لم تمنع الغيوم السوداء المحيطة بالبلاد من كل الجوانب أن يحتفل المبدعون وعشاق اللغة العربية باليوم العالمي للغة العربية، هذه اللغة التي بالرغم مما تعانيه ما تزال قادرة على التعبير عن الحزن والخوف والأمل. ولنا ونحن نحتفل بهذه المناسبة المجيدة أن نتذكر أن اللغة العربية بعد أن تمكنت من أن تكون وسيلة تواصل روحي بين السماء والأرض قد نجحت إلى حد الانبهار في أن تواصل الصعود وتقدم روائع الفكر وفرائد الإبداع وأن تكون الناطق الرسمي والشعبي ولسان الحضارة العربية التي نقلت البشرية –وليس العرب وحدهم- من حال إلى حال، وفتحت الأبواب مشرعة في وجه التطور العلمي والفكري والأدبي، وهي وإن كانت الآن ما تزال تحظى بتقدير غير محدود من خلال كونها لغة القرآن الكريم ووسيلة التعبير عن الشعائر الدينية إلاّ أنها تواجه إهمالاً شديداً من أبنائها وحرباً ضاربة من أعدائها، وفي طليعتهم سماسرة العولمة الذين يسيرون فوق الأديان واللغات ويجترحون كل المحرمات المعنوية والمادية.
ويأمل كل محب للغة العربية أن يكون هذا اليوم الذي أعلنته المنظمة العالمية للثقافة والتربية والعلوم (اليونسكو) منذ عامين حافزاً لأبناء هذه الأمة للعناية بلغتهم والاقتراب مجدداً من تراثها العظيم والعمل على الإضافة إليه.
ولاأرغب هنا في تكرار الحديث عن الدور الذي لعبه ويلعبه الكيان الصهيوني في إحياء العبرية الميتة ونفخ الروح في مفرداتها وتحويلها إلى لغة للخطاب السياسي والفكري والاقتصادي وتدريس العلوم بها، ولكني سأضرب المثل –هذه المرة- بدولة "مالطة" وأهلها المحاصرين داخل جزيرة صغيرة المساحة والموارد ولكنهم يحرصون أشد ما يكون الحرص على أن تكون لهم لغتهم الخاصة بهم والتي كانوا وما يزالون يتحدّون بها اللغات المجاورة لهم والعابرة من حولهم، وهم في هذا الموقف ينطلقون من مفهوم يربط بين اللغة والهوية والوجود، فإذا سقطت اللغة سقطت الهوية وتعرض وجودهم للضياع، فأين نحن من سكان مالطة ، أين المائة والخمسون مليوناً من سكان ذلك البلد الصغير والغني بولائه للغته وهويته؟!
ولا أشك في أن من يمعن النظر في أوضاع اللغة العربية في المدارس والجامعات ووسائل الإعلام العربية على مستوى الوطن العربي كله سيصاب بالانهيار وفقدان الثقة في قدرة هذه الأمة على النهوض من كبوتها الطويلة شبراً واحداً، وأنه سيدرك أن الضعف السياسي والاقتصادي ماهو إلاّ التعبير المادي عن الضعف الذي حل باللغة العربية، ومن يراجع التاريخ ويدرس أسباب سقوط الحضارة العربية سيدرك أن سقوطها كان مسبوقاً بسقوط اللغة بعد أن سيطر على الحكم في بغداد وغيرها من العواصم العربية أقوام لا تربطهم بهذه اللغة رابطة ولم يكن أحد منهم معنياً بمصيرها، وسيكون من الصعب على العرب اليوم أن يتقدموا خطوة واحدة في ميدان التطور قبل أن تستعيد لغتهم عافيتها ومكانتها، وقبل أن يشعر الشباب من أبناء هذه الأمة وهم يبحثون عن عمل في أية مؤسسة عربية أنهم ليسوا بحاجة إلى لغة أجنبية تكون جوازاً لدخولهم إلى هذه المؤسسة.
وعلينا -في هذه المناسبة- أن نتذكر ونحن نستجدي بصيصاً من ضوء مدنية الآخرين أن هؤلاء الآخرين كانوا في وقت ما في وضع أسوأ من وضعنا الراهن وأنهم أفادوا كثيراً من الحضارة العربية وكانت اللغة العربية هي اللغة الثانية لعلمائهم ومفكريهم إن لم تكن هي اللغة الأولى، وأن الفرق بيننا وبينهم أنهم أخذوا جوهر الحضارة العربية ولم يكتفوا بما نصنع نحن من الأخذ بالقشور. وأرجو أن يكون واضحاً أن هذه الإشارة لا تأتي في هذا السياق من شعور فارغ بعظمة بائدة وإنما يأتي من شعور حاد بخجل مرير تجاه أوضاعنا الراهنة وما تستدعيه من إحساس بالإحباط والحسرة. ومن استرجاع لموقف لا يبرح الذاكرة حدث معي منذ عام أو أكثر عندما كنت في زيارة صديق ولم يتردد في أن ينادي ابنه وهو طفل في الخامسة لكي يطلعني على حصيلته من اللغة الإنجليزية وأمثال هذا الصديق كثيرون ممن يتباهون بإتقان أبنائهم للغة الآخرين وإهمالهم للغة الضاد.
عتاب من اللغة إلى وسائل الإعلام الرسمية والخاصة:
احتفلت بلادنا هذا العام باليوم العالمي للغة العربية، كما لم يحدث من قبل فقد أقامت وزارة الثقافة، ومعها اتحاد الأدباء حفلاً مهيباً بهذه المناسبة كما أقام قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة صنعاء حفلاً مماثلاً وكذلك كلية الآداب بجامعة العلوم والتكنولوجيا، وأقام المجمع العلمي للغة العربية حلقة نقاشية حول حاضر ومستقبل اللغة العربية، ووجه رسالة مفتوحة إلى الجهات المعنية في البلاد بشأن العمل على رفع مستوى العناية باللغة بوصفها جزءاً من كينونتها وهويتها لكن ذلك كله قوبل من وسائل الإعلام بالصمت المطلق لانشغالها بالسياسي العابر والمتقلب.
تأملات شعرية:
تأكدوا
أن اللغات ليست وحدها
مفتوحةً على الرياحْ.
الوطن الكبير مفتوحٌ على الرياح
والجراحْ.
الكلمات مثخناتٌ
والحروف مثخناتْ.
خناجر الغزاة أوغلت يا قوم
في الأجساد والأرواحْ.