الأستاذ أحمد محمد النعمان: مسار أفكار
لطفي نعمان يكتب عن الأستاذ أحمد محمد النعمان: مسار أفكار - سيرة ذاتية
النشأة والتعليم
ولد الأستاذ أحمد محمد نعمان في السادس والعشرين من أبريل/ نيسان 1909، في منطقة التربة بمحافظة تعز، إحدى أهم المحافظات اليمنية. نشأ وسط أسرته المشائخية المعروفة بسعة الأفق وشمول الرؤية الوطنية وبطاعتها للدولة المركزية، أياً كانت هذه الدولة، عثمانية أم يمنية. وتفتح وعيه على نشاط أعمامه في مجال ترسيخ نفوذ الدولة وهيبتها في المناطق المحاذية للشطر الجنوبي المحتل، وأيضاً التنكر لما قاموا به!
تلقى دراسته الأولية في "معلامة" القرية 1916-1922، وأكمل دراسة العلوم الشرعية في مدينة زبيد 1922-1931، حيث أجيز من أساتذته وعلمائه وحاز تقدير وإعجاب أعلام المنطقة، فصار عالماً في قريته وأنشأ فيها مدرسة أهلية انتظم بها كثير من أبناء أسرته ومنطقته.
وبتأثير الأحداث المتعاقبة والأشخاص المواكبين لتجربته من أسرته وأصدقائه، ضمّن منهج التدريس لديه العلوم الحديثة، كما استزاد من الكتب والمجلات العصرية التي فتحت مداركه وغيرت نهج حياته، خاصة مقدمة كتاب "هدي الرسول - مختصر زاد المعاد في هدي خير العباد" لمحمد أبوزيد، الذي استحث فيه المسلمين على الخروج من جدل الوضوء والسواك إلى جداول العلم الحديث والابتكار.
ونظراً لنجاح مدرسته وفاعلية نشاط النادي الأدبي الذي أسسه، فقد نمت الوشايات تستنكر المستوى الذي بلغته المدرسة، وزادت في الإنذار من تحول منطقة ذبحان -بتأثير المدرسة- إلى لبنان ثانية. ما أدى إلى إغلاق المدرسة، ووضع الأستاذ النعمان تحت الإقامة الجبرية في مدينة تعز.
النشاط في مصر
شد رحاله إلى مصر عام 1937، عبر السعودية، وانضم إلى البعثة العدنية التي ترأسها بتكليف من رئيس نادي الإصلاح العربي الإسلامي أحمد محمد سعيد الأصنج، لاستكمال دراسته العلمية لينال بعد أربع سنين شهادة "العالمية" من الأزهر الشريف.
وباعتباره علماً يمنياً التقى في مصر بأعلام العرب من المفكرين والسياسيين، مثل المناضل الفلسطيني الراحل محمد علي الطاهر الذي تلقى من النعمان في وقت سابق مجموع تبرعات أفراد من الشعب اليمني للثورة الفلسطينية في الثلاثينيات، أمير البيان شكيب أرسلان وعمل النعمان سكرتيراً له في القاهرة، الشيخ سعد الله الجابري، الأمير عبد الكريم الخطابي، الزعيم مصطفى النحاس، الفضيل الورتلاني، حسن البنا، الشيخ عبد الله القصيمي، الشيخ عبد الله بالخير، والأستاذ عبد العزيز حسين.
ومن خلال منابر أبوالحسن الصحفية ("العلم"، "الشباب"، "الشورى") بدأ ينشر قضية اليمن، وينور في "ندوة الشورى" هذه الشخصيات بمعاناة الشعب اليمني ليطلوا من خلاله على واقع اليمن، كما أطل من خلالهم على تجارب شعوبهم وتطلعاتها.
وأصدر في القاهرة أول وثيقة تدين أساليب الحكم الإمامي تحت عنوان "الأنة الأولى: أبناء اليمن في مهاجرهم يشرحون أسباب الهجرة للأمير سيف الإسلام ولي العهد أحمد بن أمير المؤمنين نصره الله"، وهي أول بذور المعارضة الوطنية. وسعى إلى إصدار مجلة "اليمن الخضراء" كمجلة جامعة بين الأدب والتاريخ، غير أن السلطات المصرية يومها لم توافق على منحه ترخيص المجلة. ثم جمع مواد المجلة في كتيب من جزأين اثنين.
