(مجنون وزادوا بندقوه) يصدق هذا المثل اليمني اليوم على الزعيم الليبي الهالك معمر القذافي تماماً كأنّه مفصّل عليه، وأنا أعترف بالمناسبة أنني لم أفهم هذا الرجل غريب الأطوار منذ أن بدأت أعي ما حولي، فهو يأتي أحيانا بدرر الكلام ويلقي بالحقائق عارية أمام العالم بدون مواربة الدبلوماسيين ولفّات السياسيين، وأحياناً يأتي بغرائب مضحكة وعجائب مربكة، وقد رأيته يوماً يتحدّث إلى وفد من الأطفال البوسنيين الذين فقدوا آباءهم إبّان حرب البوسنة والهرسك مطلع التسعينات، فقال كلاما يعجز عنه أرباب الفصاحة وأساطين البلاغة، سحرني به وأذكر من جملة ما قاله ولم أنسه: إنّكم اليوم يا براعم البوسنة التي تفتّحت على واقع حزين حزن الخنساء على أحبائها، تنصبون للضمير العالمي محكمة عادلة وتأتون بالقاضي وملايين الشهود، وإنني لأكاد أراه رأي العين يعتصر ألماً ويدمع ولكن هل تغنيكم دموع الضمير العالمي وألمه من جوع وتؤمنكم من خوف؟!
اثنان وأربعون عاما والقذافي يتربّع على عرش ليبيا، تغيّر العالم وقامت ثورات عديدة في أماكن متفرقة من العالم وانتهت الحرب الباردة وسقط الإتحاد السوفيتي وجاءت حكومات إثر حكومات ورئيس تلو رئيس في كل دول العالم والرجل ثابت لا يتزحزح، حتى هبّت رياح التغيير في المنطقة العربية وحملت معها نسائم الأمل وبشائر الحرية والعهد الجديد وانتعشت أحلام أبناء ليبيا الأحرار الذين خرجوا للشوارع مطالبين برحيل القذافي بتلك الأعداد الغفيرة والروح الثورية والطريقة السلمية والأسلوب الحضاري، فقابلهم بالعنف والقتل وسفك الدماء وبجموع المرتزقة وحشود البلطجية من الأفارقة الذين قتلوا المئات واقتحموا البيوت وهتكوا الأعراض وجرحوا الآلاف مما دفع أبناء ليبيا الأحرار لحمل السلاح والانخراط بثورة مسلحة ضد طاغية نصّب نفسه إلهاً وأستحلّ المحرّمات ووصل عبثه إلى نصوص القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وبدد ثروة البلاد بحثا عن زعامة موهومة ومجد زائف وشهرة فارغة تتصاعد من خطب عقيمة وتصفيق مرتزقة وقصائد المتسولين بماء وجوههم وإشادات الطامعين بقليل من فتات الدنيا وهو الزبد الذي قال المولى عنه بأنّه يذهب جفاء، ومن أصدق من الله قيلاً؟!
قبل أيام كتب الثوار في ليبيا آخر سطور قصة القذافي وتم قتله وإخراجه من الحفرة التي انزوى فيها كالجرذ بعد أن توعّد بإحالة ليبيا إلى نار حمراء حماية لكرسيه وشتم الثوار ووصفهم بالجرذان..
لقد كنت منذ بداية الأحداث في ليبيا من أكثر أهل الأرض اطمئنانا ويقيناً بأنّ الثورة ستنتصر في ليبيا وإن كان المخاض عسيرا، فالقذافي المجنون المبندق والذي قال أنّه سيقاتل الليبيين ببندقيته حتى آخر طلقة قد عمّدها بالدماء، ومادام الدم قد سال بتلك الغزارة فالطاغية انتهى وما بقى منه سوى رقصة المذبوح والشطحات الأخيرة، وسجّل يا تاريخ.
كتبت هذا قبل ثمانية أشهر وأعيد نشره اليوم بتصرّف بمناسبة مصرع القذافي الذي كان يرى أنّه المجد والتاريخ وقائد الثورة وملك ملوك أفريقيا وسلطان سلاطين الزمان ورئيس الولايات المتحدة الأفريقية باعتبار ما سيكون طبعا! ولعلّني أتذكّر من طرائف القذافي أنّه قال ذات مرة: أنّ كرة القدم تكرّس في مبارياتها الاستبداد لدى الشعوب لأنّ 11 لاعبا يقابلون 11 لاعبا والآلاف يتفرّجون، لماذا لا ينزل الآلاف يلعبون مع الآلاف؟!
وقد أخبرني أحد المسؤولين اليمنيين أنّ القذافي زار اليمن قبل سنوات عديدة وأصرّ على أن يقود السيارة بنفسه خلافاً للبروتوكولات الرسمية وفعلا قادها وسار خلفه الموكب، فلما كان بمنطقة ريفية قبل مدينة إب الخضراء شاهد امرأة ريفية تحمل على رأسها الحطب وتسير بالطريق، فأوقف السيارة وتوقف الموكب ولحق بالمرأة وهي تجري وهو يجري خلفها دون جدوى ويصيح بها: لحظة أنا القذافي أريد أن أتصور معك أنت مناضلة كبيرة، وسط استغراب الموكب وتعجب الناس!
اليوم تحوّل القذافي إلى قصة تروى كجزء من التاريخ، ولكن بقية الطغاة العرب لا يبدو أنهم سيقرؤون هذه القصة بعين المعتبر المتّعظ، ذلك أنّ من خذلان الله لهم أن أراد هذه النهاية التعيسة والوخيمة جزاءا بما اقترفوا من جرائم بحق شعوبهم من القتل للمتظاهرين والمواطنين وتدمير منازلهم وترويعهم وتشريدهم، كنوع من الخزي لهؤلاء الحكام الظلمة في الحياة الدنياء كما قال تعالى: "ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم".