أرشيف الرأي

ليلة سقوط الجمهورية

في الواحد والعشرين من سبتمبر 2014 سقطت الجمهورية في اليمن، وصعد نظام جديد ‏خليط من الميليشاوية والملكية والجمهورية بمرجعية ثيوقراطية متوحّشة. يتحدث مشايعو هذا ‏النظام عن رحمته وعدالته. أما الآخرون، وهم الأغلبية، فيتحدثون عن جبروته ولا أخلاقيته. ‏بموازاة ذلك منح هذا النظام الجديد أتباعه الأمن، وقال إنهم المواطنون الصالحون. أما ‏الآخرون فكان الخوف نصيبهم، وكانوا بنظر هذا النظام الجديد مجرد لصوص، وإرهابيين، ‏وعملاء. هكذا انقسم المجتمع أفقياً منذ اليوم التالي للسقوط. بقيت نسبة من السكّان خارج هذه ‏الثنائية، وهؤلاء علقوا بين المواطنين الصالحين والأشرار.‏

لا يعلم أحد كم من العمر يبلغ هادي، لكنه لا يزال قادراً على الكذب كفتى في العشرينات. ‏ولا يعلم أحد كم لديه من الأولاد لكنهم يشاركونه الكذب كشيوخ في الثمانينات. حاصر ‏الحوثيون عمران، واختلقوا الذرائع. كان قائد اللواء 310 أحد أشهر خصومهم العسكريين. ‏حشد الحوثيون قدرات رهيبة وحاصروا مدينة عمران لأشهُر. أما هادي فقد قال للسفراء ‏الأجانب إن ما يجري في عمران ليس سوى مناوشات بين الإصلاح والحوثيين. سقطت ‏عمْران، وقتل قائد اللواء مع مجموعة من قادة اللواء وجنوده فلم تصدر وزارة الدفاع، ولا ‏الرئاسة، بياناً، ولا حتى بطاقة عزاء. حتى تلك اللحظة كان مكتب هادي يوزع بطاقات العزاء ‏على الجمهورية اليمنية حتى ليخيّل للمتابع أن اليمن يمرّ بوباء. بعد أيام زار هادي مدينة ‏عمران الواقعة تحت سيطرة الحوثيين. برر ذلك، بحسب حديثه لهيئة الاصطفاف الوطني ‏بجملة "هددت السفارة البريطانية بأنها ستغلق أبوابها، وأن البعثة ستغادر". وعندما سئلت ‏السفيرة البريطانية عن ذلك قالت إنها لم تتحدث معه بهذا الشأن، وأن بريطانيا لا تفكر بالتخلي ‏عن اليمن في هذا الظرف. كان هادي يحاول منح الغزو الحوثي لعمران مشروعية داخلية ‏وخارجية، وقد نجح في ذلك إلى حد بعيد.‏

انطلق إلى السعودية. أمام الملك بكى هادي طويلاً وارتجفت أصابعه. الظروف صعبة، ‏والخدمات رديئة، والحوثيون يحاصرون صنعاء، وصنعاء بوابة الرياض. هكذا كان يتحدث ‏إلى الملك. تبرع الملك لليمن بحوالي ثلاثة مليارات دولار، منها 700 مليون دولار لتأهيل ‏العتاد العسكري، بما في ذلك الطيران الحربي. قال هادي للملك، بحضور وزير الخارجية ‏السعودي ووزير المالية، إن اليمن عازمة على التصدّي للحوثين وأن القدرة فقط هي ما ‏يعجزها، لا الإرادة السياسية. بعد عودته من السعودية رأس هادي اجتماعاً للحكومة قال فيه إن ‏السعودية عرضت تدخل الجيش السعودي لحماية صنعاء، مستعيراً كلمات الملك السعودي ‏‏"اليمن الفناء الخلفي للسعودية". لكنه ما إن غادر الاجتماع حتى طلب لقاء السفير الأميركي. ‏في اللقاء قال هادي للأميركيين إن السعودية تضغط عليه ليخوض حرباً ضد الحوثيين، وأن ‏اليمن غير قادر على مثل هذه الحرب. قال أيضاً أن هناك اتفاقات سياسية مع الحوثيين وأنه لم ‏يُسجل عليهم خروقاً حتى الآن. اقترب الحوثيون من صنعاء فقال هادي في خطاب نشرته ‏القنوات الرسمية إن الحوثيين لم يلتزموا باتفاقية واحدة منذ العام 2011.‏