ولما كانت مصر مقصد العرب العلمي والحضاري، توافد إليها من أبناء الجنوب اليمني السادة: محمد علي الجفري، سالم الصافي، ومحمد البيحاني، ومن الشمال اليمني السادة: محمد محمود الزبيري، عبد الله الوزير، محمد المسمري، ويحيى زبارة. التقى معظمهم بالأستاذ النعمان وكونوا، في سبتمبر/ أيلول 1940، معاً "كتيبة الشباب اليمني"، كأول تنظيم وطني يمني يجمع أبناء الشطرين المحتل والمعتل.
العودة إلى اليمن ونشوء المعارضة وانشقاقها
إنهاء النعمان لدراسته العلمية، ونيله شهادة العالمية، ومراسلاته مع ولي العهد أحمد، الذي صار أميراً للواء تعز، أعادته إلى اليمن بعدما ودعه رفاق الكتيبة واستوصوه خيراً بنصح ولي العهد، الذي يكنُّ له الود والتقدير الكبير منذ عرفه في الزرانيق عام 1928 وظل يشجعه على النشاط التنويري والوطني في تعز قبل سفره إلى القاهرة. فعاد ليتولى مهام مدير المعارف بلواء تعز ويحيط بولي العهد ومجموعة من الأدباء العصريين، فيحتدم الشعر والنثر بمباريات أدبية أحيت ديوان ولي العهد الذي يسمي النعمان "خطيب اليمن"، وصاغ هذه التسمية شعراً "شاعر اليمن" القاضي محمد الزبيري:
نعمان أنت خطيب الشعب قد رضيت به قلوب وأسماع وأبصارُ.
أثارت عصرية الأدباء مجادلات فلسفية أغضبت ولي العهد وجعلته يهدد بتخضيب سيفه بدماء العصريين، فشرخ تلويحه بالسيف جُدُر علاقته معهم جميعاً، ومن بينهم الأستاذ النعمان، الذي طلّق وظيفته الرسمية واصطحب زميله القاضي محمد الزبيري إلى عدن، ثم تبعهما –كما سبقهما- لفيف من الأدباء والشعراء والمعلمين والمشايخ؛ هرباً من حكم الإمام يحيى وبطش ابنه أحمد، اللذين ساقا كثيراً من الأحرار إلى سجون حجة حتى غصت بهم، وكان أغلبهم من آل نعمان.
وتأسس في عدن أول تنظيم سياسي معارض، هو "حزب الأحرار اليمني" عام 1944، وبعث قادته: النعمان، الزبيري، أحمد الشامي، زيد الموشكي، مطيع دماج، محمد القوسي، وعبد الله ومحمد عبد الوهاب نعمان، رسائل النصح للإمام يحيى حميد الدين لتخفيف المظالم عن كاهل الشعب، والإفراج عن المساجين. أجاب الإمام عن بعضها ولم يبال بأكثرها.
ومع استمرار الحرب العالمية الثانية ضغط الإمام يحيى على الإدارة البريطانية لحل الحزب وإسكات قادته وإلا تحول من حياده إلى انحيازه لدول المحور. فكان الحل بعد الانشقاق بين صفوف أعضاء الحزب بسبب إمساك النعمان بالأمور المالية وعدم إفصاحه عن الممولين الرئيسيين لنشاط الأحرار خشية الوشاية والإضرار بهم. فعاد من عدن إلى الشمال من عاد، وبقي من بقي بجانب النعمان، وخاصة الشاعر الزبيري ليعملا مدرسين في مدرسة بازرعة، ويجسدا معاً رمزاً للوحدة الوطنية بين اليمنيين.
فشل انقلاب 1948 و"سحر" أحمد محمد النعمان من سجن حجة
ضُخّت حركة الأحرار عام 1946، بعد تغيير اسم منظمتها إلى "الجمعية اليمانية الكبرى"، بعناصر جديدة، أهمها على الإطلاق سيف الحق إبراهيم بن الإمام يحيى، والمناضل الجزائري الفضيل الورتلاني، وأخيراً انضمام آل الوزير إلى حركة المعارضة. وتم الاتفاق على الانقلاب على الإمام يحيى من خلال ثورة تعلن نظاماً دستورياً بعد مقتل الإمام يحيى، الأمر الذي رفضه الأستاذ نعمان وعارضه بشدة، وكان سبباً دفع الإمام أحمد –بعدما أحبط الانقلاب الدستوري وتولى الحكم في مارس/ آذار 1948- على صد تحريض بعض إخوته على إعدام النعمان، استناداً إلى قول الله سبحانه وتعالى: {تالله لن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده}.
