كم هو مؤسفُ ومؤلمٌ حقاً، بعد أزيد من خمسين عاماً، أن نعاود، كيمنيين، الحديث مرة أخرى، بعد ثورتين عظيمتين 26 سبتمبر/أيلول 1962 و11 فبراير/شباط 2011، عن معضلة، أو عقدة، ما بات يعرف ب "المركز المقدس" التاريخية. هذه التسمية التي كان قد حللها مبكراً المفكر والسياسي اليمني الكبير النعمان الابن محمد أحمد نعمان، والذي دفع روحه ضريبة إدراكه المبكر لتلك الإشكالية المرضية للحالة اليمنية، وخصوصاً في رسالته الشهيرة "الأطراف المعنية في اليمن".
حاول النعمان مبكراً، في رسالته تلك، تشخيصه أس الإعاقة التاريخية وجذرها، للتراجع الحضاري للأمة اليمنية بعد الإسلام، واستمرار هذه الإعاقة حديثاً، بعد ثورة 26 سبتمبر 1962، تحدياً رئيسياً لقيام دولة يمنية حديثة. صحيح أن وصفة "المركز المقدس" التي يروق لي كثيراً توصيفها ب"المركز المدنس" (من دنس الخرافة الحاكمة) كان قد أعاد تداولها السياسي حديثاً، الدكتور ياسين سعيد نعمان، ولكن، من دون الاقتراب كثيراً من معناها الحقيقي، أو ربما محاولة إيجاد معنى آخر لها، غير معناها الذي بدأت جذوره التأسيسية تتشكل مع مفكر اليمن الكبير، أبو الحسن الهمداني، في القرن الهجري الثالث، وجماعة المطرفية ونشوان الحميري، وسلسلة أعلام اليمن الكبار وثواره حتى اللحظة.
لكن، ما يجب أن يُقال، وبكل صراحة، أن المركز المقدس الذي حاول بعضهم التهويم حول معناه الحقيقي، هروباً أو ربما مناكفةً سياسية، ليس سوى كهنوتية الفكرة المذهبية الحاكمة، بكل تجلياتها التاريخية والمعاصرة، التي تتجلى، اليوم، بحركة الحوثي بكل أبعادها المذهبية والسلالية والكهنوتية والقبلية أيضاً. فمشكلة اليمن التاريخية تكمن في هذه الفكرة العنصرية الدخيلة، ليس فحسب على الجغرافية اليمنية، بل وعلى جوهرية القيم الإسلامية ذاتها أيضاً، لكن ما نراه اليوم أن هناك من يحاول، عبثاً، أن يسوق فهماً تظليلاً لهذه الفكرة القاتلة تاريخياً، بحيث يريدنا أن نفهم أن مركزية المركز المقدس ليست سوى القوى القبلية اليمنية التي ظهرت على سطح المشهد السياسي، في يمن ما بعد الحرب الجمهورية-الملكية.
فيما ظهور تلك القوى، لم يكن سوى نتيجة طبيعية لفشل نخبة تلك المرحلة في التأسيس للدولة، من جانب تلك القوى القبلية ودورها في تفكيك مركزية الفكرة الإمامية الحاكمة من جانب آخر، وملئها الفراغ الذي تركته تلك الفكرة، نظراً لغياب المشروع الوطني، أو تغييبه على الأصح، من القوى الدولية والإقليمية، حينها.
ما أريد قوله، هنا، إن الحديث أن المركز المقدس هو القوى القبلية، كحاشد ممثلةً ببيت الأحمر، أو غيرهم من القوى القبلية، أو الدينية، ليس حديثاً موضوعياً، ولا منهجياً، بالنظر إلى أن المركز المقدس ليس سوى الفكرة الحاكمة التي تدّعي أحقية إلهية في حكم الناس، واستعبادهم، تلك الفكرة التي انسحبت، تالياً، كشعور ذهني حاكم لتوجهات حتى تلك القبائل التي فشلت كل الأفكار السياسية، يساريةً أو قوميةً، أو غيرها في تحديثها واستمالتها نحو مربع المشروع الوطني الجامع.
ومحاولة القفز فوق هذه الحقيقة من النخبة السياسية، اليوم، هو محاولة للهروب من ذلك الفشل النخبوي الذي تحول إلى نرجسية نخبوية قاتله، في نظرتهم إلى القبيلة، مكوناً اجتماعياً أصيلاً في نسيج هذا الوطن الاجتماعي، وإن أي محاولة لتجاهل هذه الحقيقة ليس سوى هروب من الفشل، والعجز الكبير في محاولة فهم هذا المجتمع والتعاطي معه، كما هو، استناداً إلى قراءة تاريخية واعية لتعقيدات هذه العلاقة وتأثيراتها على مسار فكرة الدولة والمجتمع معاً. فمن تجارب التاريخ القريب، فشلت ثورة 1948 فشلاً ذريعاً وسريعاً، كونها لم تكن سوى ثورة نخبوية، لا قاعدة جماهيرية لها، وبلا أي غطاء دولي، أو إقليمي، أيضاً، وهو ما تنبه له ثوار 1962، بالنظر إلى أن نقطة ضعفهم تلك تمثلت في أن ثورتهم كانت من دون سند اجتماعي قبلي، يقاتل من أجلها ويحميها.
