تزداد تعقيدات المشهد السياسي الراهن في اليمن سوءاً، مع صعود جماعات العنف فاعلاً رئيسياً فيه، وهبوط شباب الثورة، وربما كل القوى الوطنية، إلى هامشه، مع إعلان جماعة الحوثي المسلحة شروطها على الجميع، وتحت تهديد السلاح وإرهابه، في مشهد تراجيديٍّ، يفتح الباب واسعاً أمام كل الاحتمالات الصفرية.
حالة الانسداد التام لأفق التحولات، والانتقال السياسي في البلاد حتى هذه اللحظة، هو نتيجة طبيعية لبطء عجلة المرحلة الانتقالية، وعدم المضي في تنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار الوطني التي يتقدمها الإسراع في إعادة هيكلة مؤسستي الجيش والأمن، باعتبارهما المؤسستين الضامنتين، لتنفيذ مخرجات المؤتمر.
بيد أن الإشكال الخطير، في بطء سير المرحلة الانتقالية، ومن ثم عدم الإسراع في تنفيذ مخرجاتها، يصب، اليوم، في صالح جماعات العنف، بكسبها مزيداً من الوقت، مكّنها من إعادة ترتيب أوراقها وتنظيم صفوفها، ومن ثم بدئها تنفيذ أجندتها التوسعية، بقوة السلاح وفرض شرعية الأمر الواقع.
اتساع دائرة العنف، وتعاظم دور جماعاته، وتراجع دور القوى السياسية المدنية، بدءاً بالأحزاب، فشباب الثورة وكل الفعاليات المدنية الأخرى، كل هذا كان سبباً كافياً لنهوض الجميع، وفي مقدمتهم الشباب، للبحث عن صيغةٍ وطنيةٍ جديدةٍ، تعمل على تجاوز المنزلق الخطير الذي تمضي نحوه الأمور حالياً، وذلك بالمضي في إيجاد أرضية مستقرة للدولة الوطنية، أولاً، مقدمة منطقية لتحقيق أهداف الثورة، ثانياً.
مثل هذا التوجه من الشباب يأتي نتيجة طبيعيةً لتعاظم دور جماعات العنف، أولاً، ولما تعرضوا له من مؤامرةٍ، منذ اللحظات الأولى، من جميع الأطراف، ثانياً، كتوجه دولي عام من ثورات الربيع العربي التي يُعتبر الشباب وقودها ومحركها الأول. ولكن، للأسف، لم يكن لينجح مثل هذا التوجه الدولي، لولا حالة القابلية للفشل التي يعاني منها شباب الثورة، لحداثتهم السياسية، أولاً، وحالة النرجسية الزائدة التي يعاني منها بعضهم ثانياً. فيما البحث عن صيغة وطنية عمليةٍ، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ليست حكراً على أحد، ولن يستطيع مكونٌ ما أن يمضي، بمفرده، في هكذا مشروع وطني كبير، يجب أن تتضافر فيه كل الجهود، وتشترك فيه كل القوى الوطنية.
ولا ينبغي لأي صيغة نضالية إنقاذية أن تختزل في أفرادٍ أو كيانات، خصوصاً وأن هناك حالة عامة من النقاش، للبحث عن مخرج للوضع الراهن، ولا بد من القول، هنا، إنه سبق الإعلان المفاجئ لبعضهم، عن مسمى "الطريق الثالث" جدلاً ونقاشاً طويلاً وعميقاً من مجموعة من شباب الأحزاب والمستقلين عن مآلات العملية الانتقالية، مع تعاظم دور جماعات العنف، في مقابل التراجع المخيف لدور الحامل السياسي لقوى الثورة الحزبية والشبابية وغيرها، وهو تراجع بدأت ملامحه تظهر، بوضوح، في المنحى الخطير الذي بدأت تسير نحوه العملية الانتقالية برمتها، متمثلاً بحالة الجمود التام، بعدم تنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، واللجوء إلى تمديد المرحلة الانتقالية، عدا عن اتساع دائرة العنف، وتعاظم دور جماعاته المسلحة، على حساب دور الدولة وأجهزتها المختلفة التي بدأت بالتآكل والذوبان أمام هذه الجماعات.