إلا أن الأستاذ أحمد محمد النعمان ظل سجيناً مع من سجنوا إثر سقوط الثورة الدستورية (التي قامت في فبراير/ شباط 1948 وتعين في حكومتها وزيراً للزراعة)، حتى فتح باب الحوار بينه وبين الإمام أحمد بعدما أسقط الثورة وأعدم رموزها. وتركزت الحوارات ومكاتبات الأستاذ نعمان على: العفو العام (لا الخاص)، ولاية العهد للأمير محمد البدر بن الإمام أحمد حميد الدين، إصلاح النظام وتحديثه.
وأخيراً صدر العفو الإمامي عن الأستاذ النعمان وفرضت الإقامة الجبرية عليه في حجة 1950 بعدما "بُعِث من قبره"، ليُحدِث بعدها تغييراً وتأثيراً سحرياً على المجتمع "الحجِّي"؛ إذ حوّل السجن المظلم إلى مركز تنوير وتعليم لأبناء المساجين والرهائن وبعض أهالي المنطقة. ثم افتتح خارج السجن بإذن من الإمام المدرسة المتوسطة. وصار عدد من طلابه فيها فيما بعد رموزاً للثقافة والسياسة والإدارة. إلا أنها أغلقت لما بدا تأثيرها واضحاً في تفكير الطلاب.
انقلاب 1955 و"دستور الإمام" وخروج النعمان
استمرت دعوة النعمان، والأحرار عموماً، إلى ولاية العهد للأمير محمد البدر باختلاف مقاصدهم، فالذي أراده شقاً لعصا الأسرة الحميدية، ومن رأى في ذلك تكريماً ورداً لجميل عفو الإمام، ومن قدر في البدر صلاحيته لمهام الملك الدستوري أكثر من الخيارات القائمة، بل وجه النعمان رسائل إلى بقية سيوف الإسلام يطلبهم دعم البدر، إلى أن أمَرَ الإمامُ -بتأثير شكاوى إخوته- بوقف جمع البيعة لولاية العهد عام 1954.
وبلغت مطامح الحكم، ملتقية مع رغبة الإطاحة بالأسرة الحميدية، ذروتها آخر مارس/ آذار 1955، حين حاول السيف عبد الله بن يحيى حميد الدين، ومعه المقدم أحمد الثلايا، الانقلاب على الإمام أحمد في تعز. وجمع السيف عبد الله الأحرار يستشيرهم في الأمر، فكان رأي النعمان الحفاظ على سلامة الإمام أحمد والإبقاء عليه ملكاً رمزياً وتكليف السيف عبد الله برئاسة الوزراء يصرف الأعمال ليستقيم "بنيان الدولة". وكان لإغفال الحديث عن ولاية العهد أثره في نفس السيف عبد الله، فأثارها مباشرة، وأمر بسفر الأستاذ النعمان إلى الحديدة للتفاهم مع البدر وأخذ البيعة منه لعمه عبد الله.
لكن البدر أرسل (أستاذه) موفد عمه مع السيد أحمد الشامي إلى المملكة السعودية يطلبان عون الملك سعود بن عبد العزيز ومدده لفك حصار الإمام أحمد بتعز. وما أنهى الملك استقباله للبعثة اليمنية حتى فوجئ الجميع بحصار الإمام أحمد لمحاصريه وإحباطه للانقلاب كلية!
نجاح الإمام أحمد في إفشال الانقلاب هيأ فرصة جديدة للنعمان ليزيد في النصح الذي ما انقطع حتى وهو قيد السجن. وأبدى رأيه في إضفاء طابع عصري على النظام المتهالك وإصدار دستور ينظم الحكم وقدم تصوراً بمجلسي الوزراء والشورى وتسمية أعضائهما فصدمه جواب الإمام:
"إني لأفتح عيني حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحدا.
