من الأرشيف

لعبة إيران الخطيرة في اليمن

أعرب أحد الدبلوماسيين الأوروبيين المشاركين في وضع تقرير لحلف الناتو عن اليمن، عن اعتقاده أن «اليمن بلد بسيط، فالسعوديون يطعمون اليمنيين، بينما تمدهم إيران بالسلاح؟ إذن، ماذا يتبقى لليمنيين لفعله، فيما عدا مضغ القات ومحاربة بعضهم البعض؟».

ومثلما الحال مع جميع الصور الكاريكاتيرية، فإن هذا التصوير الكاريكاتيري الشفهي يضع العدسات المكبرة عند جانب واحد فقط من موقف معقد، ويبالغ في أهميته. اليوم، يجد اليمن نفسه أسيرًا لمجموعة متشابكة من الصراعات، التي رغم ضرورة تفحصها كل على حدة، فإنه من المتعذر فهمها تمامًا من دون العودة للإطار الجمعي لها.

منذ 2010، بدأ اليمن السير على جرف منزلق في طريقه نحو التحول لمنطقة لا تخضع لأي سيطرة أو لسيطرة جزئية على أفضل تقدير، وهي تجربة شاركه فيها الكثير من الدول الأخرى في فترات مختلفة من تاريخها. حاليًا، يمر عدد من الدول، أبرزها جمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان وبالطبع الصومال، بالتجربة ذاتها، وإن كان بدرجات متفاوتة.

في الواقع، ليست هناك دولة محصنة للأبد ضد السقوط في هذا المصير. وإذا لم يسحق «داعش»، فإن محافظات العراق الـ18 ستتحول لمناطق غير خاضعة لسيطرة.

ويمكن لهذه الظاهرة التمدد من سوريا والعراق إلى جيرانهما، خاصة لبنان وتركيا، عبر ما يطلق عليه استراتيجيون «تأثير نقطة الحبر». ويضم بعض المحللين منطقة شمال غربي باكستان لقائمة المناطق غير الخاضعة لسيطرة. كما تواجه أجزاء من كشمير المتنازع عليها والمناطق الباكستانية والإيرانية بإقليم بالوشستان خطر هذا المصير.

والملاحظ أن هذا الوباء لا يقتصر على دول العالم الثالث المنشأة حديثًا، حيث تحولت مساحات واسعة من الولايات المتحدة لمناطق غير خاضعة لسيطرة خلال حرب الانفصال. ومرت اسبانيا بتجربة مشابهة خلال حربها الأهلية. وعلى مدار جزء كبير من التسعينات، كانت أفغانستان مجرد منطقة ضخمة لا تخضع للسيطرة. ومؤخرًا، ظهرت مناطق غير خاضعة للسيطرة تنتمي ليوغوسلافيا السابقة على امتداد قرابة العقد. وتمر أجزاء من بورما «ميانمار» بنفس الوضع حاليًا.

وعليه، فإن النظر إلى الأزمة اليمنية كقضية أمن إقليمي، وإلى حد ما أيضا دولي، أمر مشروع تمامًا، حيث تشكل هذه الأزمة مصدر تهديد للسعودية وعمان، على الأقل لأن بإمكانها إنتاج كارثة إنسانية تدفع أعدادًا ضخمة من اللاجئين للنزوح عبر الحدود.

كما أن تفكك السلطة الحكومية بمقدوره تهديد أمن الطرق البحرية بخليج عدن والبحر الأحمر، خاصة باب المندب، أحد أكثر نقاط العبور حساسية على مستوى النقل البحري العالمي.

على مدار الحرب الباردة، ساور الولايات المتحدة الخوف من أن توفر جزيرة سقطرى اليمنية للاتحاد السوفياتي منصة لاستعراض القوة عبر المحيط الهندي. ويمكن لغياب السيطرة باليمن اليوم أن يسفر عن وقوع سقطرى وجزر أخرى أصغر بخليج عدن والبحر الأحمر في أيدي جماعات إرهابية على شاكلة «داعش».

ولقد عاينا بالفعل في الصومال ما يمكن للقرصنة فعله. بيد أن الأمر الصادم حقًا هو كيف أن هذا التهديد المتفاقم يتعرض إما للتجاهل من جانب القوى الكبرى وإما الاستغلال للوصول لمميزات تكتيكية تافهة من قبل قوى إقليمية متنافسة.