لذا، توجه الثوار نحو سلاح الإمامة الاستراتيجي، والمتمثل بالقبائل التي حولتهم الإمامة إلى مجرد "عكفة"، أي مقاتلين معها، ترهيباً بوصمهم بالنفاق والكفر، وترغيباً بتحليلها لهم النهب من أملاك الناس وممتلكاتهم، وهو ما أشار إليه القاضي والرئيس الأسبق، عبد الرحمن الإرياني، في مذكراته التي صدرت مؤخراً. مثل هذه الحقيقة التي حاولت قوى اليسار اليمني تجاهلها، في شمال اليمن وجنوبه أيضاً، كانت نتائجها كوارثية على مسار فكرة الدولة اليمنية، شمالاً وجنوباً، بالنظر إلى طبيعة تكوين النسيج الاجتماعي القبلي لليمن، ومحاولة تجاوز هذه الحقيقة ليست سوى مغامرةً، محسومة نتائجها بالفشل مبكراً، وإن كانت سياقاتها شمالاً هي الأكثر تعقيداً وإرباكاً مما هي عليه جنوباً. فحاشد وبكيل قبائل يمنية، لا تختلف عن قبائل حمير ومذحج، إلا من حيث السياق والفكرة الذهنية "المذهبية" الحاكمة التي حولت هاتين القبيلتين اليمنيتين إلى أشبه بالغزاة البرابرة، الذين يستعلون على غيرهم من القبائل، بطبيعتهم القتالية التي اكتسبوها طويلاً، وجردتهم من طبيعتهم الاستقرارية الزراعية الأولى التي كانوا عليها قبيل قدوم الزيدية لليمن، بحسب الهمداني.
ومن هنا، فإن عقدة الانحراف التي أصابت حاشد وبكيل، هي بفعل الفكرة الزيدية الوافدة التي قامت، أساساً، على تقسيم الناس طبقاتٍ اجتماعية، بحسب أعمالها ومهنها، ما سهل كثيراً تفكيك عرى الترابط الاجتماعي في صفوف القبيلة الواحدة، عدا عن إشاعة ثقافة احتقار العمل والمهن والتفرغ لها، مقابل الإعلاء من فكرة القتال والحرب والنهب والسلب التي تحولت، بعد ذلك، إلى ثقافة وسلوك قبلي مشروع مذهبياً.
إن ما قامت به الزيدية الهادوية في مجتمع شمال اليمن القبلي لقرون، يُعد فكرة انقلابية خطيرة، ليس فقط على جذور التمدن الاجتماعي للإنسان اليمني الذي عُرف عنه على مدى تاريخه القديم، وإنما انقلاباً وارتداداً على قيم الإسلام، وتعاليمه الإنسانية الراقية، التي تعلي من قيمة الإنسان، لما ينتجه ويقدمه لمجتمعه وأمته ووطنه، وليست قيمته راجعة لأصله، أو توحشه، ولاإنسانيته، كما تشيعه وتحبذه ثقافة التمذهب السلالي الهادوي.
لذا، أجدني، في مفارقة منهجية صارخة، حينما أرى حجم التشويه الذي تناله القبيلة في شمال اليمن من مثقفي اليسار، خصوصاً هذه الأيام وغيرهم، في وقت لا يكتفون فيه بالصمت عن الفيروس المدمر لأنساق البنى الثقافية والسلوكية لهذه القبيلة، متمثلاً بفكرة الإمامة السلالية، بل تجدهم ينظرون لهذه الفكرة الخرافية بنوع من التبجيل الفاضح لعدميتهم السياسية، والكاشف طبيعتهم الديماغوجية. فما يقوم به أشباه المثقفين، هؤلاء، يعكس حقيقة الخواء الفكري، والعدمية السياسية، وغياب المشروع الوطني الواضح لديهم، بل وغياب حتى العظة والعبرة التاريخية من أقرب المحطات التاريخية التي دفع فيها اليسار ضريبة كبرى، كأحداث أغسطس/آب 1968.
فبعد فشل الإمامة بدعمها الإقليمي والدولي الكبيرين في إجهاض ثورة 26 سبتمبر/أيلول، في آخر محاولاتها، متمثلاً بحصار صنعاء، واندحار القوى المحاصرة، وتقهقرها أمام صمود أبطال ملحمة السبعين، لم يكن أمام الإمامة من خيار غير عودتها إلى سلاحها الفتاك، متمثلاً بإشعال فتيل الصراع الطائفي المناطقي بين صفوف الثوار. مستغلةً بذلك حالة عدم الانسجام الاجتماعي بين نخبة اليسار الثوري والقوى القبلية التي عاودت، في أحداث أغسطس، القتال، بدافع مناطقي طائفي فاضح، وما نتج من ذلك من انتكاسةٍ كبرى للمشروع الوطني، تلتها انتكاسات أخرى في محطات عديدة بعد ذلك، بفعل اللاشعور الطائفي الحاكم حتى لذهنية يمن ما بعد 26 سبتمبر.
