من الأرشيف

الفيدرالية والدولة الحديثة : تكامل أم تناقض [1-2]

تعرّف الفدرالية سياسياً بمجموعة من الدول أو الولايات التي تتمحور حول سلطة مركزية تدير الشؤون الدفاعيّة والدبلوماسيّة ، والنقديّة ، أما الدول أو الولايات التابعة فتهتمّ بالشؤون الاجتماعيّة والتربية والأمن, فالدولة الفيدرالية تمنح الأقاليم أو الولايات مميزات واسعة مثل أن يكون لها برلمان ودستور وحكومة ولغة خاصة بها، وهي مناسبة في بعض البلدان التي تتميز بتنوع إثني أو لغوي أو مذهبي.

وقد نجحت في بعض البلدان وفشلت في البعض الآخر ، وهو توجه عالمي لإرساء السلام والتوافق في الدول التي شهدت حروبا أهلية. أما الدولة الحديثة فهي دولة قوية ذات مؤسسات دستورية وآليات انتخابية ، ودولة القانون تعتمد على مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية.

ظلت الصومال دولة مركزية إلى عهد قريب، ولم تراودها قصة الفيدرالية إلاّ مند عشر سنوات بسب الهواجس من تكرار التجربة المريرة التي أدت إلى انهيار الصومال كدولة ، وذهب البعض إلى اعتماد الفيدرالية كنهج وسياسة لإرساء القواعد للدولة الصومالية الحديثة، ويقول المدافعون عن الفيدرالية إنها علاج لبلد مزقته الحرب الأهلية، وهو مقسم فعلا إلى أقاليم ودويلات بعيدا عن أحلام الوحدة ، وهي ليست تكريسا للانقسام بقدر ما هي وسيلة للمّ الجمع والوحدة في إطار دولة حديثة يسودها القانون؛ إلا أن بعض الوطنيين القدامى أمثال المرحوم السيد عبد الرزاق حاج حسين رئيس الوزراء الصومال عام 1964م لهم رأي آخر، ويرون أن الفيدرالية تناقض روح الوطنية وحلم الوحدة للصومال الكبير الذي لطالما كان مطلبا وطنيا، وقالوا إنها بداية لتقسيم البلد الواحد إلى دويلات، ولفرض التبعية لدول الجوار.

إنّ الأمة الصومالية أمة واحدة في الدين واللغة والتاريخ والثقافة والمذهب، وليس هناك مبرر لتقسيمها على أساس عرقي أو قبلي؛ فالذي يجمعها أكثر مما يفرقها, كما أنه لا يوجد في الصومال إثنيات تختلف عرقا أو لغة أو مذهبا، وخرجت لنا فكرة تقسيم الصومال على أساس فيدرالي من رحم مؤتمر المصالحة في منتجع امبقاتي بكينيا، وبرعاية كينية إثيوبية كان الغرض منها إفشال إعادة الصومال كدولة موحدة وقوية ، ولإحباط نجاح المصالحة الصومالية.

وبدأت الفدرالية على أساس تقسيم الصومال إلى أقاليم تتوحد بشكل ثنائي أو ثلاثي ، وتجتمع في إدارة شؤونها المحلية كالاقتصاد والأمن والتعليم، وتكون السيادة للمركز بما فيها السياسة الخارجية والدفاع إلا أن من المفارقات العجيبة أنه لم يستفت الشعب الصومالي لاختيار النظام الذي يريده، كما أنه ليس هناك برلمان منتخب من قبل الشعب سواءً كان البرلمان الاتحادي في مقديشو أو برلمانات الأقاليم كلها تم تعينها من قبل شيوخ العشائر ، و اتسمت كثير منها بالمحسوبية والفساد والمحاباة؛ فظهر البرلمان الاتحادي الذي كان أفشل برلمان عرفته الصومال على مر العصور بعدم المبالاة لمعاناة المواطن في الداخل واللاجئين في دول الجوار ، وعدم تقديم تشريعات تساعد نهضة الأمة؛ لتقوم من كبوتها ، وانشغلوا بأجندات حيّرت الشعب والسياسيين، وصارت منصة مجلس الشعب سوقا للسلع يرتفع أسعاره يوما وينخفض ببركة الموشن مثل بورصات الأسهم والسندات العالمية من حيث صعود المؤشر وهبوطه.

ولمعرفة الأسباب التي شجعت البعض على تبني الفيدرالية لابد من الرجوع قليلاً إلى بداية الدولة الصومالية وما تلاها من أحداث بشكلٍ موجز وسريع.

[b]جمهورية الصومال[/b]

عاشت القبائل الصومالية جنبا إلى جنب في سلام ووئام تام أحيانا، وبصراعات النفوذ والسيطرة أحيانا أخرى، وكانت تحدث في بعض الأحيان حروباً لا تقل ضراوة عن داحس وغبراء في أيام الجاهليّة، وكانت كل قبيلة تحمي حدودها الإقليمية ومراعيها ضد تمدد القبائل الأخرى، وغاراتهم بسواعد أبنائها ، وبفضل رجالها المخلصين.

ومع بروز فجر الحرية وبناء الدولة الصومالية ومؤسساتها توارت تدريجيا الصراعات القبلية بفضل التعليم، كما أن المنطق القبلي لا يصلح مع الدولة الحديثة، وبدأ بناء الدولة الوليدة، وسميت أول حكومة صومالية جمهورية الصومال، وكانت تتكون من ثمانية أقاليم رئيسية فقط، ستة منها في الجنوب واثنين منها في الشمال، كما أنشئت الأحزاب السياسية، كان أكبرها حزب الاستقلال الذي قاد الجمهورية، وحزب المعارضة جريد المنافس الرئيسي لحزب الاستقلال، ومن المفارقات الظريفة التي ذكرها الكاتب محمد الرميحي نقلا عن المرحوم أحمد حسن الزيات الدبلوماسي المصري الذي كان في مقديشو قال : إنه أراد أن يستكمل الشكل الحديث للدولة الجديدة، عشية استقلال الصومال؛ فطلب من الأحزاب الصومالية أن تسجل نفسها بشكل رسمي‏، فجاءته مجموعة صومالية،‏‏ وقالت: نحن حزب دجل ومرفلة، سأل الزيات (رحمه الله): وماذا يعني اسم هذا الحزب؟ قالوا إنه ممثل قبيلتين صوماليتين صغيرتين، اسمهما دجل ومرفلة.

رفض الزيات تسجيل الحزب الجديد، فالأحزاب تختلف عن القبائل‏، قال لهم ذلك‏، عاد إليه نفس الأشخاص بعد أيام من الاستمهال، وقالوا : لقد أسسنا حزبا جديدا‏، ولما سأل عن اسمه، قالوا إنه الآن يدعى الحزب الديمقراطي المستقل، سأل الزيات من جديد‏: وهل هناك حزب اسمه الحزب الديمقراطي‏، حتى تميزوا أنفسكم ب«المستقل»؟ قالوا لا، ولكن حزب دجلة ومرفلة يحتاج إلى الحروف الثلاثة (ح، د، م) ليستقيم ! رحم الله الزيات ؛ فقد كان على وعي وعلم بما ستؤول إليه الدولة إذا أسس على أساس هش وباطل، وحدث فعلا ما كان يخاف منه ، وجاء بعده من يسجل الأحزاب والمناطق حسب هوى القبائل ورغباتها .

زر الذهاب إلى الأعلى