وفي هذا الإطار الأخير، تأتي لعبة الرهان الاستغلالية الخطيرة التي تقوم بها إيران حاليًا. والملاحظ أن وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية تصدر نبرة متفاخرة لأن بضعة متظاهرين حوثيين في صنعاء حملوا صور الخميني الراحل وخليفته علي خامنئي.

ونشرت صحيفة «كيهان» اليومية، الخاضعة لسيطرة خامنئي، تقريرًا حول دخول الحوثيين صنعاء بعنوان «انتصار ثورتنا الإسلامية».

وعجز كاتب افتتاحية الصحيفة عن إخفاء فرحته الغامرة خلال سرده لما اعتبره اعتناقا من قبل اليمنيين للنسخة الخمينية من الإسلام. وتجاهل حقيقة أنه من الصعب على الجيش الحوثي البالغ قوامه قرابة 10.000 مسلح السيطرة على مدينة صنعاء، وخاصة أنها مدينة يبلغ تعداد سكانها نحو مليوني شخص، بخلاف الأعداد الضخمة من اللاجئين التي تدفقت عليها مؤخرًا. ويدرك من يعلمون جيدًا التصميم المعماري لصنعاء بمتاهاتها وتعرجاتها التي لا حصر لها أن أي حديث عن فرض السيطرة على المدينة هو محض هراء، وخاصة أن الفئة التي افترض أنها ستتولى السيطرة ليست من السكان الأصليين لهذه المدينة مترامية الأطراف.

ومن الأمور الأخرى التي تاهت عن كاتب الافتتاحية أن الحوثيين يبدون ترددهم إزاء تولي زمام المسؤولية الحكومية، وهو أمر لا يتمتعون بأي خبرة أساسية تجاهه. ورغم أنه مثل معظم الحال مع اليمنيين، يعي الحوثيون كيفية استخدام أسلحتهم، فإنهم يفتقدون أي برنامج سياسي أو خبرة إدارية.

الأهم من ذلك، أن الكاتب لم يعلم أن اليمنيين حاملي السلاح يمكن دومًا استئجارهم، لكن يستحيل شراؤهم.

الملاحظ أن إيران ليست الوحيدة التي تتجاهل هذه الحقيقة، وإنما عمدت الولايات المتحدة هي الأخرى لإنفاق أموال ضخمة في محاولة لشراء ولاء العديد من الفرق اليمنية. ورغم كونهم من بين أفقر 10 دول على مستوى العالم، لا يزال اليمنيون يشعرون بالزهو والفخر تجاه هويتهم حتى اليوم.

قطعًا، اليمنيون ليسوا بحاجة لـ«حزب الله» أو ولاية الفقيه، مثلما يظن خامنئي على ما يبدو. إلا أنهم في الوقت ذاته لا يرغبون في بناء ديمقراطية ليبرالية مثلما يزعم البعض داخل واشنطن. ورغم أن هذا قد يصدم البعض، فإن اليمن حتى في ظل حكم الإمام أحمد الذي صوره البعض في وسائل الإعلام الغربية كوحش ينتمي للعصور الوسطى، بدا سعيدًا. والسبب وراء ذلك أن «الإمام» افتقد الأدوات القمعية لإرهابهم ولم يملك الموارد لتقديم رشى لهم. لقد تركهم في حالهم فحسب.

أما الحرب الأهلية التي اندلعت في ستينات القرن الماضي فكانت نتاجًا لتدخلات خارجية، خاصة من جمال عبد الناصر الذي كان يسعى وراء حلمه ببناء إمبراطورية عربية. والواضح أن حلم خامنئي ببناء إمبراطورية خمينية سيلقى المصير ذاته.

اليوم يقف اليمن على شفا مأساة إنسانية، حيث تعتمد البلاد على المساعدات الأجنبية في الحصول على 90 في المائة من غذائها، وقرابة جميع احتياجاتها الطبية. إن ما يحتاج إليه اليمن اليوم هو توفير مساحة تنفس مناسبة له لتجنب هذه المأساة. وعلى الأمم المتحدة أن تضطلع بدور الريادة في دعوة جميع الأطراف المعنية بالتوقف على الأقل عن صب مزيد من البنزين على النار.

لا يمكن لليمن أن يتحول لتابع لأي أحد، لكن لو أصبح ذئبًا جائعًا فإنه قد يعض الكثيرين.

زر الذهاب إلى الأعلى