بعد يومين يمضي عام بائس من عمر اليمنيين لا بد أن ذكرياته المريرة ستبقى عالقة في عقولهم وقلوبهم بما حملته من مآس وأحزان وقتل وتدمير للمنازل وانتهاك للحريات العامة منها والخاصة، وتبدد أحلام راودت مخيلتهم وانتهت إلى سرداب بلا نهاية ولا ضوء في نهايته.
بدأ عام 2013 بأوهام وزعها عليهم الساسة المتكئون على المجتمع الدولي عبر لقاءات «الموفينبيك» ومخرجاته التي ستدخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية، وعول عليها البسطاء من اليمنيين ثم بعثرت الأحزاب ما تبقى عندهم من آمال وطموحات، وجاء منتصفه ليبدد كثيرا منها ولم يصل العام إلى خواتمه إلا وقد امتلأت نفوسهم بالإحباط واليأس والخوف والبؤس، ولتعود إلى ذاكرتهم الجمعية أبيات الشاعر الراحل الفذ محمد محمود الزبيري:
«(ما لليمانيين) في لحظاتهم/ بؤس وفي كلماتهم آلام/ جهل وأمراض وظلم فادح/ ومخافة ومجاعة وإمام».
عندما يبزع فجر اليوم الأول من العام الجديد لن يكون بمقدور أحد ممن عبثوا بما يمتلكه اليمني من رغبة في غد أفضل له ولأولاده، أن يشرح له حقيقة ما جرى ومن المسؤول وكيف سيكون المصير القادم، وستكون أغلى أمانيه أن يبيت في أمن وسكينة وأن يستيقظ ومعه قوت يومه.. سيحدث هذا بينما النخبة السياسية مشغولة بأتفه القضايا وأقلها نفعا على حاضر اليمنيين وزادهم، وسيظل ممثلوها منهمكين في انتزاع حصصهم في الوظيفة العامة ونهب المال العام.
سيحل عام 2015 وبقايا الدولة ومؤسساتها المتهالكة قد وقعت تحت قبضة وسطوة «اللجان الشعبية» و«اللجان الثورية» التي مارست عبثا لم تشهده اليمن منذ 1948 عندما استباحت القبائل صنعاء ونهبت بيوتها، واليوم نشهد إعادة للحدث وقد طال كل مؤسسة عامة ووضعت هذه الأجسام غير الشرعية اليد على المؤسسات الخاصة لخصومها وروعت أسرهم وأهانتها، وسارت عناصرها مستعرضة عضلاتها على امتداد الرقعة الجغرافية لشمال اليمن غير مكترثة بصيحات الاستنكار والاعتراض، وزادت أن نكلت بكل من حاول إظهار أخطائها وخطاياها، وامتهنت كثيرين وبالغت بالأمر إلى حد التعرض للبعثات الدبلوماسية وتفتيش ممثليها، ولا بد أنها ستجني حصادا مرا لن يطول الزمن حتى تكتوي بنتائجه، ورغم أن كثيرين كانوا يضجون ويصرخون من الممارسات التي انتهجها حزب الإصلاح الإسلامي ضد خصومه ومعارضيه وإقصائهم، بل وحتى شركائه في تكتل «اللقاء المشترك»، ومع كل ما فعله حزب الإصلاح بمناوئه، إلا أنه لم يبلغ هذا السقف من العبث والغرور الذي تمارسه عناصر «أنصار الله – الحوثيين» وما يبرزه القادة الميدانيون وممثلوهم السياسيون من صلف وتعال.
صار اليمن اليوم محكوما بقوة لا تعترف بسلطان إلا سلطة السلاح، ولم يعد في الساحة غيرها، وأضحت عناصرها تجوب المدن والقرى وتدخلها كالفاتحين وتعلوها نشوة القدرة والقوة، وما كان ذلك ممكنا لولا تحالفاتهم في المناطق التي اقتحموها، بالتزامن مع تهاو مدو ومريب للجيش اليمني وكل القوات المكلفة حفظ النظام العام، ومن العبث الحديث عن ثورة وانتصارات بينما الناس يعيشون تحت رعب بنادقهم ومدافعهم، ومن غير المقبول أن يتصور «أنصار الله – الحوثيون» أنفسهم أصحاب حق (إلهي)! أو وضعي للقيام بواجب ومسؤوليات السلطات التي تعمدوا إنهاكها وإهانتها.. وفي المقابل، فإن المسؤولية السياسية والأخلاقية للسلطات القائمة تستدعي استبدال خطابها الممجوج والمكرر، والتهديد والوعيد الفارغين من القوة، بينما هي تعلم عدم قدرتها على القيام بأي دور يعيد لها جزءا من مكانتها وهيبتها، وقد يكون من المقبول والمعقول أن يترك القائمون عليها مواقعهم بدل الإكثار من الظهور الإعلامي غير المجدي، أو أن يمارسوا فضيلة الصمت.