إذا عدنا إلى الخلف قليلاً لنتأمل هادي من الأعلى فسنراه يمسك بالسماعة ويهاتف الرئاسة ‏الجزائرية. طلب من النظام الجزائري أن يعتذر عن لقاء الوفد اليمني برئاسة باسندوه. كان ‏باسندوه قد سافر إلى الجزائر مع وفد رئاسي رفيع لغرض "طرق الأبواب" والبحث عن ‏أصدقاء جدد ومساعدات جديدة. مستنداً إلى علاقة قديمة مع بوتفليه أمل باسندوه أن يعود الوفد ‏بمكسب يليق بحجم الزيارة. اعتذر بوتفليقه عن لقاء الوفد اليمني، وكانت الحجة: إن الرئيس ‏يعاني من وعكة صحية. أما هادي فقد أبلغ السعوديين بالقصة على النحو التالي: باسندوه اتجه ‏إلى الجزائر، ويبدو أنه يدبّر شيئاً للمملكة من واقع معلوماتنا. غضب السعوديون، وهم غالباً ما ‏يديرون سياستهم الخارجية بالغضب تارة وبالانحناء تارة أخرى. في الأشهر التالية سترفض ‏السعودية إعطاء باسندوه تأشيرة دخول إلى أراضيها قبل أن يكتشف الرجل السر، ويشرح ‏موقفه للجيران. ‏

على طريقة العبد المسحوق يتصرّف هادي. يكذب في كل الاتجاهات، يخدع كل الاتجاهات، ‏ويسقط في كل الاتجاهات. وبالنسبة لدبلوماسي غربي رفيع فإن هادي أمام خيارين، في هذه ‏الساعة: أن يفرّ إلى الخارج، أو أن يعيش كنسخة أخرى من فارس منّاع بدرجة رئيس ‏جمهورية. يقول المسؤول الغربي: تقديري أن لدى هادي الاستعداد النفسي لأن يلعب دور ‏فارس منّاع، على أن يلقب بالرئيس.‏
رفع الحوثيون جاهزيتهم القتالية لاقتحام صنعاء. استخدم الحوثيون، بحسب تقارير وزارة ‏الداخلية، كل وسائل الاتصالات الخاصة بالتشكيلات العسكرية التابعة لصالح، وكان عمّار ‏صالح هو المزوّد الرئيسي لكل أشكال المعلومات حول صنعاء. كان عمار وكيلاً لجهاز الأمن ‏القومي، لم يترك في الجهاز الأكثر الأهمية سوى الأشياء الأقل أهمية عندما أقيل من منصبه. ‏الرواية الخاصة بوزارة الداخلية تقول إن الأطقم العسكرية التابعة لصالح انتشرت في الأحياء ‏وباشرت عمليات اقتحامات وهي ترفع شعار الحوثيين. أما صالح فقد كان على اتصال مستمِر ‏بقيادات عسكرية في صنعاء.‏

قبل السقوط اجتمع هادي بهيئة الاصطفاف الوطني وأخبرهم بقصة فانتازية عجيبة. قال لهم ‏إن الأميركيين أخبروه بأنهم لاحظوا، عبر أقمارهم الاصطناعية، تناقصاً مستمرّاً في أعداد ‏الحوثيين حول صنعاء. وبالنسبة لهادي فإن ذلك يعني أنه لا داعي لمزيد من القلق، وأن ‏المسألة في طريق حل نفسها بنفسها. كان حريصاً طيلة الوقت على تأكيد أن كل شيء على ما ‏يُرام. لكنه عاد، كما روى لي أكثر من شخص حضر اللقاء، وطلب من هيئة الاصطفاف أن ‏تنشئ مخيمات جوار خيام الحوثيين. ذهب بعد ذلك إلى قيادات حزب الإصلاح وطلبَ منهم ‏أمراً عجيباً. فقد سمعوا منه رجاءً خاصاً بأن ينشئوا مخيمات جوار خيام الحوثيين حول ‏صنعاء. رفض الإصلاح، واعتذرت هيئة الاصطفاف الوطني، فلجأ هادي إلى حيلة أخرى. ‏أرسل وفداً كبيراً إلى صعدة للقاء عبد الملك الحوثي. ما إن وصل الوفد إلى صعدة حتى طلب ‏هادي من وزير الإعلام أن يعلن التلفزيون خطاب حرب ضد الحوثيين. لكن وزير الإعلام ‏رواغ هادي وملأ الشاشة بالأغاني الوطنية والشعبية. فشلت حيلة هادي، فاشتعل غضباً وهاتف ‏أحد الوزراء كما أخبرني مستفسراً عن امتناع التلفزيون عن نشر "بيان الحرب" فأخبره أنه ‏لا يعرف عن الأمر شيئاً، وأن المخول بالإجابة هو وزير الإعلام. كانت خطة هادي تتحرك ‏كالتالي: بما إن هنالك وفداً رئاسياً في صعدة، وخطاباً حربياً في التلفزيون فليس لذلك من تفسير ‏سوى أن حزب الإصلاح هو من يرفض السلام الداخلي ويسعى إلى التصعيد. في الاجتماع ‏الأخير لهيئة الاصطفاف سأل باتيس إصلاح حضرموت وزير الدفاع "لماذا لا تدافعون عن ‏صنعاء" فرد الأخير "تريدون منا أن نتخلص من الحوثيين لكي تتفرغوا لنا".‏