وطوال مراحل النقاش تلك، تعدّدت الرؤى، وتوسعت دوائر النقاش، وأخذت أبعاداً مختلفة، وكانت جلها تدور حول إيجاد ما يشبه مخرج طوارئ للبلاد، وإيقاف عملية التدهور الذي تتعرض له هياكل الدولة ومؤسساتها المختلفة، بفعل عملية الفساد الممنهج في مؤسسات الدولة التي تتعرض لما يشبه عملية التجريف، ليس فقط لإمكاناتها المادية، بل تجريف صورتها في ذهنية الناس، بحرفها عن وظيفتها القانونية والدستورية، في حماية المواطن اليمني، وصون حريته وكرامته، وتحقيق أمنه واستقراره الاجتماعي والاقتصادي معاً.
بمعنى آخر، كانت نقاشات البحث عن مخرج طوارئ، تتجه جلها نحو إيجاد صيغة إنقاذ عملية عاجلة، لا صيغة فلسفية تنظيرية، لتدارك ما يمكن تداركه من صورة الدولة "الذهنية" التي يتم سحقها في أذهان مواطنيها، من القائمين عليها، خصوصاً في مؤسساتها العسكرية والأمنية التي كشفت أحداث العنف الأخيرة في محافظة عمران من جماعة الحوثي تحديداً، عن دور مشبوه ومتواطئ للمؤسسة العسكرية، وتفسير ذلك من قيادة هذه المؤسسة على أنه دور حيادي تجاه الأطراف المتنازعة هناك، والغريب أن أحد الأطراف تلك كانت مؤسسة الجيش نفسها.
عموماً، لكيلا يطول الحديث، هنا، نستطيع القول إن ما ينبغي أن يدركه الشباب جيداً، وكل النخب الثورية التي يتشاركون وإياها الأهداف والتوجهات نفسها، أن الإشكالية الحقيقية التي يواجهونها، وتعيق توجههم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من صورة الدولة، مجازاً، التي قامت ثورتهم من أجل إيجادها تكمن في عدة أسباب. في مقدمتها فشل الشباب وعدم نجاحهم في تشكيل حامل سياسي وطني، ناظم لتوجهاتهم ورؤاهم الثورية والوطنية، وغيابهم وتغييبهم التام، بإيجاد بديل مزيف لهم، عن الوجود في مؤسسات صناعة القرار السياسي، في هذه المرحلة الانتقالية الحساسة والخطيرة، كمؤتمر الحوار ولجانه المنبثقة عنه. وثالث الأسباب الغياب الكبير للشباب عن موقع المعارضة، الشاغر منذ تشكيل حكومة الوفاق التي جمعت السلطة والمعارضة في حكومة واحدة، لا معارض لها.
أعتقد أن هذه بعض الأسباب التي يجب أن تؤخذ في الحسبان، في أي تقييم أو مراجعةٍ لأسباب الإخفاق في المرحلة السابقة، وكيف يمكن معالجتها حالياً، أما ما يتعلق بالرؤية الوطنية الإستراتيجية للمرحلة كلها، فأعتقد أن الانكفاء التنظيري المجرد في إعدادها بمعزل عن كل ما يجري نوع من العبث أو الجنون، في ظل ما يجري من تطوراتٍ متسارعة، تسلبك القدرة على تأملها جيداً، فالمشاركة في حلها لاحقاً.
