الانهيار لا يأتي دفعة واحدة؛ هو عملية تراكمية تصل في إحدى نقاطها إلى طفرة نوعية تحدث فراغاً كاملاً، وتهبط بالبلد إلى قاع أعمق من الذي كان يقف عليه.
واجتياح العاصمة والدولة مَثّل النقطة الحرجة التي نقلت فيها جماعة الحوثي حالة الإخفاق والانهيار التدريجي إلى حالة اللادولة بشكل صريح وكامل وحالة الفراغ؛ إذ أصبحت اليمن بلا رئيس وبلا حكومة منذ استقالتهما، بعد أن وجدا أنهما رئيس بلا رئاسة وحكومة بلا سلطة من أي نوع على مؤسساتها.
ومهما فعلت جماعة الحوثي فإنها لا تستطيع وحدها أن تملأ هذا الفراغ بواسطة هيمنتها المباشرة المغلفة بالتواطؤات السياسية من أحزاب اللقاء المشترك أو من حشد أنصارها تحت مسمى اللقاء الشعبي للفعاليات المقرر يوم الجمعة القادمة.
وجود اليمن مرهون بوجود الدولة، وتجنب تفكك اليمن إلى دويلات وكانتونات مشروط باستعادة الدولة، والدولة هي المؤسسة، وهي منظومة الدستور والقوانين الحاكمة على مسارها.
لقد وقعنا جميعاً في الحفرة التي أعدت لنا، وقامت جماعة الحوثي بدور القائد لدفع البلد إلى هذه الحفرة؛ حفرة اللادولة، حفرة الفراغ، حفرة الانهيار.
مجلس النواب هو نقطة الأمل الأخيرة لتماسك البلد؛ باعتباره المؤسسة الشرعية الوحيدة المنتخبة في البلد، يقولون إنه منتهي الصلاحية؛ غير أن منتهي الصلاحية يصبح كامل الصلاحية في ظل استقالة كل الرموز السيادية للبلد من الرئيس إلى الحكومة، يقولون إنه منتهي الصلاحية، مع أن الحكومة لم تأخذ تصديقاً على برنامجها من سواه، والرئيس الانتقالي لم يقسم اليمين الدستورية سوى في منصته، يقولون إنه منتقص الشرعية بانتهاء فترته وينسون أن لا مؤسسة منتخبة من كل مناطق اليمن الآن سواه.
إذا استمرت هذه المماطلة لإطالة الفراغ فلن يكون بمقدور أحد أن يمسك بزمام المبادرة ويقود البلد للخروج من نفق الفراغ المخيف هذا الذي يلقي بظلاله المخيفه فوق الجميع.
وإذا قطع الطريق على مجلس النواب يوم الجمعة القادمة وأنتج اجتماع أنصار الحوثي مولوداً مشوهاً أو غيره فسيكونوا بذلك قد أهدروا على اليمن فرصة أخرى وربما أخيرة للخروج من الفراغ ولملمة البلد باتجاه الذهاب لانتخابات تنتج سلطة شرعية يطمئن لها جميع اليمنيين وتتولى النظر في مخرجات الحوار وعمل مقاصة وطنية بينها وبين الإرادة الشعبية وتطبيق الناتج من هذه المقاصة.
لقد فتح الانقلاب على اليمن كل الاحتمالات النهائية السيئة، ومن ضمنها هذه الروائح النتنة للطائفية والكراهية العنصرية والجهوية والمناطقية التي سمعناها في مواجهة احتجاجات الشباب والطلاب في صنعاء.. والمفترض أن لا يلتفت إليها شباب اليمن وأن لا يضخموها أو يتعاملوا معها برد الفعل الأرعن الذي لا يفرق بين الكتل السكانية والجماعة الساعية للسلطة على أنقاض الدولة وكل السكان.
لقد حقق اليمن اندماجاً معقولاً في الستين عاماً الماضية من عمر الثورة اليمنية؛ تنقّل اليمنيون بين أرجاء وطنهم المختلفة، وأقاموا هنا وهناك، وذهبوا وراء العمل ولقمة العيش إلى كل مكان في جهات وطنهم الأربع وخارج الوطن في جهات الكرة الأرضية الأربع، وترهات المتفيدين والمبندقين والفرغ ليست حجة على أحد؛ فاليمن أكبر منهم.
لقد كانت صنعاء الحالة الأكثر تعبيراً عن هذا الاندماج والتلاحم؛ إذ يقطنها ما يقرب من أربعة ملايين يمني يشكلون لوحة وطنية تمثل اليمن بكل جهاته وقبائله ومناطقه ومحافظاته وتنوعه، وأي عبث بهذا الاندماج والتلاحم سيتبدد وتذروه الرياح، وستبقى صنعاء بوتقة تصهر كل اليمنيين وتعلن للعالم كله أن اليمن حيّ لا يموت.
لقد ألقت حالة الفراغ بظلالها على الجنوب مثل غيره من مناطق اليمن، ومن الصعب أن نقول للناس هناك لا تحتجوا على هذا التقويض لكل المؤسسات الشرعية، غير أننا لا نرى للانفعالات أفقاً، ولا نعتبرها حلاً ومخرجاً؛ فمواجهة العنف تكون على مرتكز الحل الجامع لكل اليمنيين وليس بالهروب إلى الجنوب أو الأقاليم؛ فالتنظيمات الإرهابية هي من سيمسك بزمام المبادرة لو اهتزت مؤسسات الدولة في الجنوب أو انقسمت وليس مكونات الحراك.
الحل هو تماسك كل مناطق اليمن؛ لكي يتم التأسيس لحالة تستعيد اليمن كله وتؤسس لحل يلبي تطلعات اليمنيين كلهم من صعدة إلى المهرة، ودون ذلك لا مخرج سوى حرب الجميع ضد الجميع، ونهاية اليمن بلداً وشعباً.