مع انطلاق صافرة النهاية لمؤتمر الحوار الوطني، مطلع العام الجاري، علّق اليمنيون آمالهم الكبيرة على مقرراته لإخراجهم من دائرة الصراعات إلى دائرة الوفاق. ولكن، يبدو أن تسلسل الأحداث في الأشهر الماضية يظهر أن العنوان الأبرز في اليمن هو انتقال اللاعبين الأساسيين من مربع التحالفات إلى مربع الخلافات، ما ينذر بانعدام رؤية الضوء في نهاية النفق.
تجددت، الثلاثاء الماضي، المواجهات المسلحة في محافظة عمران بين جماعة الحوثي وعناصر من اللواء 110 المرابط في المحافظة. وفي حين ينكر الحوثي أي امتداد لعناصره من محافظة صعدة، التي يسيطر عليها بالكامل، إلى محافظة عمران القريبة جداً من العاصمة صنعاء، والتي سيطر على بعض مناطقها، واستولى على معقل آل الأحمر (قادة قبيلة حاشد التي ظلت تحكم اليمن عقوداً)، فإنه يعترف بأن المواجهات هي بين أتباعه من أبناء تلك المنطقة، وإنه لم يرسل عناصر مؤازرة من محافظات أخرى، إلا أن هذا لا يلغي حقيقة أنهم يحاربون تحت رايته.
في المقابل، يقول قادة ذلك اللواء العسكري إنهم يخوضون حرب تطهير للمحافظة من العناصر المسلحة التي تحاول الاستيلاء على المحافظة، والانطلاق منها مباشرة نحو العاصمة صنعاء، ولكن قول هؤلاء القادة لا يلغي، كذلك، حقيقة أنهم يدينون بالولاء للواء علي محسن الأحمر، المستشار العسكري للرئيس اليمني والقائد العسكري والحامي لثورة الشباب التي أزاحت نظام الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، في العام 2011، فهناك عداء عسكري وتاريخي بين اللواء الأحمر وجماعة الحوثي. وما يعزز فرضية أن ذلك اللواء العسكري يغرد في حربه ضد الحوثيين خارج سرب الإرادة العسكرية اليمنية، أنه لم تصدر أي مباركة من قيادة وزارة الدفاع لتلك الحرب، ناهيك عن إرسال الرئيس وفود وساطة، عقب كل تجدد للحرب بين الطرفين، وكأنها تشتعل بين فصيلين مسلحين لا علاقة لهما بالجيش، الذي يشغل فيه منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة.
إذن، نحن أمام جبهة جديدة بين فكر طائفي مسلح، يحاول أن يجد لنفسه موطئ قدم في المنطقة، وخصوصاً مع قرب إقرار نظام الأقاليم، في محاولة للسيطرة على أكبر مساحة من الأرض، وفرض الأمر الواقع، وفصيل من الجيش يحاول أن يخرج من عباءة الهيكلة العسكرية التي تمت، أخيراً، ونقلت اللواء محسن من دائرة الضوء، والرجل الأول في الجيش اليمني، إلى مستشار رئاسي لشؤون الدفاع والأمن، وكأنه يريد أن يوصل رسالة مفادها أنه ما زال موجوداً، ولا زالت بعض الأوراق بيده.