ما أزعمه، هنا، أن ما ينقص الشباب للعمل ليس غياب الرؤية التي سينطلقون وفقها، كونها موجودةً، أصلاً، من خلال متطلبات هذه المرحلة، المتمثلة بمخرجات كثيرة لمؤتمر الحوار الوطني، والتي تمثل حداً أدنى، للعمل بها وإنجازها، مما يعني أن الشباب، في هذه المرحلة، ليسوا بحاجة إلى إعداد رؤيةٍ، بقدر حاجتهم إلى إطار جبهوي شعبي ناظم، للضغط من أجل تنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار، بحسب الأولويات، ومزيد من التأخير يصب في صالح جماعات العنف، غير أن جزءاً من الإشكالية القائمة، اليوم، تتمثل في حالة التشظي الشبابي الذي يعكس نرجسيةً تعكس نفسها في حالة الإعلان المفاجئ للفكرة، قبل بلورتها، عدا عن أن تسمية "الطريق الثالث" تفترض تعبيراً عن وجود طريقين أخريين، يتنافسان المشهد اليمني الراهن أيديولوجياً، فيما الذي تعانيه الحالة اليمنية، على مدى قرون، هو فشل محاولات إيجاد الدولة تاريخياً ومركزية القوى المعيقة لوجود فكرة هذه الدولة أصلاً، فضلاً عن حلم الشروع في تطبيقها على أرض الواقع أساسا.
أياً يكن الأمر، ما ينبغي التركيز عليه، اليوم، هو النظر إلى الإشكالية اليمنية بخصوصياتها، والبحث عن حلولٍ تتناسب معها، ترتكز على فهم تعقيدات الوضع اليمني تاريخياً، والمتمثل بالمعيقات الرئيسية لقيام الدولة، وفي مقدمتها، مركزية الفكرة المذهبية "الحاكمة"، بشقيها القبلي أو السلالي، والتي تعيد إنتاج ذاتها بصور وأشكال شتى، وفقاً لكل مرحلة، وتجليها اليوم بجماعة الحوثي المسلحة، كأهم وأخطر عائق لقيام الدولة الوطنية الديمقراطية.
الجانب الآخر، في الإشكال اليمني، النرجسية النخبوية التي تبحث عن الحلول في أبراجها العاجية، بعيداً عن واقع تعقيدات الحالة اليمنية وخصوصياتها، مما يعني أنه لا مدخل للحل من دون المرور ببوابة الواقعية السياسية، في قراءتنا تعقيدات هذه الحالة، ومكامن حلولها، بعيداً عن أي شطط أو تعالٍ انتلجنسوي، يقارب الحلول، بعيداً عن سياقاتها الواقعية والموضوعية.
عموماً، ما يقوم به شباب الطريق الثالث، أو الإرادة اليمنية، أو حتى مجلس شباب الثورة، وغيرهم كثيرون، عمل كبير وجبار أخلاقياً ووطنياً، لا تنقصه الحماسة في التنظير بقدر ما تنقصه الحماسة في التطبيق والإنجاز، وهذا لن يتأتى إلا بالنزول عملياً إلى أرض الواقع، من الأبراج العاجية، وتوحيد كل هذه الجهود، أولاً وقبل كل شيء.
الحقيقة المرة التي يجب أن تقال إن شباب الثورة وكل القوى الوطنية، في هذه المرحلة، في سباق ماراثوني مصيري، وليس تنافسياً مع جماعات العنف، وبالتحديد جماعة الحوثي، ومن سيتقدم هو من سيشكل المشهد القادم، بكل تفاصيله، سلباً وإيجابا، ويدرك الجميع جيداً ماذا يعني هذا.
تعيش الساحة الوطنية فراغاً كبيراً، من أصحاب المشاريع الوطنية، وهو، بالتالي، ما سهّل لأصحاب المشاريع المتخلفة، والرجعية، أن تسعى إلى ملء ذلك الفراغ، اليوم، وتشكيله وفقاً لمخططاتها التدميرية، التي قد لا يسعف الوقت رواد الإنقاذ الوطني أن ينقذوا ما يمكن إنقاذه، في وضع كهذا تتفاقم فيه عوامل الانفجار، أكثر من توفر عوامل الاستقرار.