عندما يوظف الإسلام لغير ما هو له، يكون قد غادر مربع الروح، وهنا تكمن خسارته الكبرى التي تكون بالطبع لصالح الذين وظفوه للمصلحة السياسية أو الاقتصادية.
وعلى طول تاريخ الإسلام وجد من فتح به دكاناً للمتاجرة، ومن رفعه شعاراً سياسياً للوصول إلى العرش، ومن سوغ به التخلص من الخصوم السياسيين، وغيرها من الأغراض التي وصل إليها الانتهازيون على ظهر «حصان الإسلام».
المشكلة أن العوام من أتباع الإسلام في استجابتهم لدعوة الانتهازيين الذين يوظفون الدين للمصلحة السياسية في السلطة والاقتصادية في الثروة، لا يدركون حجم خسارة القيم الروحية والأخلاقية التي جاء بها الإسلام جراء هذا التوظيف المعيب للدين.
في تصوري أن مأزق الإسلام وأزمته الكبرى اليوم تنبع من انتهازية بعض أتباعه، لا شراسة الكثير من أعدائه. ذلك أن الإسلام اليوم أصبح بكل أسف أشبه ما يكون ب»ماركة تجارية» ألصقت على بضاعة فاسدة لغرض الترويج التجاري، وهو الأمر الذي أساء للماركة، واضر بالمستهلكين، في وقت تضخمت فيه جيوب من وضعوا الملصق الجميل على العلبة الفاسدة.
نحن يا سادة في حفلة تنكرية كبرى يقوم عليها شياطين في مسوح الرهبان، يخدعون الناس بمسوحهم لمجرد المتاجرة سياسياً واقتصادياً.
ومع أن الإسلام في الأصل دين يقوم على العلاقة المباشرة بين الله والعباد، إلا أن بعض من يقوم على الحفلات التنكرية لا يرضى إلا أن يجعل من نفسه وسيطاً بين المخلوقين والخالق، في تحدٍ واضح لجوهر الإسلام.
ومع أن نبي الإسلام جعل شغله الشاغل في بدء دعوته التصدي ل»البرجوازية الدينية»، إلا أن الذي يحصل اليوم هو عودة جديدة لسدنة أصنام مكة في ثوب إسلامي. تصدى محمد للتحالف الذي كان قائماً بين رجال الدين من الكهان، الذين زعموا انهم وسطاء بين الله والناس، وبين «برجوازية قريش»، وذهب بعيداً في نسف الأسس العملية التي قام عليها هذا التحاف المعيب، ليتحرر الإنسان من ربقة الوساطة بينه وبين الله، التي كانت تدر مالاً عظيماً، وسلطة واسعة ل»برجوازية قريش»، التي حاربت الإسلام في حياة نبيه، ثم وظفته سياسياً بعد موته. واليوم تمارس قريش المعاصرة برجوازيتها، ويحاول رجال دين مسلمون تقديم أنفسهم كأوصياء على الإسلام من جهة وبوابات مفتوحة تصل بين الناس والله من جهة أخرى. وهنا تكمن الكارثة.
بالأمس وظفت مناسبة مولد النبي محمد في كثير من مدن العالم الإسلامي توظيفاً سياسياً مشيناً، بعد أن كان المسلمون يحتفلون بالمولد النبوي بعفوية، بعيداً عن توظيفها لإبراز العضلات العسكرية، وتمرير الرسائل السياسية. السياسة أنهكت الإسلام، استنزفت طاقاته لأنها وظفته للوصول إلى المصالح السياسية لا القيم الروحية. والمصالح السياسية هي المصالح الفردية للإنتهازيين، بينما القيم الروحية تسعى إلى تحقيق المصلحة العامة للناس، وهنا الفرق بين الإسلام الوظيفي والإسلام النفعي، حيث يجسد الإسلام الوظيفي منفعة الناس، في حين يجسد الإسلام النفعي مصلحة كهان مكة وطبقتها البرجوازية.
الإسلام يتعرض لعملية نزيف داخلي خطيرة، ويحتاج إلى عملية جراحية سريعة لوقف هذا النزيف الداخلي الذي إن استمر، فسوف يؤدي إلى تسممات مختلفة يصعب علاجها. قيمه الروحية تغيب تحت شلال من دماء تسكب باسمه، أخلاقه التي جاء نبيه ليؤكد عليها ويتمم مكارمها، تغوص في رمال متحركة من صنع بعض أتباعه الذين لا يفهمون حركة التاريخ، ولا صيرورة الأشياء.
