قصة طويلة من التناقضات عاشها الفتى الحضرمي الذي نشأ ثائرا قوميا منذ نعومة أظافره.. كان اندفاعه الثوري يشبه الكثير من أبناء جيله المتأثرين بشعارات القومية والحرية والعدالة الاجتماعية غير أنه تفوق عليهم بشجاعته وإصراره فهي الخصال التي ساهمت في تدرجه السريع في سلالم النضال البكر الذي كان يسابق أيام عمره التي بدأت في العام 1939 م في إحدى قرى حضرموت أقصى جنوب شرق اليمن.
قاد علي سالم البيض حركة الاحتجاجات التي تحولت إلى مقاومة مسلحة في أوج صعود المد القومي حيث تشرب مبادئ القومية العربية وانضم إلى الجبهة القومية التي كانت النواة التي انشطرت لاحقا إلى عدة تيارات يسارية من أبرزها الحزب الاشتراكي اليمني الذي أمسك بزمام السلطة في جنوب اليمن في وقت لاحق.
الكفاح المسلح
بدا البيض متأثرا كغيره من القوميين العرب بطبيعة الكفاح المسلح التي كانت تسير بالتوازي مع تشرب المبادئ الفكرية والسياسية.. ومنذ بداية مشواره السياسي والعسكري الذي عززه بدورة عسكرية في مصر كان الانفعال والحدة في اتخاذ المواقف أبرز الصفات التي التصقت بالفتى الحالم الذي لم يكن شكله الوديع ولا طبيعته الهادئة توحيان بلحظة انفجاره دون سابق إنذار.لم يمض البيض طويلا في الجبهة القومية التي تركها مغاضبا بسبب محاولات سياسية قادتها القاهرة لدمجها مع جبهة التحرير التي كانت أكثر ميلا للتيار الناصري من الجبهة القومية ذات التوجه اليساري.
أسس البيض بعد ذلك حركته السياسية والعسكرية الخاصة به حيث أنشأ الجبهة الشعبية لتحرير حضرموت بعد أن كان القائد العسكري لحضرموت وما جاورها في الجبهة القومية.. غير أنه سرعان ما عاد لها بعد أن فشلت جهود توحيدها مع جبهة التحرير. اتسعت مغامرات البيض اليسارية وعمل على توسيع رقعة نشاطه الثوري لاحقا.. ليسهم في فتح جبهة يسارية جديدة في منطقة ظفار العمانية المحاذية للمهرة وحضرموت من شرق اليمن وساهم في تكوين جبهة تحرير ظفار التي خاضت حروبا عديدة مع السلطات العمانية لاحقا.
وبسبب نشاطه وجهوده الحربية تحول البيض من قائد محلي إلى قائد بارز في الجبهة القومية بل والمسئول عن أنشطتها العسكرية الأمر الذي جعله فيما بعد أول وزير للدفاع بعد خروج بريطانيا من اليمن في العام 1967 م.
خفت نشاط البيض الثوري والعسكري تدريجيا ليتجه نحو النشاط الفكري اليساري والاشتراكي الذي جعله يتصعد في قيادة الحزب الاشتراكي اليمني الذي ورث الجبهة القومية بعد أن أصبحت أكثر يساريه وهو الأمر الذي سبقه صراع دموي بين أجنحة الجبهة وكان البيض دائما يقف في صف الفريق الذي يخرج منتصراً في كل مرة .
اليساري القادم من الصفوف الخلفية
كان الحظ يقف دائما إلى صف البيض في كل مراحل الصراع التي خاضتها الأجنحة العسكرية في جنوب اليمن غير أن حالة النزق والتمرد التي لازمته طوال حياته تسببت في أحيان كثيرة بإقصائه من المشهد السياسي وكانت المرة الأولى التي يتم فيها إقصاء البيض وتجريده من كل مناصبه الحزبية والسياسية هي في زمن تولي القيادي اليساري البارز عبدالفتاح اسماعيل الأمانة العامة للحزب الاشتراكي اليمني وقد كان أرفع المناصب على الإطلاق في جنوب اليمن.
تختلف المبررات التي ترد في سبب اتخاذ مثل هذا الموقف من اليساري المخلص والمناضل القديم في صفوف الحركة القومية غير أن الكثير من المؤرخين يقولون إن مخالفة البيض لأحد القوانين الصارمة في جنوب اليمن في ظل الحزب الاشتراكي كانت السبب الظاهري على الأقل في إقصائه حيث أقدم البيض على التزوج من امرأتين في نفس الوقت وهو الأمر الذي كان يعد من المحرمات في قوانين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
لم تمض فترة طويلة قبل أن يعود البيض مجددا لواجهة العمل السياسي وكانت فترة الثمانينات في ذلك الوقت تشهد بوادر صراع قادم ومدمر بين أجنحة الحزب الذي انقسمت قياداته إلى فريقين وكانت الخلافات الفكرية عنوان هذا الصراع الذي حمل في جوهره أبعادا مناطقية وقبلية في الحزب الذي كان يتبنى الفكر الأممي في ذلك الوقت.
