آراء

تناحرات الداخل السلالي.. صراع الأحفاد

بلال الطيب يكتب: تناحرات الداخل السلالي.. صراع الأحفاد


شَهِدت الإمامة الزّيدِيّة على يد أحفاد الهادي يحيى بن الحسين ملامح انهيارها الأول، تنافس الأخوة الأعداء على الحكم، وافترقوا إلى أبناء حرائر وجواري، تصارعوا، ثم تقاتلوا، فكان الحال أقرب لحرب العصابات، وهم زعماؤها المسنُودون من السماء، والمدعُومون بهذه القبيلة أو تلك!
بعد وفاة الناصر أحمد بن الهادي يحيى اختار العلويون ولده الأكبر الحسن إمامًا، تلقب الأخير ب (المُنتجب)، ليُعارضه في أواخر ذات العام أخواه القاسم 21 ذو الحجة 322ه / 1 ديسمبر 934م، الذي تلقب ب (المُخْتَار)، ويحيى الذي تلقب ب (المنصور)، اعتزل الأخير الأمر، فيما بقي التنافس بين الأول والثاني.
في العام التالي، حاول الأمير حسان بن يعفر دخول صعدة عنوة، مَسنُودًا بقبائل بني الحارث في نجران، وغيرهم، إلا أن أهالي ذات المدينة تصدوا له، وأجبروه على العودة إلى نجران خائبًا، توجه بعد ذلك إلى برط، وفيها استقر لسنوات، وظل مُتربصًا ومُشاركًا فاعلًا في حروب الأخوة الأعداء التالي ذكرها.
كان المُخْتَار القاسم بن الناصر أحمد قد توجه قبل ذلك إلى همدان مُغاضبًا، خاصة بعد أن رأى ميلان بني عمومته لصف أخيه المنتجب الحسن، ابن الجارية، فقرر - وهو ابن العلوية الحُرة!! - رفع راية العصيان، استقر في ريدة مدة، وهناك حارب مظفر بن عليان بن الدعام، وحالف شيخ حاشد أحمد بن الضحاك، انتصر على الأول، واختلف - بعد عامٍ من الوئام - مع الأخير.
مال ابن الضحاك بعد ذلك إلى صف المُنتجب الحسن، ومعه عدد من مشايخ همدان، حاول استمالة ابن عليان إلى صفه، إلا أنَّ المُخْتَار القاسم سبقه إلى ذلك، لتدُور في منتصف العام 325ه مواجهة شرسة بينه وبين المُخْتَار، هُزم فيها الأخير، وخسر عددًا كَبيرًا من الأنصار.
بعد ثلاثة أعوام من القطيعة، تصالح الأخوة الأعداء ربيع الآخر 326ه / فبراير 938م، ودخل المُخْتَار القاسم صعدة برفقة أخيه المُنتجب الحسن، وما هي إلا أيام قلائل حتى نَكث الأخير الصلح، واستعر القتال، أجاد المُخْتَار إدارة الأمور، كسب سُكان المدينة إلى صفه، فكسب المعركة 6 جمادي الأولى 326ه / 10 مارس 938م.
قبيلتا سعد والربيعة كانتا طرفًا بارزًا في ذلك الصراع، وإذا كانت الأخيرة قد والت العباسيين من قبل، وناصبت الهادي يحيى العداء، إلا أنها هذه المرة دخلت معمعة صراع أحفاده الأعداء، وناصرت الطرف الأضعف المُنتجب الحسن، ليس حبًا فيه؛ ولكن نكاية في أعدائها السعديين، المناصرين للمُخْتَار القاسم.
توجه المُنتجب الحسن بعد هزيمته إلى خيوان، ومن هناك كاتب أحمد بن الضحاك، واتفق معه على اجتياح صعدة بمساعدة الأمير حسان بن يعفر، وأنصاره الأكيليين من الربيعة، وحين رأوا استماتة المُخْتَار القاسم بالدفاع عن المدينة، لجأوا إلى الحيلة، أوهموه بالمصالحة، وطلبوا منه الخروج منها للتهدئة، لم تهدأ الفتنة؛ بل سقطت صعدة 22 رمضان 326ه / 22 يوليو 938م، وعاث فيها المُنتصرون نهبًا وخرابًا.
بعد هزيمته استنجد المُخْتَار القاسم بقبائل نجران، ووائلة، ودهمة، وبني سليمان، واجتمع إليه منهم عسكرٌ عظيم، سار بهم إلى مدينة صعدة، ودارت بينه وبين القبائل المناصرة للمُنتجب الحسن معارك كثيرة، أعاد السيطرة على المدينة المنكوبة؛ إلا أنَّ أمرها لم يستقر له ولا لغيره.