كانت خارطة صنعاء ليلة السقوط كالتالي: هادي ووزير دفاعه في القصر، مسلحو الحوثيين ‏ينتشرون في كل مكان، ميليشيات صالح تحت لوحة حوثية يقتحمون الأحياء، وزارة الداخلية ‏مشلولة كلّياً، وهناك فقط 500 شخص هم من وقفوا دفاعاً
عن صنعاء، سيتذكرهم التاريخ.‏

بحسب الرواية الخاصة التي انفردت بها وزارة الداخلية فلم يدافع عن صنعاء ليلة الـ21 من ‏سبتمبر سوى 500:‏
‏200 فرد من اللواء 314 حول التلفزيون، و300 شخص في الفرقة الأولى مدرّع من ‏المستجدّين المحسوبين على الثورة.‏

وضعت اللجنة الأمنية العليا خطة على الأوراق، ثم أصدرت بياناً يطالب كل وحدات الجيش ‏بالبقاء في ثكناتها. انقطعت الصلة بين وزارة الداخلية والرئاسة، وبين الداخلية والدفاع. ‏عشرات الاتصالات التي أجراها وزير الداخلية مع كل من رئيس الجمهورية ووزير الدفاع لم ‏يجب عنها أحد. ترك هادي ووزير دفاعه صنعاء تغرق بمفردها.‏

تحرك هادي ووزير دفاعه تلك الليلة على نحو مريب. أبلغ وزير الدفاع القيادات العسكرية ‏في صنعاء بأن الأطراف كلها، بما في ذلك الرئاسة، على وشك توقيع اتفاق للسلام والمصالح، ‏وأنه لا داعي للمواجهة أو الاستنفار. في الوقت نفسه أبلغ وزير الدفاع قيادات حزب الإصلاح ‏بأن الدولة اتخذت قراراً بشنّ الحرب، وأن عليهم أن يكونوا عند مستوى اللحظة. انتشر ‏الإصلاحيّون في أماكن كثيرة في صنعاء، وتجمّعت حشودهم لدى القبائل، وكان أكبر تجمّاً ‏للإصلاح في أرحب. ففي صباح الواحد والعشرين من سبتمبر كنت على تواصل مع ‏متطوّعين في أرحب وكانوا في كامل استعدادهم النفسي والذهني. بالنسبة لرواية وزارة ‏الداخلية فقد "تبخّر الإصلاحيون فجأة من كل مكان".‏

أما هادي فكان على الهاتف يبلغ المجتمع الدولي بأن ما يجري مجرد مناوشات بين الإصلاح ‏والحوثيين، وأن الإصلاحيين لأسباب غير معروفة يرفضون اتفاقات السلم والمصالحة. هذه ‏الرواية جاءت أيضاً على لسان السفير الأميركي الذي قال لدبلوماسي يمني رفيع بأن وزارة ‏الدفاع أبلغتهم بأن كل شيء على ما يُرام، وإن الإصلاحيين فقط هم يحاولون الاصطدام مع ‏الحوثيين، وأن ما حدث في شملان ليس سوى مناوشات بين الطرفين. حتى يوم السقوط كان ‏السفراء الأجانب يرددون إن كل المعلومات التي تردهم من الرئاسة والدفاع تتحدث عن التزام ‏الحوثيين بالاتفاقيات، وأنهم لم يسجلوا خرقاً واحداً من قبل الحوثيين.‏