اصطف علي سالم البيض مع الجناح الذي يتزعمه عبدالفتاح اسماعيل وهو الفريق الرافض لأي إصلاح سياسي والمتشبث بالنهج الثوري الاشتراكي الذي تمليه حرفيا الدول الشيوعية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي فيما كان على رأس الطرف الآخر علي ناصر محمد الذي كان يميل إلى القيام بتنفيذ إصلاح في بنية الدولة ومراجعة فكرية وسياسية تفضي إلى حلحلة الأوضاع السياسية والاقتصادية التي كانت في غاية السوء في بلد شيوعي تحيط به من كل الجهات بلدان رأسمالية.
بلغ الصراع ذروته مع مطلع العام 1986 م وشعر الرئيس الجنوبي حينها علي ناصر محمد أنه على وشك أن ينتهي إلى نفس مصير رؤساء الجنوب السابقين وخصوصا قحطان الشعبي وسالم ربيع علي الذين كانوا ضحية مؤامرات داخلية.. فدعا في صبيحة الثالث عشر من يناير من العام 1986 م إلى اجتماع للمكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني الذي كان يضم كل خصومه السياسيين تقريبا ومنهم علي سالم البيض.
قبيل انتهاء الاجتماع الصاخب الذي عزز من مخاوف علي ناصر محمد استأذن لبرهة ليقوم أحد مرافقيه بتصفية كل أعضاء المكتب السياسي رميا بالرصاص وتقول الروايات لاحقا أن البيض استحضر خبرته العسكرية وربما خدمه الحظ أيضا فألقى بنفسه بين الجثث وأصطنع الموت بينما كان دم رفاقه يغطيه.
زعيم بفضل الفراغ
تلت عمليه المكتب السياسي حرب شوارع في مدينة عدن بين معسكرات الجيش التي انقسمت ولاءاتها مناطقيا وانتهت الحرب بمقتل عشرات الآلاف وفرار الرئيس علي ناصر محمد وأنصاره إلى شمال اليمن وتحول علي سالم البيض إلى الرجل الأول في الجنوب المحطم عسكريا واقتصاديا واجتماعيا.
وحدة فورية
البعض يقول إن تاريخ البيض القومي ثم الأممي كان السبب الحقيقي في اندفاعه نحو وحدة اندماجية كاملة مع الشطر الشمالي الذي يرأسه علي عبدالله صالح وبعد أن كانت الوحدة حلما شعبيا في الشطرين ومادة سياسية دسمة لدى قادة اليمن شماله وجنوبه رفض البيض في لقاءات قصيرة ومتتالية مع الرئيس صالح فكرة الوحدة التدريجية أو الكنفدرالية حيث غلب عليه اندفاعه السياسي وحميميته التي تمخضت عن إعلان مفاجئ للوحدة بين شطري اليمن في الثاني والعشرين من مايو من العام 1990م.
غادرت معظم الكوادر السياسية في جنوب اليمن إلى عاصمة الوحدة صنعاء ليكتشفوا بالتدريج أنهم سلموا أعناقهم لنظام قبلي وديني رأسمالي على النقيض من الدولة الاشتراكية التي تربوا في كنفها.
لم يتقبل البيض ومعه كوادر الحزب الاشتراكي طويلا هذا الوضع وبدأت دائرة الصراع التي بلغت ذروتها في العام 1993 تكبر حين تصاعدت موجات اغتيال عارمة طالت قيادات وكوادر الجنوب الذين كانت بعض القوى الدينية المتطرفة في الشمال لازالت تنظر إليهم على أنهم شيوعيون ملاحدة.
وبالتزامن مع حالة الاستهداف تصاعدت موجة النقد واللوم الموجهة لعلي سالم البيض الذي اعتبره بعض قيادات حزبه أنه اتخذ قرار الوحدة في الشمال بشكل فردي مدفوعا بحالة العاطفة والحماسة التي عرفت عنه ولذلك لم يضع الضمانات والخطوات التي كانت كفيلة بأن لا يتم ابتلاع الجنوبيين في محيط الشمال الذي يفوقهم عددا.
تصاعدت الأزمة بين صالح والبيض وعاد البيض إلى عدن يصدر البيانات ويلقي الكلمات التي يهاجم فيها بشدة علي عبدالله صالح الذي أصبح هو نائبا له في دولة الوحدة.. في الوقت الذي اعتبرت فيه قيادات الشمال أن ما يقوم به هو محاولة للعودة إلى ما قبل صبيحة 22 مايو 1990 م؟
وقد كانت وثيقة العهد والاتفاق التي رعاها الملك عبدالله بن الحسين في عمان بالأردن في 20 فبراير 1994 م هي آخر محاولة لمحاصرة نذر الحرب التي كانت تتسع.. وتم إنعاش الصلح بين البيض وصالح مرة أخيرة في اجتماع مغلق بصلالة بسلطنة عمان في 3 أبريل من ذات العام .
