يحتاج اليمن إلى معجزة تمنع تفككه قطعا متناثرة؛ في ظل كابوس أن سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء ألغت من الحسابات السياسية والوطنية مسمى الدولة التي كانت على علاتها هي الرابط الوحيد الذي يمنع انفصال أي جزء.. ولمن قد لا يصدق ذلك فليتأمل مدلول دعوة الرئيس هادي لسفراء الدول الراعية لمبادرة الخليجية ؛وما تناسل منها؛ لتحمل مسؤولياتهم إزاء أمن واستقرار اليمن، والعمل من أجل استكمال ما تبقى من شروط المرحلة الانتقالية، وتنفيذ مخرجات الحوار الوطني، واتفاقية السلم والشراكة!
ولا شك أن أي إنسان لا يعرف من هو هادي ويقرأ الخبر؛ فأول ما سيخطر بباله أن المتكلم هو مبعوث أجنبي دولي خاص ببلاد السعيدة أو سفير للنيات الحسنة لشؤون اليمن؛ هاله الحال السيء الذي وصلت إليه البلاد فبادر إلى تنبيه أولياء الأمر فيها للقيام بواجباتهم الدستورية! وسيكون مما يعم به البلاء أن يطلع ذلك الإنسان أيضا على تصريحات سابقة لوزير الدفاع اليمني التي تحدث فيها عن حيادية الجيش في المعارك التي جرت بين قوات عسكرية تتبعه وبين منظمات عسكرية غير رسمية مما توصف في العالم بأنها مليشيات غير شرعية.. وقد يسرب إليه محب للفتنة أوامر للوزير نفسه للقوات التابعة له بعدم اعتراض المليشيات المسلحة وهي تقتحم العاصمة وتسيطر على أبرز مؤسساتها العسكرية والأمنية والسياسية، ودون أن تجد أي سفير من العشرة البررة يقف في وجهها ويتحمل مسؤولياته في الحفاظ على الدولة ومؤسساتها!
وإلى أن يفهم المستمع الغريب أن المتكلم هو رئيس الجمهورية المسؤول الأول عن البلاد والعباد؛ فقد تتغير خارطة اليمن كما عرفناها منذ ربع قرن من الزمن.. لكن ستظل الحيرة قائمة حول السبب الذي جعل سفراء الدول العشرة يقصرون في القيام بواجباتهم إزاء أمن واستقرار اليمن! فهل كانوا مثلا ينتظرون أن يقوم بها بدلا منهم: وزير الدفاع أو وزير الداخلية.. أو لا قدر الله كانوا يتوقعون أن يقوم بها رئيس الجمهورية نفسه؟ مع أن كل الوقائع والحقائق تقول أن الثلاثة ليس لهم علاقة بالموضوع إطلاقا، ولا يتحملون أي مسؤولية في ذلك: فالأول مجرد وزير للدفاع.. والثاني فقط وزير الداخلية.. والأخير هو رئيس الجمهورية فقط لا غير!
بالنسبة لي لا أستغرب أبدا هذا الفهم لحقيقة مسؤولية القيادات فهي شائعة عربيا ويمنيا.. فهذه الجامعة العربية والدول العربية كلما تعرضت غزة لعدوان صهيوني تسابقت بياناتهم تدعو المجتمع الدولي ومجلس الأمن لتحمل مسؤولياتهم تجاه الشعب الفلسطيني.. ولسان حالهم يقول للمستغربين: و إحنا ما دخلنا.. إحنا إلا جامعة عربية ورؤساء وملوك عرب!