وبالتالي، كان من الطبيعي، بعد أحداث أغسطس تلك، والتي عاودت فيها قوى المركز المقدس "الزيدية"، القبلية والهاشمية، التوحد في المعركة ضد قوى الثورة القادمة من خارج سياق المركز الكهنوتي العصبوي، وفي مقدمتها قوى اليسار "الشافعي" للمفارقة التاريخية. وهو السيناريو الذي قاد، بعد ذلك، إلى تكرار نهج شمولي طائفي عصبوي، مع فارق تغيير العنوان فحسب، من الملكية الهاشمية الزيدية إلى الجمهورية القبلية الزيدية، ما تجلى، بوضوح كبير، خلال ما سميت المصالحة الوطنية في عام 1970، على حساب قوى الجمهورية السبتمبرية من خارج سياق المركز المقدس، ثقافة وسلوكاً.
ونتيجةً لهذا، دفع اليمنيون ضريبة ذلك كله، بضياع مشروعهم الوطني، الباحث عن الدولة، ذلك المشروع الذي، بين عشية وضحاها، تحول في ظل الجمهورية إلى مشروع مناطقي قبلي، مدفوع بلاشعوره الطائفي، وليس بداعي القبيلة، كما يحاول كهنة النخبة الإمامية تسويقه حالياً. ولهذا، لم يكن ثمةً مكان، للباحثين عن الوطن بعيداً ومنزهاً من أدران العُقدة المدنسة هذه، فوجد النعمان الابن نفسه مغتالاً في أحد شوارع بيروت، فيما النعمان الأب وجد نفسه منفياً لا جنسية له خارج أرض الوطن الذي طالما ناضل حالماً باستقلاله وحريته وكرامته ومدنيته. ومثل النعمانين، كان هناك كثيرون ممن سبقوهم، أو جاءوا بعدهم، وجدوا أنفسهم محكومين بذهنية عقدة الطائفية السياسية تلك، ببعديها الهاشمي أو القبلي، فقد سبقهم بطل ليلة 26 سبتمبر، الشهيد علي عبد المغني، وبطلا حصار السبعين، عبد الرقيب عبد الوهاب ومحمد صالح الشميري وعبد الرقيب الحربي، والقاضي الحجري ومحمد علي عثمان، وعيسى محمد سيف وعبد الله عبد العالم، وغيرهم باحثون كثيرون عن وطن في متاهة ذهنية الكهنوتية المقدسة الحاكمة.
وهكذا، ظلت تلك العُقدة اللاشعورية الحاكمة "الطائفية السياسية" تعاود الظهور عند كل محطة من محطات البحث عن الوطن ودولته وإنسانه اليمني المقهور، وهي التي بدأت بالظهور أكثر وضوحاً هذه المرة، وبعنوانها الرئيسي، وليس المستعار، معبرةً عن حقها الإلهي المقدس بالحكم باسمها وصفتها.
لكنها، هذه المرة، استطاعت أن تجهز أرضية المعركة جيداً، لعودتها من خلال تحييد جل القوى الوطنية التي كانت في مقدمة صفوف معركة اليمنيين الطويلة ضد الخرافة الكهنوتية الحاكمة، فيما تحولت، اليوم، تلك القوى إلى أشبه بكومبارس في موكب الإمامة القادم من عتمة الماضي الكهنوتي، مشفوعاً ببركة حداثة اليسار المصلوب على عتبة المركز المقدس، في أكثر من محطة من محطات البحث عن الوطن من بين أنياب ذهنية المركز المقدس الطائفية الحاكمة.
وبالتالي، ما نراه اليوم من اقتتالٍ يبدو ظاهراً أنه استهداف لفصيل سياسي بعينه، ممثلاً بحزب التجمع اليمني للإصلاح، ليس سوى عنوان تظليلي مراوغ لحقيقة هذه القوى المذهبية الطائفية، تهدف منها، إلى تفتيت حالة الاصطفاف الوطني، ومن ثم تحييد تلك القوى الوطنية، ومن ثم تحييد مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والسياسية والإعلامية كلها، لتظهر من خلال ذلك أن معركتها هي فقط ضد فصيل بعينه، وليس ضد الوطن ككل، فيما هي تستهدف الوطن بكل مكتسباته. فما لم تعِه كل القوى الوطنية، تاريخياً، أن الوطن اليمني هو المستهدف الأول والأخير من هذه القوى المذهبية المتخلفة، فإن اليمنيين سيدفعون الثمن غالياً بتفريطهم بنضال أجدادهم قروناً، ومن ثم بالمكتسبات الوطنية لذلك النضال، من الجمهورية فالديمقراطية فالوحدة.