عاد البيض إلى عدن بعد التوقيع على وثيقة العهد والاتفاق وعاد صالح إلى صنعاء وانفجرت حرب المعسكرات الجنوبية والشمالية وأصبحت الحرب شاملة بين الشمال والجنوب مع حلول السابع والعشرين من أبريل من 1994 م ليعلن البيض بشكل مفاجئ انفصال الجنوب وعودة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في العشرين من مايو 1994 في الذكرى الثالثة لقيام الوحدة.
انتصر صالح في الحرب ودخلت قواته عدن والمكلا في السابع من يوليو 1994 م.
فر البيض وعد من أنصاره إلى سلطنه عمان عن طريق البر ودخل عن طريق منطقة ظفار التي كان ذات يوم يقود الحرب من خلالها ضد سلطنة عمان.. فيما أصدرت محكمة يمنية في العام 1997 الحكم عليه بالإعدام ضمن ما سمي بقائمة الستة عشر التي اشتملت على 16 من قيادات الحزب الاشتراكي قبل أن يصدر قرار من الرئيس علي عبدالله صالح بالعفو عن القائمة في ذكرى الوحدة اليمنية في 21 مايو 2003 م.
منذ دخوله إلى سلطنة عمان انقطعت أخبار البيض الذي آثر الوحدة والابتعاد عن الأضواء وعاش في قصره المنيف الذي خصصه له السلطان قابوس في العاصمة مسقط وحصل على الجنسية العمانية بعد موافقته على اعتزال العمل السياسي.
وكان غياب البيض يشكل في اليمن علامة استفهام كبيرة قبل أن يخترق جدار الصمت ويظهر في أول مقابلة تلفزيونية له في العام 1995 أجراها في جنيف في الذكرى الأولى لحرب الانفصال.
وفي 21 مايو/ أيار 2009 خرج إلى العلن لأول مرة منذ 15 عاما ودعا في مؤتمر صحفي في مدينة ليستبو النمساوية إلى انفصال جنوب اليمن.
انفتحت شهية علي سالم البيض السياسية مجددا وغادر سلطنة عمان بشكل نهائي وسحبت منه الجنسية العمانية ليبدأ مشوارا جديدا من مغامراته السياسية ولكنها هذه المرة على النقيض من مشواره السياسي فيما قبل خروجه من اليمن حيث عاش البيض في ترف فائق يناقض مبادئه الماركسية حتى تحول الحفل الأسطوري لزواج ابنته من فنان لبناني إلى قصة يتحدث عنها اليمنيون كما استدعى في المرحلة الجديدة من مشواره السياسي أصوله الهاشمية وهو أمر يناقض كذلك فكره اليساري الشيوعي.. وقاد البيض خلال هذا الفصل الجديد من حياته والذي هو على الأرجح الأخير نظرا لتقدمه في السن واقترابه من الثمانين حيث تزعم دعوات الانفصال من اليمن وفقا لمبدأ عدم يمنية الجنوب الذي أسماه لاحقا الجنوب العربي وهو الموقف الذي ينهي كلية تاريخه القومي والنضالي في سبيل توحيد اليمن وحتى العالم.
موطئ قدم في اليمن لإقلاق السعودية
في هذه الفترة كان البيض يبحث عن أي حليف إقليمي وقد استضافته قطر في أوج خلافاتها مع الرئيس علي عبدالله صالح الذي قاطع قمة الدوحة في نهاية العام 2008 م. ولم يفلح البيض كذلك في كسب ود السعودية التي لا ترى من مصلحتها أن تنشأ دويلات جديدة غير مستقرة في خاصرتها الجنوبية ليغادر في نهاية المطاف إلى بيروت حيث بدأ في نسج علاقاته مع حزب الله وإيران انطلاقا من أصوله الهاشمية وكونه حليفا مناسبا وبالفعل حصل البيض على الدعم الإيراني الذي كان يبحث عنه والذي كان في ظاهرة دعما لقضية الجنوب العادلة ولكنه كان في باطنه محاولة لإيجاد موطئ قدم في اليمن وإقلاقاً للمملكة العربية السعودية.
أطلق البيض قناته "عدن لايف" من مبنى ملحق في تلفزيون المنار وبدعم فني وتقني من حزب الله وأخذ في تحريض الشارع الجنوبي على الانفصال بل واستخدام الكفاح المسلح في تحرير الجنوب مما باتت قناته تدعوه "قوات الاحتلال الشمالية".
استغل البيض الوضع اليمني الهش سياسيا وأمنيا واقتصاديا بعد الإطاحة بالرئيس علي عبدالله صالح عدوه اللدود وعمل عبر موالين له في جنوب اليمن على إنهاء أي وجود للدولة تمهيدا للاستقلال والتكفير عما يعتبره أكبر القرارات الخاطئة في حياته السياسية معتمدا في ذلك على تحالف إقليمي وحيد مع إيران وحزب الله وتحالف محلي وحيد كذلك مع الحوثيين في اليمن الذين يؤيدون انفصال الجنوب.
في آخر مقابلته له وفي شهادة نادرة وصف الرئيس السابق علي عبدالله صالح عدوه القديم علي سالم البيض بأنه "مقدام" ولكنه في نفس اللحظة "مزاجي وانفعالي".