خانتنا أميركا كثيراً، وبقينا أوفياء لها. باعتنا واشترت بنا، ودمّرت أجمل بلادنا، ولا نزال نتعاطى معها على نحو طبيعي.
لم نغضب، ولا مرة، مثلما نزعل من بعضنا لأتفه الأسباب. حتى الحكام العرب الذين اشتغلوا أجَرَاء لديها رمتهم عند انتهاء الصلاحية، ولم تكترث لنهاياتهم المزرية، مثل زين العابدين بن علي وحسني مبارك وعلي عبد الله صالح.
نحن أبناء هذه المنطقة المنكوبة بالاحتلال الإسرائيلي والطغاة العرب، لم نتعلم من دروس الفيتناميين والصينيين في الاعتماد على النفس. ارتحنا إلى وهم القوة العظمى القادرة على كل شيء. ألم يقل أنور السادات إن 99 في المائة من أوراق حل قضية الشرق الأوسط بيد أميركا؟ أطلق السادات تلك الكذبة السوداء، وصدّقها العرب، لكنهم لم يجنوا من أميركا غير الوعود.
لا هي أرغمت إسرائيل على حل الدولتين، ولا ساندت العرب من أجل استقرار بلدانهم، بل، على العكس، لم تترك عسكرياً عربياً فاشلاً إلا وأخذت بيده لتصنع منه زعيماً على شعبه المقهور. ليس هناك من بين الديكتاتوريين العرب أحد شذَّ عن القاعدة، ورفض صداقة أميركا. لا أحد. حتى الذين كانت تضربهم، بين حين وآخر، مثل القذافي وحافظ الأسد وصدام حسين، فإنها كانت تفعل ذلك بعصيّ ملساء، لكي يتذكّروا أنها شرطي الكون.
استسلم العرب لمقولة السادات، ولم يحتفظوا لأنفسهم حتى بورقة واحدة، وهم أصحاب القضية، وحين تبين لهم أن أميركا غير مكترثة بحلٍّ، يعيد إلى العرب جزءاً من حقوقهم، لم يتعظوا بذلك، واستمروا في الاستكانة إلى الدور الأميركي، وصاروا يترنحون من فشلٍ إلى آخر، وكلما خذلتهم إدارة أميركية، انتظروا إدارة أخرى، حتى باتوا من مدمني الانتظار والفرج الذي سيأتي من رئيس أميركي "نزيه".
آخر الذين يدفعون فاتورة الرهان الخاطئ على أميركا هم السوريون، الذين عوّلوا، منذ اليوم الأول، على دور أميركي لنصرة ثورتهم. وفي وقتٍ كانوا يملكون فيه 99 في المائة من أوراق الحل، هرولوا نحو واشنطن، يبحثون عن دعمها، لكنها تعاطت معهم بتسويفٍ استمر حتى اليوم. ظلت تُمنّيهم بالمساعدات وهم ينتظرون، وعلى الرغم من الثمن الكبير الذي دفعوه على الأرض، والخذلان الذي سقتهم واشنطن كأسه، فإنهم لم يتوقفوا عن الانتظار، بل بنوا استراتيجيتهم على تسوّل السلاح الأميركي، حتى أخذوا يفقدون الأرض التي تمكنوا من انتزاعها من النظام.
ومع أن الرئيس باراك أوباما تنكّر لخطوطه الحمر، وصرّح، قبل أقل من عام، إنه لن يعاقب بشار الأسد على استخدام السلاح الكيماوي، بعد أن استكان وقرر تسليمه، فإن رئيس الائتلاف السوري، أحمد الجربا، طار، قبل أسابيع، إلى واشنطن، ليبيع السوريين أوهاماً أميركية، على الرغم من أن حلفاءه السعوديين كسروا حاجز الحرج، وصاروا يتحدثون عن التخلي الأميركي عن الحلفاء العرب.
فات السوريين أن أميركا لا تريد حلاً لبلادهم، بعيداً عن مصلحة إسرائيل، وهذه المصلحة تكمن في أن تتفتت سورية كلياً، وينتهي كل تهديد سوري ممكن لأمنها، ويتم استنزاف "حزب الله"، وتغلق صفحة الجولان إلى أجل غير معلوم.
الطامة الكبرى تتجلى في سلوك السياسيين العرب الذين يعون الموقف الأميركي جيداً، ومع ذلك، يصرون على استجداء المساندة. وفي هذه الأيام، هناك من يعرف تماماً أن واشنطن قدمت العراق هدية لإيران، لكنه لا يزال ينتظر منها أن تغير المعادلات، وترمي بثقلها من أجل تأمين حل توافقيٍّ، يكون مفتاحه رحيل رئيس الوزراء المنتهية ولايته، نوري المالكي.
على الرغم من التحرك الأميركي والإيحاء بأن واشنطن تضغط من أجل استقالة المالكي، فإن المؤشرات الفعلية تظهر العكس. فالمالكي، في نهاية المطاف، نقطة تقاطع أميركية إيرانية، ولا يهم، هنا، حساب الشعب العراقي، طالما أن مصالح واشنطن وطهران مضمونة.
وحدهم مرضى الوهم الأميركي من العرب سيفجأون بحصول تفاهم أميركي جديد، قوامه إطلاق يد المالكي في العراق، ولن يحتاج الأميركيون إلى مبررات، لأن "دولة العراق والشام الإسلامية" (داعش) جاهزة لتقديم كل الذرائع.