الماضي، وهي التي فاز فيها الرئيس الجديد بيترو بوروشينكو.

غير أن تطورات العملية السياسية لم ينتج عنها تقدم على مسار استعادة الأمن والإستقرار، فإقليم القرم ضمته روسيا بعد استفتاء على مستقبله، تم في شباط/فبراير الماضي، وهو الاستفتاء الذي لم يعترف به أحد عدا روسيا، والشرق الأوكراني يلتهب يوماً بعد آخر، والحرب فيما يبدو هي كر وفر بين قوات كييف والمتمردين الذين باتوا يسيطرون على عدد من المدن والبلدات المهمة هناك، ويقول قادة الغرب إنهم يتلقون دعماً من روسياً، ونهاية الأسبوع الماضي تحدث رئيس وزراء بريطانياً عن تلقي الإنفصاليين في الشرق لمنظومات جديدة من صواريخ أرض جو المضاة للطائرات والتي تحمل على الكتف، وهو الأمر الذي سيجعل مهمة سلاح الجو الأوكراني صعبة في جبهات القتال.

وعلى الرغم من انتخاب بوروشينكو، وعلى الرغم من أنه شخصية اقتصادية مرموقة، وواحد من أقطاب صناعة الحلوى، وعلى الرغم من أنه وعد بوضع استراتيجية شاملة لإعادة التفاهم بين غرب البلاد وشرقها، إلا أن مهمته السياسية تبدو أكثر تعقيداً من عمله السهل والناجح في صناعة الحلوى.

روسيا من جانبها بعثت برسائل متناقضة بعد فوز بوروشينكو، فمن ناحية لم يصدر عنها إعتراف رسمي بالإنتخابات الرئاسية التي جرت آواخر ايار/مايو الماضي، ولا أي موقف واضح من النظام الجديد المحسوب على الغرب، ومن ناحية أخرى حضر سفيرها حفل تنصيب الرئيس المنتخب في كييف، وتحادث معه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هامش حفل غداء أثناء احتفالات حلفاء الحرب العالمية الثانية ب «الدي داي» وهو اليوم الذي شهد إنزالاً ناجحاً لقوات الحلفاء على الشواطىء الفرنسية، وكان علامة فارقة على انكسار الألمان.

غير أن موسكو عبرت أكثر من مرة عن معارضتها للحملة التي تقوم بها كييف لاستعادة أجزاء من الشرق سيطر عليها الانفصاليون المدعومون من روسيا، ولا تزال موسكو تناور حول سحب بعض قواتها من الحدود مع أوكرانيا، وتراوغ في تلبية دعوات حلف الأطلسي بسحب هذه القوات نهائياً، وإعادتها إلى قواعدها قبل اندلاع الأزمة.

وتختلط الأوراق في أوكرانيا بشكل مربك لجميع الأطراف، فروسيا التي ابتلعت القرم، وتعمل على إقلاق مناطق الشرق لمشاغلة الحكومة في أوكرانيا وإجبارها على الرضوخ لها، تخشى من تواجد لقوات الأطلسي بالقرب من الحدود الروسية، وتخشى كذلك من فقدانها لكييف كجبهة أمامية متقدمة في صراعها البارد والذي بدأ يزداد سخونة مع الغرب، كما أن روسيا لم تعد تخفي طموحها لعالم جديد يخلف عالم القطب الواحد، عالم ترى أنه سيكون متعدد الأقطاب، وتكتيكها في ذلك يقوم على التنسيق مع دول الاتحاد السوفييتي السابق والصين.

ومؤخراً صرحت موسكو برغبتها في إنشاء «الاتحاد الأوراسي»، وكشف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن طموحه لتحريك عملية التكامل في الساحة السوفييتية سابقا باتجاه إنشاء الاتحاد الجديد المسمى «الاتحاد الأوراسي» انطلاقا من الإتحاد الجمركي – الاقتصادي القائم حالياً الذي يضم ثلاث دول هي روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان.

وتسعى موسكو إلى توسيع نطاق عضوية هذا الإتحاد وضمّ المزيد من الدول إليه، وعلى الأخص قرغيزيا وطاجيكستان، تمهيدا لتكوين الاتحاد الأوراسي.

كخطوة مهمة في سبيل «إعادة بناء الاتحاد السوفييتي بصورة أو بأخرى»، وعلى أسس اقتصادية وسياسية مغايرة لما كان عليه الحال إبان فترة الاتحاد السوفييتي.

يبدو أن الأحداث الأخيرة في أوكرانيا في الوقت الذي أعاقت فيه الطموحات التوسعية لموسكو، إلا انها بشكل آخر دفعت بهذه الطموحات خطوات إلى الأمام بالسعي الروسي لبناء تحالفات مع دول الاتحاد السوفييتي السابق من جهة، وتقوية وتعميق التعاون الإقتصادي مع الصين، وقد وقعت موسكو وبكين مؤخراً على اتفاقية لإمداد بكين بالغاز الروسي بمليارات الدولارات، وذلك في رسالة واضحة للدول الغربية التي لا تزال تعتمد بشكل كبير على إمدادات الغاز الروسي. أما من جانب الغرب، فإنه يسعى إلى انتزاع أوكرانيا من روسيا كما انتزع غيرها من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق.

كما يسعى بشكل واضح إلى تطويق محاولات التمدد الروسي جهة دول الاتحاد السوفييتي السابقة والصين، وتأتي أنباء إرسال الولايات المتحدة لبوارجها الحربية إلى بحر الصين الجنوبي في هذا السياق، وكذا في سياق القلق الأمريكي من تصاعد الخلافات في هذه المنطقة بين حلفاء الغرب من ناحية وروسيا والصين من ناحية ثانية.

كما تسعى الدول الأوروبية إلى إيجاد مصادر أخرى للغاز بدلاً من اعتمادها على الغاز الروسي، وهناك تصورات عن استيراد الغاز الجزائري، وألمحت إيران إلى إمكانية تصدير غازها إلى أوروبا، في ظل بدء عودة الدفء إلى العلاقات الغربية الإيرانية بعد مباشرة المباحثات حول البرنامج النووي الإيراني بين الجانبين.

ومع كل ذلك، وعلى الرغم من معارك الشرق الأوكراني، ولعبة عض الأصابع بين الغرب وروسيا في أوكرانيا، إلا أن اللقاءات على الصعيد الاقتصادي لم تتوقف، والمحادثات بين أوكرانيا والغرب من جهة، وروسيا من جهة أخرى حول إمدادات الغاز الروسي لم تنقطع، وكان آخرها اجتماع الخميس الماضي في بروكسل، والذي فشل في التوصل إلى اتفاق، وتشبث المجتمعون بضرورة الوصول إلى اتفاق في نهاية المطاف، الأمر الذي يعكس لعبة المصالح المتضاربة في أوكرانيا التي تشكل نقطة التقاء وافتراق مصالح سياسية واقتصادية وأمنية لقوى تلتقي مصالحها حيناً، وتتضارب أحياناً كثيرة.

زر الذهاب إلى الأعلى