قبل أيام قليلة توجه موكب مسلح من عناصر «أنصار الله – الحوثيين» إلى مدينة تعز، ولم يكن الهدف خافيا على أحد، فقد ظلت هذه المنطقة التي تسكنها أكبر كتلة سكانية في اليمن عصية على الدخول تحت طاعة «السيد»، ولم يقبل أغلب أبنائها أن يتصرف في شأنها غير أبنائها، كما أن هذه المحاولة البائسة بعثت في أذهان سكان تعز تاريخا قديما من تكرار المحاولات لإخضاعها وتغيير طبيعتها المدنية، ولما كان أغلب أبناء تعز لا يحملون السلاح ولا يتعاطون في حل قضاياهم إلا عبر وسائط قانونية وشرعية، فقد كانت لاقت مساعي «السيد» مقاومة، أعلم أنها تضع المنطقة أمام خيارات لا تمتلك تحديدها ولا هي قادرة على حسمها دون عون وتعاون من «المركز المقدس» الذي لا يمتلك المرء إلا أن يتعاطف مع الوضع المقرف الذي تعيشه مؤسساته.
لقد اعتاد أبناء تعز مقاومة خصومهم بالحيلة وإبداء عدم الرضا بتجاهل كل من يحاول تطويعها لأهدافه، وهنا يحتار المرء في فهم الرغبة الدفينة لدى «السيد» وأتباعه من تكرار مآسي الماضي غير البعيد وبعث أحقاد كانت السنوات الخمسين الماضية قادرة على التخفيف من غلوائها، وإن لم تطمسها من ذاكرة المجتمع التعزي خصوصا، والشافعي عموما، ولا بد أن يبدي «أنصار الله – الحوثيون» قليلا من التواضع في الطموحات التوسعية، وأن يعمدوا إلى فتح جسور حوار بالكلمة التي اعتادتها تعز عوضا عن استعراضات القوة التي يجيدون استخدامها ولا يجيدون سواها، وتحقيق أغراضهم عبرها، وبإمكانهم أيضا استخدام آليات أكثر تحضرا، فلعلهم يعلمون أن أبناء هذه المنطقة عاشوا مع آبائهم وأجدادهم بالعمل المثمر في الزراعة والتعليم والصناعة والتجارة، كما أن بها أكبر كتلة من دافعي الضرائب طواعية نظير الجهد الذي يبذلونه، بينما أقرانهم من حاملي السلاح يتصورون أنهم قادرون على جني الثمار به وحده.
إن ما يجري في تعز وقبلها في إب؛ حيث يجتمع فيهما ما يقارب 30 في المائة من سكان اليمن ينبئ بأن شهية «أنصار الله – الحوثيين» ما زالت مفتوحة، وأن كل مزاعمهم عن السلم والشراكة ليست إلا مفردات تغطي مشاعرهم العدوانية تجاه الآخر، ودعواهم بأنهم المكلفون دون سواهم نشر العدل والأمن في البلاد، وما كان هذا ليحدث لولا تخاذل وتقصير الساسة الذين استنزفوا عامين كاملين في لغو الكلام والانشغال عن البناء الإيجابي والتراكمي؛ مما أتاح لهذه القوة المسلحة أن تتمدد في رقع جغرافية لا تحمل ودا ولا مشاعر إيجابية تجاهها، لكن غرور القوة ويسر استخدامها يمنح مالكها الغرور لفرض ما يريد على الآخرين وظلمهم.
لا أدري ما سيحمله العام الجديد القادم، ولكن ملامحه تتبدى غير مبشرة بخير، فالأزمة الاقتصادية الخانقة، والعبث الذي يمارسه كل قادر على حمل السلاح، وتغيب المسؤولين عن مهامهم وتمسكهم بمواقعهم، وانهيار قيم الانتماء الوطنية، كلها مجتمعة ليست إلا نذر كابوس لن يفيق منه اليمن ومحيطه الأقرب إلا على وقع كارثة إنسانية، أدعو الله ألا يقترب هولها مما يحدث في سوريا والعراق وقبلها مما حدث في الصومال.