قبل أسابيع، زار وزير الدفاع اليمني، ومن بعده رئيس أركان الجيش، الولايات المتحدة الأميركية، ليعودا بعدها بقرار الحرب على القاعدة في بعض محافظات جنوب البلاد، من دون الرجوع إلى اللواء علي محسن الذي كانت لا تمر أي صفقة عسكرية، أو أي قرار حرب أو سلم في النظام السابق إلا بعد موافقته، وقد اعترف بذلك، في غير مناسبة، بأنه كان الرجل الأول في نظام علي صالح. ولكن، اليوم ها هو وزير الدفاع، وبتوجيهات مباشرة من الرئيس عبد ربه منصور هادي، وضوء أخضر من الولايات المتحدة، ودعم سخي من الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية، يقود حرباً مفتوحة ضد التنظيم، من دون أن يكون للمستشار الأحمر دوراً فيها من قريب أو بعيد. ما جعله يصمت طوال فترة الحرب التي لم تنته بعد ضد القاعدة، حتى أن مجرد تصريح بالتأييد لم يصدر عنه، وهو مَن كان في السنتين الماضيتين يسارع ببيانات التأييد لأي قرارات عسكرية أو مدنية يتخذها الرئيس هادي، إلى درجة أن خصومه السياسيين، من أنصار النظام السابق، اتهموه بأنه راعي تنظيم القاعدة، وسكوته يعبّر عن عدم رضاه عن الحرب على التنظيم، وهذا يأتي في إطار حرب كلامية بين الطرفين، والتي أصبح الشارع اليمني أخيراً لا يلتفت إليها كثيراً.
"لعل الحوثيين تلقفوا الرسالة، وقرأوها جيداً، فهم أحسّوا بأن إيران قد يأتي اليوم الذي لا يجدونها فيه في صفّهم"
في المقابل، نجد الحوثيين، وبعد مشاركتهم في مؤتمر الحوار الوطني، وموافقتهم على ما جاء في مخرجاته، ما زالوا في الحلقة المفرغة نفسها من الصراعات العسكرية التي بدأوها العام 2004 مع الجيش، ومع اللواء الأحمر نفسه، والسبب، كما يُفهم من تصاريح مسؤوليهم، أنهم حركة فكرية لا تمانع في أن تتحول إلى سياسية وتتخلى عن سلاحها، لكن، بعدما تتخلى بقية الأطراف الأخرى عن سلاحها، وهو أمر يستحيل تحقيقه في ظل وجود ملايين القطع من الأسلحة، وبمختلف أحجامها، مع المواطنين اليمنيين، ومع الجماعات المسلحة الأخرى. ويقابل ذلك تراخٍ من الحكومة، وعدم قدرة على السيطرة على أي جماعة، ولا سحب أسلحتها منها.
الطرفان يحتجبان وراء ترسانة من الأعذار المطاطية التي لا حلول لها في الأفق، وبينهما تقف شوكة الميزان التي لا تقدر الاتزان في مكانها الطبيعي، من أجل الخروج باليمن من شرنقة أزماته المتلاحقة التي لن تكون هذه أولها، ولن تصبح آخرها.
اللافت أنه في يوم اندلاع المواجهات المسلحة، زار وكيل وزارة الخارجية الإيرانية صنعاء لساعات، وحسب ما رشح من معلومات الزيارة، تركزت المباحثات على إغلاق اليمن ملف خلايا التجسس الإيرانية التي تحاكم حالياً، وكذلك ملف سفينة السلاح "جيهان 1" التي أمسكت بها قوات خفر السواحل اليمنية، في مقابل أن تكف إيران عن دعم الحوثيين، لكي تعود العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها. وما عزز هذه المعلومات تصريح مهم لوزير الخارجية اليمني، قبل زيارة الضيف الإيراني بيوم، قال فيه إن على جماعة الحوثي التخلي عن سلاحها، وتسليمه للدولة.
ولعل الحوثيين تلقفوا الرسالة، وقرأوها جيداً، فهم أحسّوا بأن إيران قد يأتي اليوم الذي لا يجدونها فيه في صفهم، لذا عليهم الإسراع في ضم رقعة جديدة من الأرض لصالحهم، انطلاقاً من قانون "فرض الأمر الواقع"، تمهيداً للتقسيم الفيدرالي المرتقب. فإلى جانب صعدة، هناك ثلاث محافظات في إقليم آزال الذي يحاول الحوثي أن يكون خالصاً له، وتحت إمرته.
نحن، إذن، أمام تغيّر واضح في خارطة التحالفات لكل طرف، لكن الثابت أنهما دخلا مربع الاختلافات، وهو ما يحتّم الاعتماد على ما تحت يد كل طرف من أسباب القوة والانتشار، مع ضرورة البحث عن تحالفات جديدة، تضمن له البقاء.