لكي تكتمل اللعبة المدمّرة طلب هادي من اللواء علي محسن الأحمر العودة إلى الفرقة الأولى ‏مدرّع. كان اللواء 314 الواقع في شمال العاصمة قد سقط كلّياً في يد الحوثيين بعد أن طلب ‏وزير الدفاع عن القادة المغادرة، ثم ذهب صباح اليوم التالي وطلب من الجنود الاستسلام كما ‏روى الجنود لصحيفة المدينة السعودية، ولأكثر من وسيلة إعلامية أخرى.‏

تبخّر الإصلاحيون وبقيت الفرقة الأولى مدرّع بـ300 مجند شاب. طلب هادي من محسن ‏أن يواجه ووعده بستين دبابة. مرّ الوقت ولم يصل شيء من السلاح، كما لم تتحرك أي من ‏القطع العسكرية لحماية شمال العاصمة. بقي جنوب العاصمة مجمّداً، فقد وجد الجائفي، قائد ‏الحرس الجمهوري، نفسه ضمن لعبة معقّدة غير مفهومة، بينما يتلقى سيلاً من الأوامر تطلب ‏منه البقاء في مكانه ونسيان كل ما يجري في صنعاء. في تلك اللحظة وصلت رسالة جوّال إلى ‏تلفون مسؤول يمني رفيع من دبلوماسي غربي في صنعاء، تربطهما علاقة صداقة "لقد تم ‏تحديد القشيبي 2". جمع محسن الجنود في الفرقة بعد أن خاضوا مواجهة مرّة وصعبة وقال ‏لهم "اخلعوا الزي العسكري، والبسوا زيّاً مدنيّاً، لقد انتهى الأمر". غادر المجنّدون، وتبخّرت ‏كل اللجان الشعبية التي كان عمودها الإصلاح. تقول رواية قيادات الإصلاح إنهم أحسوا بأن ‏قراراً قد اتخذ بتصفيتهم، وتدمير التنظيم كلّياً.‏

في ظهيرة الواحد والعشرين من سبتمبر جاءتني رسالة من شاب كان حتى الفجر ضمن ‏معسكرات المتطوّعين في أرحب. تقول رسالته "أنا الآن في صنعاء، انتهى كل شيء. باعونا ‏عيال القحبة".‏

كانت صنعاء تعج بحوالي 60 ألف عسكريّاً ضمن تشكيلاتها العسكرية المختلفة، لكن الذين ‏دافعوا عنها لم يكونوا سوى أولئك الـ500 فرد. صحيح إنهم لم ينقذوها لكنهم حفظوا شرف ‏الإنسان اليمني إلى الأبد.‏

في القصر الرئاسي كان هادي هادئاً، ومبتهجاً، ومعه في الداخل الساسة ووزير دفاعه. قال ‏إن سبب بهجته يعود إلى رؤيته لحكمة اليمنيين وهي تبهر العالم. أما وزير الداخلية، ع. ‏الترب، فقد بقي لوحده في الخارج. رفض الحوثيون التوقيع على الملحق الأمني عصر ذلك ‏اليوم مشترطين محاكمة قتلة الثوّار. أدرك الترب أنه
المقصود، وكان عليه أن ينقذ نفسه.‏

تصرّفت الداخلية على النحو التالي: أمنت البنك المركزي بعدد 70 جندي أمن مركزي. ‏خلال ساعات كان البنك، وحراسته، تحت حصار ينفذه حوالي 300 مسلحاً حوثياً مستخدمين ‏الدبابات التي سيطروا عليها من اللواء 314. المعلومات وصلت لدى قائد الجيش، وزير ‏الدفاع، ورئيس الأركان لكنهما لم يفعلا شيئاً. بدلاً عن ذلك أعادوا التأكيد، عبر بيان رسمي، ‏على أن الجيش لن يغادر ثكناته. كانت رسالة شديدة الصرامة والصراحة تقول للمهاجمين: ‏الجيش يقع خارج خطوط سيركم. اقتحم الحوثيون مقرّ القيادة العامة، ثم حاصروا المالية ‏والداخلية. بالنسبة لرواية وزارة الداخلية فقد انهارت معنويات أفراد الشرطة والأمن كليّاً في ‏تلك الساعات، وبدأوا بالفرار وخلع الزي الأمني. كان الحوثيون يمهلون حرس كل مؤسسة ‏نصف ساعة فقط للهرب.‏