لا أنسى مرة كلمة لأستاذ اللغات القديمة في جامعة ليفربول ألن سافيتز، قالها لي في معرض نقاش بيننا حول الإرهاب، قال إن «العمليات الانتحارية هي منتجكم الوحيد للبشرية»، رددت عليه حينها بأن العمليات الانتحارية ليست منتجاً إسلامياً، وأن غير المسلمين سبقوهم إليها. لم يعد ردي مهماً، المهم اليوم أن الحوثيين يفجرون المساجد، ويقولون «الله أكبر»، وأن رجال «القاعدة» يذبحون المسلمين، ويقولون «الله أكبر»، وهي المشاهد التي لم يوات صديقي سافيتز الحظ ليشهدها بعد أن انتقل إلى جوار الله قبل سنوات.
رد علي أحد مؤيدي إسرائيل مرة في أحد المنتديات بقوله: «عليكم أن تضعوا الإسلام على الرف، لكي تنطلقوا مع ركب الحضارة الإنسانية، دعك من مغالطة نفسك، أنت تعرف أن الإسلام كذبة كبرى، وان محمداً لم يكن نبياً، ولكنك لا تريد التخلص من قطيع قاطعي الرقاب ومفجري المنازل في بلادك… أنتم تقتلون أنفسكم أكثر مما نقتلكم».
قلت له: «إما أن تنفي النبوة جملة، أو تثبتها جملة، أما أن تثبتها لموسى، وتنزعها عن محمد، فهنا مكمن هوى النفوس… شرحت له مطولاً أن محمداً لا يتحمل أوزار عبدالملك الحوثي، الذي قتل الآلاف باسم «جده»، وأنه لم يحمل حزاماً ناسفاً، حول بطنه، بل كان يشد على بطنه بثلاثة أحجار من الجوع.
غير أن الهجمة شرسة، والنزيف مستمر لقيم الإسلام الذي لقي من جهل أهله أكثر مما لقي من عنت الأعداء، ويساعد على ذلك غباء الكثير من الزعامات الدينية، التي تؤكد ليل نهار على أنه لا يوجد في الإسلام طبقة «رجال دين»، في حين أنها تمارس الأفعال ذاتها التي مارسها رجال الدين في الأنظمة الثيوقراطية القروسطية. لن يعود الإسلام حراً جميلاً إلا بفض التحالف الموبوء بين من يقولون إنهم دعاته، وبين المطامح السياسية، ولن يعود الإسلام بسيطاً مكتنزاً بالروح، إلا إذا كففنا عن إسدال عباءته على عوراتنا السياسية وشهواتنا للمال والسلطة. وذلك بالكف عن فتح المتاجر السياسية بيافطات إسلامية.
رفعت مؤخراً في صنعاء لوحات قماشية كتبت عليها الآية القرآنية «يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله»، وتحت الآية صورة عبدالملك الحوثي، في إشارة أراد بها مصمم اللوحة أن يجعل تفسير أو تأويل الآية الكريمة منطبقاً على عبدالملك وعصابته، وهذا افتراء على الله لا يشبهه إلا افتراء كهنة مكة بأنهم وسطاء بين الناس والله لابتزازهم مادياً وروحياً.
وقبل ذلك، كانت الآية القرآنية «إن أريد إلا الإصلاح»، تكتب لتوضع تحتها صورة لأحد مرشحي حزب الإصلاح، ليقول لنا منتج الصورة إن الآية المقدسة تشير إلى الإصلاح الحزب السياسي.
إن الدعوة إلى عدم توظيف الدين سياسياً لا تمس جوهر الدين، ولا تسيء إليه، بل تبعده عن أن يكون مطية لأغراض الطامحين سياسياً أو اقتصادياً، وتسمو به عن أن يكون مسوحاً يمارس به رهبان السياسة كل أنواع الفجور.
ليس عيباً أن نفتح مكتباً لتوفير العمالة المهنية، لنطلب ما كتب الله لنا من رزق، لكن العيب أن نرفع فوق المكتب يافطة مكتوبا عليه «إن خير من استأجرت القوي الأمين» صدق الله العظيم.