وإذا أردتم دستوراً فما لكم إلا السيف دستوراً"!
زادت هذه الإجابة النعمان يقيناً بانشقاق العقل –حد تعبيره- بينه وبين الإمام، رغم التقاء العواطف. فخاب أمله تماماً في الإمام المستقوي على ابنه الضعيف. وسافر إلى مصر ليستأنف المعارضة من هناك، وبث خلال أسبوع وصوله الأول روح الحياة في هيئة المعارضة المعلنة (الاتحاد اليمني)، وأصدر ثانية "صوت اليمن"، ووصف نشاطَه المبهر زميلُه الشاعر الزبيري في مقال ضم إلى كتيبه "نعمان.. الصانع الأول لقضية الأحرار": "لقد صنع في أسبوع ما عجزنا عنه في عام". إلا أن حكومة الرئيس جمال عبد الناصر أوقفت نشاط المعارضة؛ إثر تهديد الإمام أحمد لعبد الناصر بالانضمام إلى حلف بغداد، بل ودفع الإمام بالملك سعود إلى طلب وقف نشاط المعارضة مباشرة من عبد الناصر، الذي استجاب فوراً لهذه الضغوط.
النضال بالتعليم
لم تسلم المعارضة من انشقاق هيئتها في مصر وعدن، ولم ييأس المناضلون من محاولات الانقلاب، والاغتيال للإمام أحمد. إلا أن الأستاذ نعمان قد صرف جهده عن العمل السياسي، بعدما تبلورت لديه فكرة تجديد نشاطه القديم (التنوير والتعليم) كوسيلة من وسائل الكفاح والنضال. ولصنع إنسان يمني جديد؛ إيماناً منه بأن "ما من سبيل لبناء الأوطان إلا بتطوير الإنسان". وجمع تبرعات اليمنيين في الداخل والخارج لإنشاء "كلية بلقيس" في عدن، ليتيح فرصة تعليم أبناء الشمال "غير المواليد في عدن" داخل مدرسة يمنية لا تميز بين شمالي وبين جنوبي.
ووصل الأستاذ إلى عدن في مايو/ أيار 60 ليدشن نشاط ومبنى "كلية بلقيس"؛ غير أن السلطات البريطانية في عدن -بناء على ضغط الإمام أحمد عبر دبلوماسيين يمنيين- طلبت مغادرته في 27 يونيو/ حزيران، رغم عدم انتهاء تصريح إقامته. وعاد إلى القاهرة.
ثورة أيلول 1962 والموقف من النعمان
أتى حل "اتحاد الدول العربية" بين مصر وسورية واليمن 1961 لينقلب اتجاه مصر الرسمي من النقيض إلى النقيض؛ من مهادنة الإمام إلى مهاجمته، خاصة بعدما شن الإمام أحمد هجوماً شعرياً على نظام عبد الناصر وإعلامه.
هنا نشطت المعارضة اليمنية... ولكن... بدماء جديدة ضختها مصر إلى عروق الحركة، متجاوزة من اصطلح عليهم "الأحرار القدامى"، مثل نعمان والزبيري!
وسارت الأحداث في اليمن إلى الانقلاب العسكري والتغيير الثوري يوم 26 سبتمبر/ أيلول 1962، واستبعد النعمان، لحجج كثيرة وشكوك واتهامات متعددة، كونه ومجموعة من الأحرار في الخارج هنؤوا الإمام المنصور بالله محمد البدر بتوليه الحكم وعزوه بوفاة والده، وطالبوه بأن يجعل عهده "فاصلاً بين عهد وعهد" وينهض باليمن ليواكب العصر، ويمكن الشعب من حكم نفسه بنفسه، وأيّدوا سياسته الإصلاحية المعلنة، مثلما بايعته بيعةً شرعية مجموعة الأحرار من الضباط والعلماء والمشايخ والمستنيرين في الداخل وضمت أسماؤهم في تشكيل حكومي ملكي وأصبحوا من قادة الجمهورية الجديدة!
