في عام 2007 في اليمن، وتحديداً في مدينة الضالع أعلن عن تأسيس جمعية للمتقاعدين العسكريين الذين أحيلوا إلى التقاعد من ضباط الجيش اليمني المنتمين إلى محافظات جنوبية بعد حرب 1994 في اليمن، وكانت هذه الجمعية هي النواة الأولى التي تكون منها تيار سياسي وشعبي كبير، أطلق عليه في ما بعد «الحراك الجنوبي»، الذي ضم مكونات متعددة منها ما طالب صراحة بفك الارتباط والعودة إلى حدود 1990 في اليمن، ومنها ما رضي بحل القضية الجنوبية على أساس قيام يمن فيدرالي جديد، بعد مشاركته في الحوار الوطني الشامل في البلاد.
وكان مؤسس الجمعية هو القيادي الجنوبي البارز العميد ناصر النوبة، الذي كان يعد من كبار المتحمسين لفكرة استعادة الدولة التي كانت في الجنوب قبل عام 1990، وهو مؤسس الحراك الجنوبي.
وخلال ما يقارب السبع سنوات تمدد الحراك وتعمق شعبياً وسياسياً وتراكمت لديه الخبرة السياسية، ورفده عدد من القادة الفاعلين زخماً شعبياً وسياسياً، واستطاع إسماع صوته إلى شرائح وطنية وعربية بشكل جيد. وفي المقابل حاول بعض القادة المعتقين ركوب موجته وتوظيف شعبيته الطاغية في الجنوب للوصول إلى أهداف سياسية، أو لتصفية خصومات وثارات قديمة، وقد أثرت تلك القيادات بالسلب على شعبية الحراك وأدائه خلال الفترة الأخيرة، كما أنها أدخلت الكثير من الصراعات داخل نسيجه، الأمر الذي أدى إلى ضعف أدائه مقارنة بفترة الزخم التي أعقبت فترات التأسيس.
وقد حاول الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي محاولات دؤوبة التقرب من قيادات الحراك الجنوبي في الداخل والخارج، ونجحت جهوده قبل وبعد مؤتمر الحوار الوطني، في استمالة عدد من القادة في الحراك، الأمر الذي أفضى إلى مشاركتهم في مؤتمر الحوار وقطع الطريق أمام بعض الذين لا يزالون يطرحون فكرة فك الارتباط ويرفضون الاعتراف بالمتغير الجديد في البلاد، بعد أحداث فبراير/شباط 2001. ويوم الأحد الموافق 22 يونيو/حزيران الماضي أثمرت جهود هادي مع قيادات الحراك في لقاء الرئيس في صنعاء بالقائد المؤسس في الحراك الجنوبي العميد ناصر النوبة، الذي تعد استمالته نجاحاً لهادي الذي يمشي بحذر في حقول من ألغام قديمة ومستحدثة.
ونقلت وكالة الأنباء اليمنية سبأ عن النوبة قوله خلال الاجتماع مع الرئيس «يا فخامة الرئيس نلتقي هنا معكم وفي ظل قيادتكم وقد جئنا من مختلف شرائح ومكونات الحراك الجنوبي من اجل السلام والوئام والوقوف إلى جانبكم ومع مخرجات الحوار الوطني الشامل»، مضيفاً «إننا وبصدق يا فخامة الأخ الرئيس نقدر لكم تقديرا عاليا جهودكم الوطنية التي بذلتموها شخصيا من اجل اليمن عموما والقضية الجنوبية خصوصا» .
والذي يقرأ تصريحات العميد النوبة قبل ذلك التصريح يرى بشكل واضح حجم التحول الإيجابي الذي طرأ على طريقة تفكير الرجل، تجاه مستجدات الوضع، وكذا مدى حساسية قراءته لمسارات المشهد السياسي في اليمن. وبعد ذلك بأيام التقى الرئيس هادي الشيخ عبدالعزيز المفلحي، وهو أحد القيادات الحراكية، وعلى نفس المنوال، عبّر القيادي المفلحي الذي قدم إلى صنعاء من الرياض حيث يقيم، أثناء لقائه بالرئيس، عن «تأييده الكامل لمخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي يؤسس لدولة مدنية حديثة يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات.. داعيا الجميع إلى الاصطفاف الوطني لبناء اليمن الجديد المبني على العدالة والمساواة».