عاد شيخ حاشد أحمد بن الضحاك بعد هزيمته إلى ريدة، وعاد الأكيليون إلى علاف، ومن الأخيرة ناشد الهيصم بن عباد الأكيلي الجميع، اجتمعوا مرة أخرى، أعادوا الكرة على مدينة صعدة، دخلوها للمرة الثانية، واستباحوها لثلاثة أيام، فيما غادرها المُخْتَار القاسم بن الناصر أحمد إلى العشة، ولم يعد إليها إلا وهي أطلال وخرائب، عاف المقام بها، وغادرها إلى أكثر من جهة.
لم تتوقف الحرب، ولم يهدأ الصراع، وحين رأت القبائل المساندة للإمامين عدم انتصار أي منهما، اجتمع مشايخ الربيعة، وبنو سعد، ومعهم شيخ حاشد ابن الضحاك، واتفقوا منتصف ربيع الآخر 327ه / 9 فبراير 939م على عزل الأخوين، وعلى أن يجعلوا بينهم هدنةً لعامين.
لم يُعزل الأخوان، ولم تستمر الهدنة، دخل أحمد بن الضحاك صعدة دون قتال، استبد بأمرها، وأمر بهدم الحصن الذي بناه الناصر أحمد، وزاد في المكوس والضرائب على من تبقى فيها من التجار، غادرها الأخيرون مُكرهين، وتركوها «أقفر من جوف حمار!»، حد توصيف أحد المُؤرخين.
علم بنو سعد بذلك، راسلوا أحمد بن الضحاك مُعترضين، ونهضوا مع المُخْتَار القاسم لحربه، ومعهم قبائل نجران، وغيرهم، توجهوا إلى صعدة، دخلوها بعد أنْ غادرها شيخ حاشد 15 جمادي الآخر 327ه / 8 إبريل 939م، ومنها توجهوا إلى غيل جلاجل غرب ذات المدينة، عسكروا هناك، وكثفوا من استعداداتهم لمعركةٍ حاسمة.
التقى المُنتجب الحسن بابن الضحاك وبأنصاره الأكيليين، قادهم لغيل جلاجل، وهناك كانت هزيمته مُنكرة، عاد أدراجه بلا طائل، وفي علاف كانت وفاته 11 ذو القعدة 32
7ه / 29 أغسطس 939م، وفيها دفن، ليخلفه أخوه المنصور يحيى، الذي جدد من ذات المنطقة دعوته، والراجح أنهما شقيقان، بدليل أنَّ كليهما - كما أشار الزحيف - من أبناء جواري الناصر أحمد.
دارت بين المنصور يحيى وبين أخيه المُخْتَار القاسم حروب كثيرة، كانت الغلبة فيها للأخير، ليقوم بعد ذلك بتنظيم أمور دولته، وتعيين العمال على ما تحت يديه من مناطق، وبعد سنوات من الاستقرار النسبي توجه صوب مدينة ريدة 344ه / 957م، وجعل عليها أبا القاسم بن يحيى بن خلف.
سمع شيخ حاشد أحمد بن الضحاك بذلك، فتوجه من فوره إلى المُخْتَار القاسم، وقيل أنَّه استمد منه ولاية صنعاء القادم لتوه منها، وهي رواية مشكوك في صحتها، خاصة أنَّها - أي المدينة - كانت حينها خاضعة لحكمه، بدليل قول الحسن الهمداني عنه: «ودخل صعدة ثلاث مرات فأخربها، ودخل صنعاء كرتين فأحسن فيهما»، وقد كان القائل من أبرز أنصاره، وشهد معه 106 موقعة.
جميع من أرَّخ لتلك الحقبة أشاروا إلى أن ابن الضحاك قبض على المُخْتَار القاسم غدرًا، وأنَّه زج به في سجن حصن تُلقُم بلا جريرة، والراجح أنَّه غضب من مقدمه إلى ريدة، وأنَّ الصراع بينهما لم يتوقف أبدًا، والمتفق عليه أنَّه سجنه لثمانية أشهر، ثم قام بقتله 1 شوال 345ه / 5 يناير 957م.
أعلن حينها محمد بن المُخْتَار القاسم نفسه إمامًا، وتلقب ب (المنتصر)، وكانت له وقائع كثيرة مع الهمدانيين؛ ثأرًا لأبيه، ليناصره في حروبه تلك ابن قاتل أبيه قيس بن أحمد بن الضحاك، كان الأخير من كبار المُتعصبين للمذهب الهادوي، أرضعه إياه الإمام الصريع قبل مقتله، وفيه قال الزحيف: «ويقال أنَّ أكثر الأسباب في ظهور مذهب الهادي في اليمن قيس هذا؛ لأنَّه قوى مذهب شيعة الهادي بتعصبه لهم».