جرى استبعاد الظن الآثم في الأستاذ، واستدعي للمشاركة كوزير للحكم المحلي في ثاني حكومة للثورة، لكنه استبعد مجدداً بعدما نصح ومجموعة من رفاقه بالتفاهم المبكر بين الجمهورية العربية اليمنية والمملكة العربية السعودية، وطالب بالاعتماد على الذات اليمنية بدلاً من القوات المصرية التي وصلت أفواجها العسكرية لنصرة الثورة اليمنية بعد أيام من قيامها. فنفي إلى القاهرة، مندوباً دائماً في الجامعة العربية. وأرسل إلى عبد الناصر يشرح له حقيقة الوضع بصراحة مهذبة لم يتقبلها المسؤولون المصريون عن قضية اليمن!
حكومة السلام والاستقلال
ظلت نيران الحرب في اليمن مستعرة، ودعوة السلام مستمرة من الأستاذ محمد أحمد النعمان ورفاقه الزبيري والقاضي عبد الرحمن الإرياني، بعد استقالة النعمان من رئاسة مجلس الشورى، والإرياني والزبيري من نيابة رئاسة الوزراء، في كانون الأول/ ديسمبر 1964، حتى سقط الزبيري -على مرأى من زميليه: نعمان والإرياني، في برط، قرباناً للسلام، بعد محاولة اغتيال جماعية كان الاستشهاد فيها نصيب الزبيري.
كلف بعدها الأستاذ نعمان بتشكيل حكومة وطنية أبريل/ نيسان عام 1965 هي "حكومة السلام" التي شاركت في أعمال مؤتمر السلام اليمني بخمر مايو/ أيار 1965 وأعلن منها "مد يد الإخاء والسلام إلى الجيران" مع "تقدير تضحيات الجمهورية العربية المتحدة". وأوفدت الحكومة والمؤتمر إلى دول شقيقة "وفد السلام" اليمني برئاسة رئيس مؤتمر السلام عضو المجلس الجمهوري (مجلس الرئاسة) القاضي عبد الرحمن الإرياني، تطلب وساطة هذه الدول لدى المملكة السعودية للتفاهم مع الجمهوريين مباشرة خاصة بعدما وجه الاثنان (الإرياني ونعمان) معاً رسالة إلى الملك فيصل بن عبد العزيز حول نتائج المؤتمر ورغبة الشعب اليمني في السلام وتلقيا رده المؤيد لكل جهود السلام.
هذه المحاولات وهذه الحكومة أحبطتها ممارسات سياسية وعسكرية يمنية مصرية مشتركة؛ إذ لم تقبل هذه الاجتهادات السلمية المستقلة، وصنفتها نكوصاً عن الثورة، وحداً من صلاحيات التدخل الذي اصطدم باستقلال الحكومة الوطنية ومراعاتها لعناصر التوازن الإقليمي في المنطقة، وذهابها إلى طرق أبواب المساعدة من دول أخرى كان أصدقها وأسرعها نجدة دولة الكويت، بعد اعتذار مصر عبد الناصر عن عدم مساعدة حكومة ضمت بين عناصرها بعثيين، فاستقال رئيسها النعمان لكل تلك الأسباب، وزاد عليها مخالفة دستورية عززت صلاحيات القوة العسكرية.
اتفاق الطائف اليمني
طوال السنوات الثلاث، 62-65، لم يفلح نثر النعمان وشعره في إقناع عبد الناصر وباقي المسؤولين المصريين باختيار السلام والتفاهم المبكر مع السعودية، وتعديل السياسة المشتركة بين القاهرة وصنعاء وتأييد استقلال اليمن سياسياً. وقد كاشف ناصرُ الأستاذ النعمان ذات يوم، إعجاباً بأسلوبه وضيقاً منه في آن: "لن تقنعني يا نعمان لا شعراً ولا نثراً". فأنشأ النعمان شعراً:
إذا كان لا شعر يفيد ولا نثر فليس لكم إلا القبائل والبدر!
وفعلاً، وقّع القبائل من الجمهوريين المنشقين، في الطائف، ميثاق السلام اليمني برعاية الملك فيصل؛ فكان الضغط على عبد الناصر من القبائل بهذا الاتفاق، ليذهب ناصر إلى جدة نادماً على عدم تنفيذ تلك النصيحة المبكرة ويوقع "اتفاقية جدة" بينه وبين فيصل، لتكون خطوة باركها نعمان ورفاقه من الزعماء اليمنيين واعتبروها ثمرة دعوتهم إلى السلام.