تقول قيادات وزارة الداخلية في شرحها لما حدث: كان لدينا خياران، إما المواجهة المحسومة ‏سلفاً، أو الفرار وترك كل شيء للفوضى والنهب. كلا الأمرين كارثي، لذلك لجأت الوزارة إلى ‏طريق ثالث "الاتصال بالسيد عبد الملك الحوثي مباشرة وحقن الدماء وحفظ ما بقي من ‏المؤسسات". ساقت الأقدار، بحسب تعبير مسؤول أمني رفيع المستوى، السيد يحيى المختفي، ‏وهو وكيل محافظة صعدة. ترجاه قادة وزارة الداخلية أن "يشفع لهم" لدى عبد الملك الحوثي، ‏ففعل. في الرابعة من مساء الواحد والعشرين من سبتمبر جاء تعميم من عبد الملك الحوثي ‏يطلب من أتباعه التعاون مع الشرطة واعتبارهم "إخوةً لأنصار الله". وزير الداخلية، من ‏جهته، أصدر تعميماً موازياً مستخدماً الكلمات التي وردت في تعميم "السيد"، أي اعتبار ‏الحوثيين أصدقاءً للشرطة. وفي تمام الثامنة والنصف مساءً جرى التوقيع على اتفاق السلم ‏والشراكة، الذي سيصفه دبلوماسي غربي رفيع بأنه "لا يساوي قيمة الحبر الذي كتب به".‏

بقي الملحق الأمني دون توقيع، فقد كانت رأس وزير الداخلية مطلوباً. كانت خطابات
الحوثي تفصح عن هذه الرغبة المتوحشة تحت لافتة "قتلة الثوّار". ولهذه القصة جزء خفي، ‏ومرعب..‏

فعندما تظاهر الحوثيون في صنعاء أصدر هادي تعليماته إلى وزير الداخلية باستخدام الذخيرة ‏الحيّة وضرب المتظاهرين في السيقان والأقدام والمناطق غير المميتة. وكما راوغ وزير ‏الإعلام قبل ذلك فقد فعل وزير الداخلية أمراً مشابهاً سيتذكره التاريخ باعتباره فصلاً فانتازياً ‏شديد الغرابة. ألقى ع. الترب محاضرات في كبار ضباط الداخلية وشرح لهم الطرق الحديثة ‏في مواجهة المعتصمين، ثم أصدر تعميماً خطيّاً بعدم استخدام الذخيرة الحية أياً كانت ‏الاستفزازات. في اليوم التالي للتوقيع كانت شخصية رفيعة من "أنصار الله" تجلس بمواجهة ‏وزير الداخلية وتبلغه بموقف الحوثيين منه، وتنبّهه إلى حقيقة أن فرصه في النجاة أصبحت ‏ضئيلة. لم يتدخل هادي، كالعادة، وبدلاً عن ذلك فقد أبلغ أنصار الله بأن وزير الداخلية كان ‏يعمل بخلاف أوامره. لكن الترب، بمساعدة القدر أو الحظ أو كليهما، تذكر التعميم الخطي ‏الذي كان قد كتبه قبل حوالي شهر من تلك اللحظة وقدّم نسخةً منه لرسول السيد عبد الملك.‏

بعد أيام قليلة أصدر عبد الملك توجيهاً بعدم اعتراض موكب وزير الداخلية، وحذف اسمه من ‏قوائم الممنوعين من السفر. كما وافق على التوقيع على الملحق الأمني.‏

لدى الحوثيين قائمة ممنوعين من السفر. فعندما أراد وزير الإعلام قبل أسابيع مغادرة اليمن ‏فإن أوراقه بقيت لمدة ثلاثة أيام لدى أنصار الله. بعد ذلك جاءته الموافقة، وتمكّن من مغادرة ‏صنعاء عبر المطار الدولي. سألته شخصياً عمّ إذا كانت
هذه المعلومة صحيحة فقال إنها صحيحة تماماً.‏

أما وزير الداخلية فردّ على رسالتي بالقول "نعم، طلبتُ موافقة السيد عبد الملك الحوثي على ‏سفري، وعندما حذفوا اسمي من قائمة الممنوعين من السفر غادرت صنعاء".‏

كانت الصدمة كبيرة ومدّوية في كل اليمن. أما صداها في السعودية فقد سمِع من خلال ‏كلمات المفكر السياسي الإيراني صادق الحسيني "السعودية قبيلة تنقرض". ضلل هادي ‏السعودية، وخدعها، وأدخل الحوثيين إلى صنعاء، ثم سلّمهم اليمن كلّها، وها هو يفتح أمامهم ‏أبواب الجنوب. انتقم لـ17 عاما من العبودية بطريقة مجنونة، أحرق كل شيء أمامه وخلفه ‏لكي يطفئ حرائقه الداخلية.‏