وقبل اللقاءات الأخيرة لهادي كان للقاءاته في عدن قبل بداية الحوار الوطني دور كبير في استقطاب الكثير من قيادات الحراك الجنوبي، حيث تمخضت تلك اللقاءات عن مشاركة واسعة للحراك الجنوبي في مؤتمر الحوار الوطني. وقبل ذلك أيضاً، تمكنت جهود بذلت سابقاً من اقناع القيادي الجنوبي محمد علي أحمد بالعودة إلى اليمن والمشاركة في الحوار، حيث ترأس فريق الحراك إلى مؤتمر الحوار الوطني، وعلى الرغم من عدم حضور أحمد الجلسات الختامية إلا أن أغلب أعضاء تياره «مؤتمر شعب الجنوب» شاركوا حتى النهاية. ويجري في صنعاء هذه الأيام حديث عن قرب عودة المعارض الجنوبي البارز حيدر أبوبكر العطاس، بعد جهود بذلت لتحقيق هذا الهدف. وقد صدرت إشارات ترحيبية من قبل رعاة المبادرة الخليجية – وتحديداً من قبل مدير مكتب مجلس التعاون الخليجي في صنعاء السفير سعد العريفي – للترحيب بالتحولات الاستراتيجية للحراك الجنوبي جهة التعاطي الإيجابي مع مخرجات الحوار الوطني في البلاد.
والحقيقة أنه لا يمكن عزو هذه التحولات في فريق الحراك الجنوبي إلى جهود هادي وحده على أهميتها – ولكن عدداً متشابكاً من العوامل أدى إلى هذه النتيجة. ومن جملة العوامل التي أدت إلى ذلك، المكاسب التي تحصل عليها الجنوبيون بمشاركتهم في الحوار الوطني، بما في ذلك فكرة الفيدرالية التي كان المعتدلون فيهم ينادون بها، والمناصفة ولجان معالجة افرازات حرب 1994، وغيرها من المكتسبات التي لم يحصل عليها الجنوبيون من قبل حتى في اتفاقية الوحدة أو في وثيقة العهد والاتفاق، هذا بالإضافة إلى شعور الجنوبيين بأن عدداً من قيادات الحراك في الداخل والخارج أصبحت تتاجر بقضيتهم، وتحاول رهنها ضمن عملية الاستقطاب الإقليمي والدولي. وعامل مهم آخر ساعد على عملية التحول الإيجابي داخل الحراك، وهو إدراك الحراكيين أن هناك أطرافاً شمالية تحاول المتاجرة بقضيتهم فوق ما تاجرت بها أطراف أخرى جنوبية، هذا الإحساس عجل من وتيرة التقارب بين هادي وقيادات الحراك. ولعل الطريقة المكشوفة التي يتعاطى بها الحوثيون مع القضية الجنوبية، ومحاولة الركوب على ظهرها، ولد نوعاً من ردة الفعل العكسية لدى الحراكيين الذين أدركوا أن المتاجرين بقضيتهم لا ينحصرون في الجنوب وحسب.
وفوق ذلك فإن وجود هادي (الجنوبي) على رأس السلطة في اليمن كان له دوره الفعال في إحساس الجنوبيين بأنهم يتحاورون مع رئيس قريب إلى نسيجهم السياسي والجغرافي، وجعلهم يشعرون بشيء من الثقة في التحاور معه، كما أن شبكة علاقات الرئيس الجنوبية ساعدته على إحداث هذا الاختراق الذي لا شك أنه يحسب له، كما يحسب لقيادات الحراك التي أثبتت نضجاً سياساً وحساً وطنياً واضحاً.
ولكي تؤتي جهود الرئيس ثمارها في إعادة الحراك الجنوبي إلى العملية السياسية، فإنه لا بد من إشراكه بشكل فاعل في السلطة، وينبغي أن يتواكب ذلك مع مزيد من الخطوات الملموسة في الشارع الجنوبي، الذي بدأت المؤشرات تشير إلى تحولاته الجوهرية الإيجابية لصالح بقاء اليمن موحداً ضمن الإطار الفيدرالي. ومن المهم كذلك أن توسع عملية التصالح والتسامح التي بدأها الحراكيون أنفسهم لا لتشمل معالجات لإفرازات حرب 1994، ولكن لتمتد لمعالجة آثار حرب 1986 بين الأشقاء في الجنوب قبل الوحدة، لأن كثيراً من المواقف المتشددة التي لا يزال يتمسك بها بعض القيادات الحراكية، تضرب بجذورها لا إلى عام 1990، ولكن إلى عام 1986.
وخلاصة القول، أثبت إخوتنا في الحراك الجنوبي أنهم رجال النضال الشعبي والسياسي، وأثبتوا حرصهم على الوصول إلى حل لقضيتهم العادلة، مع تفهم كبير للوضع الجديد في البلاد، وأثبتوا تمايزهم عن غيرهم من المكونات التي ترفع السلاح، وتعيق تطبيق مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، وتتاجر بكل القضايا، وتعمل في المحصلة النهائية لجهات خارجية لا تريد مصلحة اليمن، ويغيظها تقدم العملية السياسية في البلاد.
الجنوبيون يستحقون التحية