اعتقال الحكومة اليمنية في القاهرة
لم تسفر الاتفاقيات الموقعة بين مصر والسعودية -في غياب أصحاب القضية اليمنية- إلا عن إخفاقات متكررة في التنفيذ، وتصعيد الرفض لهذه الإخفاقات المتمثلة في عدم استمرار توقف أي طرف عن مساعدة المتحاربين، وعدم انسحاب القوات المصرية من اليمن؛ ما زاد في معارضة الوضع؛ ولذا اقتيد في عام 1966 الأستاذ النعمان، وهو عضو بالمجلس الجمهوري، والفريق حسن العمري، وعدد كبير من أعضاء حكومة الفريق العمري، إلى السجون الحربية بمصر؛ "للتأديب والتهذيب والإصلاح"! ويطلق النعمان أنته الشهيرة: "كنا في عهد الإمام نطالب بحرية القول، وأصبحنا في سجن عبد الناصر نطالب بحرية البول"!
ويبقى زعماء اليمن حبيسي السجون الانفرادية إلى أن تفك أبواب السجون الانفرادية ويلتقي جموع المساجين بعد نكسة 5 حزيران 1967، ثم تخرجهم وساطة رئيس الحكومة السودانية محمد أحمد محجوب إثر اتفاق الخرطوم بين ناصر وفيصل برعاية محجوب الذي طلب الإفراج عن الحكومة ولقائها لغرض التشاور مع زعمائها حول آليات إقرار السلام والمصالحة الوطنية بين اليمنيين.
انقلاب 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967 واستقالة النعمان
ترتب على خروج الحكومة اليمنية من سجون القاهرة إعداد انقلاب في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967 بصنعاء برئاسة القاضي عبد الرحمن الإرياني رئيس المجلس الجمهوري وعضوية أحمد محمد نعمان ومحمد علي عثمان، لكن الأستاذ النعمان لم يقبل –حسب نص استقالته من عضوية المجلس الجمهوري بعد أسبوعين من الانقلاب- "البقاء واجهة لوضع يجر البلاد إلى حرب أهلية جديدة"، أو اعتباره متراجعاً عن اتفاق السلام الذي باركه العرب جميعاً.
وواصل من بيروت دعوته إلى المصالحة الوطنية واتصاله مع اللجنة الثلاثية السودانية العراقية المغربية وتصريحاته المؤكدة لبيان رسمي سعودي حول تدخل السوفييت في حرب اليمن بعد خروج المصريين. ما دفع سلطات صنعاء إلى إنكار ذلك، واتهامه بمعاداة الجمهورية ومحاكمته غيابياً بتهمة الخيانة، بل وذهبت إلى سحب جوازه.
ما لم ينله منك الإمام بجوره * وافاك في أيلول من أبطاله.
(محمد أحمد منصور)
فمنحه الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة جواز سفر تونسيا.
ولم يبال الأستاذ النعمان بما طاله من سهام التخوين والتجريح؛ لأن ما صح هو الصحيح، بتحقق دعوته إلى تصالح اليمنيين بعضهم مع بعض، وكسب الاعتراف السعودي بالنظام الجمهوري ومن ثم دخول مرحلة بناء الدولة اليمنية الحديثة.
الصقور والحمائم
سبقت المصالحة السياسية بين اليمنيين، ثم تبعها وعي الأستاذ النعمان بحقيقة جهل الرواد بأسس بناء الدولة اليمنية الحديثة، رغم دعوتهم إلى قيام الدولة الحديثة؛ وذلك كونهم تقليديي المنشأ والثقافة؛ فوجه رسالة كانت "حصيلة تجربة طويلة مريرة وحصيلة درس وتأمل"، حاول فيها إقناع زملائه في المجلس الجمهوري، رئيساً وأعضاءً، "لئلا تصبح اليمن من جديد مسرحاً لحروب جديدة وصراع على السلطة"، بسن "مبدأ انتقال السلطة بطريقة سلمية لا يراق على جوانبها الدم وتسليمها اختياراً للجيل الجديد" من المتعلمين "لا أشباههم"، والقادرين على الإفادة من تجارب الآخرين في بناء الدولة الحديثة، وأن يضع الآباء أنفسهم، باعتبارهم ذوي حكمة لا رجال حكم، موضع المرجع والرمز التاريخي الموقر من أبنائه المنصفين؛ فهم "أكثر فهماً لروح الشعب المنعزل عن العالم"، وعليهم "الحرص على أن يظلوا همزة الوصل التاريخية بين الشعب وبين شباب الحكم الجديد" الذين يريد منهم "إقامة جسر للتفاهم وتبادل الرأي والمشورة".