وقف قيس بن الضحاك في صف الإمام الجديد، وجمع له الجنود من نجد، ونجران، والسَّراة، حارب بهم بني قومه في خيوان، وانتصر عليهم، ومَكَّن المنتصر محمد من حكمهم، وإذلالهم؛ بل أنَّه ولكسب رضا سيده قام بقتل والده الشيخ المسن! وقيل: أنَّه رضي بذلك، وإن لم يفعل.
بعد انتصاره قال المنتصر محمد قصيدة طويلة تباهى فيها بتنكيله بالهمدانيين، نقتطف منها:
رأينا قتلهم إذ ذاك أحرى
بنا من أن نُذَلَّ وأن نُضاما
يدين الناسُ كلهم جميعًا
لمرضعنا وما بلغ الفطاما
ولولا نحن ما خروا سجودًا
ولا امتثلوا إلى نفلٍ قياما
في تلك الأثناء، كان وما يزال المنصور يحيى مُتمسكًا بالإمامة، مُستقرًا في صعدة، مَسنُودًا ببعض قبائلها، وذكر صاحب (مطلع البدور) أنَّه بعث بأحد أقاربه إلى العراق، فترة ما كان أبو عبدالله محمد بن الداعي مُقيمًا فيها، وقال له: «اختبر حال أبي عبدالله بن الداعي، فإن رأيته أفضل مني، وأولى بالإمامة، فاكتب إليَّ بذلك لأبايع له، وأدعوا إليه، وأطيعه»، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن الإمامة الزّيدِيّة في اليمن عاشت خلال تلك الفترة أسوأ انكماشاتها.
أمام تلك الانتكاسة السياسية الصادمة، تصدَّر المشهد عدد من الدعاة الهادويين، عملوا على إعادة إحياء مذهبهم، ونشره سلمًا في المناطق التي سبق أن عجز الأئمة عن تثبيته فيها بحد السيف، كان أحمد بن موسى الطبري أشهرهم، اتبع أسلوب أستاذه المرتضى محمد، مُتخذًا من الزهد والورع وسيلة لكسب الأتباع، تصدر للتدريس في إحدى مساجد صنعاء، حمل فيما بعد اسمه، وتنقل ما بين صنعاء وعمران، وحظي بدعم آل الضحاك حكام تلك المناطق آنذاك.
سياسيًا، وفي الوقت الذي انقطعت فيه أخبار المنتصر محمد، حيث لم يُشر المُؤرخون إلى نهايته، وهل مات ميتة طبيعية؟ أم قُتل في حروبه الثأرية مع الهمدانيين؟ ظل ذكر عمه المنصور يحيى - رغم ضعفه - ساريًا، استقر الأخير في مدينة صعدة، وفيها مات محرم 366ه / سبتمبر 976م، ودفن جوار أبيه وجده.
لم يُعلن حينها أحد من أحفاد الهادي يحيى نفسه إمامًا، لعدم اكتمال الشروط التي وضعها الجد المؤسس، ليكسر يوسف بن المنصور يحيى بعد عامين حاجز الصمت والرهبة، دعا من ريدة لنفسه 368ه / 978م، ومن ذات المدينة استخرج رفاة عمه المُخْتَار القاسم، ونقلها إلى صعدة.
تلقب الإمام الجديد ب (الداعي)؛ كونه لم يستوفِ شروط الإمامة، كانت له جولات كثيرة مع قيس بن الضحاك الهمداني، والمنصور بن أبي الفتوح الخولاني، يحاربهما مرة، ويصالحهما مرة أخرى، ليتحالف بعد ذلك مع الثاني ضد الأول، دخلا صنعاء أكثر من مرة، وسبيا بعض نسائها، وعاثا فيها نهبًا وخرابًا.
ظل وضع صنعاء مُتذبذبًا؛ بل أنَّها لم تستقر بعد ذلك على حال، ولم تُسلم أمرها لا للداعي يوسف، ولا لابن الضحاك، ولا لابن أبي الفتوح، ولا لبقية القبائل المُتصارعة. أنصار الزّيدِيّة - هم الآخرون - اعترضوا على داعيهم الضعيف، ولم يعترفوا بإمامته، استدعوا القاسم بن علي العياني من عسير، ونصبوه إمامًا، لتبدأ بوصول الأخير مَرحلة جديدة من الصراع، وبعناوين مُختلفة أكثر إثارة ودموية.
من كتاب (المتاهة.. الحلقات المفقودة للإمامة الزيدية في اليمن)

 

عناوين ذات صلة:

زر الذهاب إلى الأعلى