قبل أيام ألقى هادي خطاباً تحدّى فيه الحوثيين، وطالبهم بسرعة مغادرة المُدن. احتار ‏المحللون كثيراً في فهم خطاب هادي. غير أن الأمر لم يكن بحاجة إلى الكثير من التفكير. فقبل ‏خطاب هادي بيوم واحد فقط أوقفت السعودية مبلغ 450 مليون دولاراً كانت معدّة للتحويل إلى ‏اليمن، وكالعادة عبر بنوك نيويورك. هذا المبلغ الضخم هو جزء من التزامات المملكة لليمن ‏منذ ما بعد سقوط عمران. السعودية تعلم أن جحيماً فتح فجأة في حدودها الجنوبيّة، وأن الرئيس ‏اليمني ضللها كثيراً. فبعد سقوط صنعاء، عندما كتبتُ عن 17 عاماً من العبودية، جاءني ‏اتصال من مسؤول سعودي رفيع، كان متحمّساً للمقال، وكان مخذولاً ومنذهلاً. تبادلنا الجمل ‏والكلمات ثم سلم الهاتف لأحد الكتاب المرموقين في صحيفة الحياة اللندنية، السعودية، فكان ‏الأخير يتحدث بمرارة وغضب، وكان يقول لي بحماس إنه يثق بنا، وأن علينا نحن الكتاب ‏اليمنيين الشباب أن نتذكر أنهم معنا. وقلتُ له أني سعيد لأني سأتعرف عليه ككاتب وصحفي ‏مرموق، وإن كان لقاء "تحت الأنقاض". ويبدو أن هذه الجملة أوجعته، أو أحزنته.‏

في خطابه مجّد هادي جلالة الملك وقال كلاماً مجانياً عن الحوثيين. أراد أن يقول في الوقت ‏الضائع إن الحوثيين غدروه، وأنه على الدوام لا ينوي شرّاً للمملكة.‏

بحسب المسؤولين الأمنيين في اليمن فإن التنسيق الأمني اليمني السعودي فيما يخص الملف ‏الحوثي كان عند أعلى مستوى له قبل سقوط عمران بأيام. كانت لقاءات الطرفين، بحسب ‏المعلومات الدقيقة التي وصلتني، تخلص إلى فكرة موحّدة: صنعاء باب المملكة الأمني، وأن ‏سقوطها سيفتح باب الشرور على السعودية. سقطت عمران، فطلبت المملكة توضيحاً من ‏اليمن عمّ حدث، الأمر الذي اقتضى سفر هادي بحقيبة الأكاذيب خاصته. أمام الملك جثا العبد ‏الرئيس وقال كلاماً كثيراً. بحسب المسؤولين الأمنيين الرفيعين في اليمن فإن التنسيق ‏السعودي مع الجهات الأمنية في صنعاء خفت بعد ذلك، ثم تلاشى. وأنه ليس لذلك من سبب ‏سوى أن الرئاسة تسلّمت الدور وبدأت عملية تضليل شاملة للمملكة. فقد كانت رواية الرئاسة ‏تعزف على القلق السياسي السعودي: الإخوان المسلمون. وحتى ما قبول سقوط صنعاء فقد سلم ‏السعوديون برواية هادي حول طبيعة الصراع "الحوثي، الإصلاح". قبلت السعودية الصفقة، ‏بطريقة ما، وغضت الطرف عن عملية اعتقدت أنها تهدف لتقويض حزب الإصلاح، تلك ‏العملية التي سيخرج فيها الحوثيون منتصرين ومنهكين في الآن نفسه، وسيكون هناك اتفاق ‏سلام جديد، وعهد جديد بلا مخاطر!‏

انتهت عملية تضليل الداخل والخارج بانهيار الجمهورية اليمنية كلّياً. لقد فقد الإنسان اليمني ‏أبسط حقّين طبيعيين يولد بهما ويموت بهما: حريّة السفر، وحرية امتلاك الرأي. ‏Reisefreiheit und Meinungsfreiheit‏ بالتعبير الألماني الدقيق لمعنى أن تكون حرّاً، ‏وأن يكون بلدك جمهورية.‏

ففي ظهيرة الواحد والعشرين من سبتمبر 2014 ألقى شاب سلاحه خارج أسوار صنعاء، ‏ودخلها مكروباً وهو يقول "انتهى كل شيء، باعونا عيال القحبة".‏

زر الذهاب إلى الأعلى