لكن دعوة "الحمائم" قوبلت بإصرار "الصقور" اليمنيين على ضرورة بقاء الآباء في مراكز القيادة؛ لمكانتهم التاريخية وتجاربهم العميقة. وتحت ضغط هؤلاء بقيت القيادة اليمنية التاريخية تحمل أعباء الحكم، وتفاجأ بحالات التمرد، وخطط التآمر ومحاولات الانقلاب عليها وإبعادها واغتيالها.
حكومة الاعتماد على النفس
أبعد النعمان من عضوية المجلس الجمهوري إلى رئاسة مجلس الوزراء، ثانية، ليصطدم بما بشر به واستبشر بولادته، وهو البرلمان حديث الولادة، الممتلئ حماساً لتجربة إسقاط الحكومات ومعارضتها؛ إذ حفل البرلمان الوليد بتيارات سياسية وقوى اجتماعية رأت وترى في أي موقع يتبوؤه النعمان ضداً لها ومحبطاً لمشاريعها المنقضّة على خزينة الدولة ومشروع الدولة من أساسه حتى أفلستها وأضعفتها، فأعلن نعمان استقالته، بعد تعويق تنفيذ برنامج حكومته التي استهدفت حل المشكلتين المالية والإدارية بالاعتماد على النفس وعدم الركون على القروض والصدقات.
محاولة استعادة مسجد قرطبة وإعادة انتخابه
إثر استقالته من رئاسة مجلس الوزراء ثم عرقلة انتخابه لعضوية المجلس الجمهوري ثانية أبقي عليه مستشاراً للمجلس الجمهوري وكلف من قبل عاهلي الجزيرة فيصل والإرياني عام 1972 بالسفر إلى إسبانيا لإقناع الجنرال فرانكو بإعادة مسجد قرطبة إلى المسلمين، فكانت أولى لبنات التعاون الإسلامي بين السعودية واليمن بمحاولة استعادة مجد المسلمين في الأندلس.
وعقب اغتيال الشيخ محمد علي عثمان أعيد انتخاب الأستاذ النعمان عضواً بالمجلس الجمهوري في نوفمبر/ تشرين الثاني 1973، وتولى بعد توزيع الاختصاصات والمهام مهام الإشراف على شؤون التعليم والثقافة والإعلام عائداً بذلك إلى حقله الأول.
الخروج من السلطة واغتيال نجله في بيروت
لما تكشفت للسلطات الأمنية في صنعاء خيوط انقلاب بعثي موال للعراق، انفجر خلاف "الصقور والحمائم" بين رئيس المجلس الجمهوري القاضي الإرياني ورئيس مجلس الشورى الشيخ عبد الله الأحمر. وتوسط الأستاذ نعمان والشيخ سنان أبولحوم لاحتواء الخلاف المفتعل حول الانقلاب البعثي لإنجاح الانقلاب العسكري 13 يونيو/ حزيران 1974، الذي تم بقيادة العقيد إبراهيم الحمدي. وغادر نعمان بعدها إلى بيروت، حيث لقي نجله العبقري محمد، وزير الخارجية السابق، رصاصة استشهاده على يد فلسطيني أجير في 28 يونيو/ حزيران، ويتقبل الأب المفجوع فاجعته الأليمة بصبر وثبات رد به على تعزية الرئيس اللبناني سليمان فرنجية باستشهاد أعز بنيه: "لا عزاء في محمد بل العزاء في لبنان الذي فقد أمنه واستقراره"؛ وأعرب له عن خشيته من عدم سلامة أحد من دائرة العنف الذي قد يطول أقرب الناس إلى الرئيس فرنجية!