يمنيا؛ كنت شاهدا على حادثة مماثلة في مؤسسة تعليمية كنت أعمل فيها في التسعينيات؛ فقد تعرض المختبر لسرقة.. ولما استعدى المدير الحارس ليسأله عما حدث وكيف حدث مما يقع تحت مسؤوليته كما هو مفترض؛ رد الرجل عليه وهو يشي بأصبعه السبابة ببراءة الجامعة العربية والدول العربية وقادتها:
-وأنا ما دخلي، أنا إلا.. حارس؟
***
منذ نزحت من عدن إلى الشمال (يسميها أهل الجنوب: هروب!) عشت سنوات طويلة قبل الوحدة هاجسا مخيفا أن يموت أحد من عائلتي هناك في عدن ولا أتمكن في حضور وداعه الأخير وشهود جنازته.. والله وحده يعلم كم قضيت تلك السنوات ؛وخاصة أيام الأزمات والحروب الداخلية؛ وأنا أضع يدي على قلبي خوفا أن يأتيني خبر وفاة والدي أو والدتي ؛أو أحد أشقائي وأهلي؛ وبيننا من الحواجز المادية والسياسية ما يعيق عن إلقاء النظرة الأخيرة عليهم.. إن لم يصل الخبر بعد أيام وأسابيع!
كان هاجسا ثقيلا على القلب والروح.. حتى يمكن القول إنني بكيتهم مرارا قبل أن يموتوا؛ كلما رأيت أحدهم في المنام في حلم غير مريح.. أو خطر على قلبي شيء من الهواجس عنهم.. أو كما حصل أيام أحداث يناير 1986 عندما انقطعت أخبار عدن إلا من أخبار الموت والدمار! وكان حالي معهم كحال الشاعر المتنبيء وهو يرثي جدته المحبوبة بعد سماعه خبر وفاتها وهو بعيد عنها:
بكيت عليها خيفة في حياتها
وذاق كلانا ثكل صاحبه قدما
ثم جاءت الوحدة وتلاشت الهواجس الثقيلة إلا فترة الحرب الاهلية عام 1994 فأيامها عادت المخاوف ثانية أن يعود الانفصال وتعود الحواجز من جديد.. واليوم عادت الهواجس من جديد مع هذه التطورات المخيفة التي لحقت بالبلاد، وارتفاع الأصوات المنادية في الجنوب باستغلال حالة السيولة المخيفة في وجود الدولة، وعجزها التام عن حماية عاصمتها ومراكز الحكم فيها، وإعلان الانفصال صراحة.. أو السيطرة على جنوب الوطن بالطريقة نفسها التي فعلها الحوثيون في صنعاء وعمران وصعدة!
يوم الثلاثاء وما بعده سيكون يوما فاصلا في تاريخ البلاد والدولة اليمنية.. لكنه بالنسبة لي ولمئات الآلاف من أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية في شمال وطنهم سيكون يوما أشد مما حدث من قبل.. وها أنذا أنتهز الفرصة لإجراء العديد من الأحاديث الهاتفية استفادة من فرصة قد تكون الأخيرة في سماع صوت الأحبة بمكالمة داخلية قبل أن يأتي يوم يصير الحديث معهم بمكالمة.. دولية إن سمحت الأوضاع الأمنية!
ونعود كما قال البردوني:
جنوبيون في صنعاء
شماليون في عدن!
وهذا طبعا إذا لم يحدث ما حدث عند انفصال بنجلاديش عن باكستان وانفصال باكستان عن الهند، أو لم تحدث عمليات انتقام متبادلة بفعل العصابات الإجرامية كما حدث في رواندا بين الهوتو والتوستي.. أو حدوث عمليات تهجير وطرد متبادلة تتقطع فيها أواصر عشرات الآلاف من العائلات، وتنهب فيها الممتلكات وتهان الكرامات الإنسانية لتحقيق أحلام الزعامات القديمة وأوهام مزيفي التاريخ الظامئين للعودة إلى كراسي السلطة على أشلاء الأوطان والشعوب!
***
وعلى ذكر الجنوبيين المقدرين بمئات الآلاف الذين يعيشون خارج الجنوب في شمال الوطن ودول الخليج وفي كثير من بلدان الدنيا بعد أن تشردوا من أيام الدولة الجنوبية السابقة؛ فهل هؤلاء سيعدون من مواطني الجنوب ومن ثم سيكون لهم حق المشاركة في الاستفتاء على الوحدة أو الانفصال أم سيعاملون كأجانب.. والاستفتاء سيكون من طراز جديد، وسيتم على طريقة: هنا حفرنا وهنا دفنا المشهورة في الدولة الجنوبية السابقة؟