لم تكن اليمن قبل دورة الخليج ، وبعدها كما هي اليمن أثناء تلك الدورة، فقد أجمع المراقبون على نجاح خليجي 20 بما يفوق قدرات اليمن وظروفها الأمنية والسياسية حيث كانت ولا تزال تعيش أزمة ثلاثة قلاقل دفعة واحدة تمثلت فيما يسمى بالحراك الجنوبي والدعوات الانفصالية،
وأزمة الحوثيين في صعدة ، وتنامي حضور عناصر القاعدة ، يضاف إلى ذلك مؤخرا الأزمة السياسية المتصلة بتعديل الدستور .
كانت الرهانات قبل الدورة الرياضية تقع تحت عنوان واحد : هل تستطيع اليمن أن تتجاوز ظروفها لتنظم دورة ناجحة ولو بالحد الأدنى ؟ ، لكن الإجابة جاءت بطريقة مثيرة حينما انحاز الجمهور اليمني الذي يمثل قطعا الأغلبية الصامتة للدورة ليحضر كافة مبارياتها وبكثافة غير مسبوقة رغم الخروج المبكر للمنتخب اليمني ، ليس هذا فحسب ، وإنما ليثري الدورة بسابقة ليس لها نظير في ملاعب الرياضة العربية ، وهو أن تتفرغ تلك الجماهير الحاشدة لتشجيع كافة المنتخبات دون تفريق وكأنما تشجع منتخب بلادها ، طبعا هنالك من قرأ الأمر على أن تسخير السلطات اليمنية لأكثر من ثلاثين ألف عنصر أمني هو من ساهم في توفير هذا المناخ المستتب، وهؤلاء لم يتنبهوا إلى أن هذه العناصر الأمنية كانت تتواجد فقط في محافظتي عدن وأبين حيث تجري المسابقة .. في حين شهدت اليمن بكامل مساحتها خلال تلك الدورة مظلة أمنية لم تتوفر لها لا قبلها ولا بعدها .
ما الذي حدث لتكون الدورة وقتا مستقطعا ؟ .. توقف فيه أصحاب الغايات السياسية عن تحريك مشاريعهم في الشارع ، مثلما انكفأ فيه الإرهابيون عن التفجير والتكفير والتفخيخ ؟ .. الذي حدث في تقديري أن عناصر التأزيم سواء في اليمن أو غيرها من الأقطار العربية تجد ضالتها دائما في المناخات الجامدة، وتستفيد من فرقة الأغلبية الصامتة وانصرافها لهمومها اليومية لتظهر على السطح وكأنها تتحدث باسمها ، لذلك حينما أقيمت الدورة وانشغلت الجماهير اليمنية بتلك الاحتفالية وملحقها الاقتصادي .. لم تجد تلك القوى من ينصت إليها ، في حين بعثت الجماهير اليمنية الحية بحضورها الكثيف وتفاعلها مع مجريات الدورة برسالة شديدة الأهمية ، وهي أنها حينما تنحاز للصمت عما يجري فلأنها لا تجد ما تعبر به عن ذاتها كمجتمعات سلمية تريد أن تحيا وتعيش بسلام ، خاصة في ظل احتقان الشارع العربي بسياسات التخوين والتأثيم. هنالك مجتمعات تنبهت مبكرا لقيمة هذه الاحتفاليات في ترقية مشاعر المجاميع، والنأي بها عن حقن الأيديولوجيا المدمرة، فاخترعت لنفسها ما يجنبها مأزق قفل الأفق على رؤية واحدة ، أو تضييق الخناق على الترويح ، وهذا ما عبرت عنه الجماهير اليمنية حينما حملت أعلام الدول المشاركة بلا تمييز على مدرجات ملاعبها .
في تقديري أن اليمانيين قد قدموا درسا مجانيا وبشكل عفوي .. تجاوزوا فيه كل سطوة التعصب الرياضي ليعبروا عن أزمة الفاقد الترفيهي الذي تعيشه الجماهير العربية، وتدفع فيه الحكومات العربية الثمن بانزلاق أبنائها إلى أيديولوجيا الشقاق نتيجة تنامي مشاعر الاحتقان والاختناق .