عطاء حتى النهاية
بعدما أخرج الأستاذ نعمان من اليمن وغادر بيروت التي فقد فيها امتداده الإنساني الشهيد محمد نعمان، بعدما افتقد لبنان أمنه واستقراره اختار الأستاذ نعمان أرض الحرمين الشريفين مقاماً ومستقراً آمناً. ولم يأسر نعمان نفسه طويلاً في حزنه على من لم يعوَّض، بل شحذ فكره وبرى قلمه ينصح ويكتب ويقترح فمن مذكرة حول "مأساة الإنسان العربي" يدعو فيها إلى "حماية الإنسان العربي من الاغتيال بجانب حماية الأرض العربية من الاحتلال". إلى مخاطباته إلى معظم قادة الخليج العربي واليمن والسعودية لـ"توحيد الجزيرة العربية" من خلال مجالس مشتركة، تتولى التنسيق لدرء خطر العدوى اللبنانية التي تفجرت فيها الحرب الأهلية، واصطرع الآخرون على أراضيها. وتتبنى فيه الدول الأقدر دعم الدول الأفقر.
وظل أثناء مقامه في السعودية منذ عام 1974 محط تقدير رؤساء اليمن وقادة السعودية حتى بات ببقائه هناك مرجعاً في بعض مسائل علاقات البلدين خاصة ما تعجز عنه آليات التنسيق العصرية تعالجه حكمة النعمان ومكانته وأدبه. فظل يؤدي دور الجندي المجهول وإن بز نشاطه نشاط الدبلوماسيين الرسميين. وعلى الرغم من ريادته وموقعه الأول في مختلف الأحداث والتكوينات منذ بداية نشاطه الوطني، إلا أنه لم يضع نفسه بديلاً لأحد رغم إمكانياته وصلاته الوطيدة مع قادة البلدين الميسرة له بلوغ كل ما قد يتمناه.
وبإبقائه خيوط الصلة بينه وبين كل أولئك القادة من خلال هذه الأفكار: التنوير، الإصلاح، التطوير، الشورى، العدل، السلام، الاستقلال، قيام الدولة الحديثة، التعليم، الوحدة والتعاون والإخاء والعفو، التي قدمها بأسلوب أدبي راق وبليغ يستعين بالقرآن والحديث ويستشهد بالشعر والنثر، وحلاوة الحديث وطرافة التعليق في مختلف المنابر والمواقف... عاش محظياً –كما كان يقول- ب"جيوش الدساسين والمشككين" داخل اليمن وخارجها، ممن ضاقوا به تاريخاً وشخصاً وفكراً، واتهموه بالطائفية حين فضح ممارساتها ودعا إلى الوحدة الوطنية، ووصموه بخيانة الثورة عندما أراد إنضاجها وصون سلامتها بالدعوة إلى السلام والمصالحة الوطنية، وصنفوه عميلاً لما دعا إلى خلاص اليمن من التبعية وطالب بالاستقلال، وعدوه رجعياً لما حاول المواءمة بين موروث التاريخ واحتياجات العصر وتقدم باستشرافه المستقبل، واعتبروه غير ذي صلة بالقضية عند اتجاهه إلى مكافحة الأمية باعتبارها الثورة الحقيقية، وحسبوه انفصالياً فيما الوحدة دينه وإيمانه... فنال سلسلة ألقاب "مباركة" كانت استحقاقاً لمن خلعوها عليه!
أنهكته سنون النضال والنصح والحكمة حتى استلقى على سرير المرض في جنيف، تمطره محبة المحبين وتكريم الأوفياء له ولتاريخه. وقد كرمه الرئيس اليمني علي عبد الله صالح في عام 1995، ومنحه وسام الجمهورية، أعلى وسام في الدولة؛ تكريماً لنضاله وعطائه الوطني ودوره في صنع القضية الوطنية.
وافا الأستاذ محمد أحمد النعمان الأجل في 27 سبتمبر 1996. ووري الثرى في 2 أكتوبر بمقبرة الشهداء في صنعاء.
.....................
* نص الورقة المقدمة إلى ندوة "مئوية ميلاد الأستاذ والمفكر أحمد محمد نعمان ، أحد رواد النهضة والتحديث في اليمن"، التي انعقدت بجامعة عدن 9-11 نوفمبر 2009
عناوين ذات صلة: