بدا جسر الجمرات الهائل صباح يوم العيد «خالياً» من الحجاج، على عكس ما كان عليه قبل أعوام عندما كان التزاحم وخشية التدافع المؤديان إلى وفيات كابوسَ الحكومة السعودية الحريصة على أن يمر الحج من دون حوادث، ففي ذلك شهادة لها بحسن الأداء أمام العالم الإسلامي كله.
ولكنْ هذا العام لم يكن هناك لا تدافع ولا تزاحم، بل بدا الجسر خالياً، فهل حصل ذلك لمجرد أن عدد الحجاج انخفض بنسبة الثلث؟ أم أنه تنظيم أفضل؟ قد يكون هذا وذاك، ولكن ثمة درساً مفيداً من حج عام 1434ه لمطوري المدن السعودية والخليجية ومخططيها أيضاً، وهو أنكم أزحمتم مدنكم وحمّلتموها أكثر من طاقتها من دون عائد اقتصادي نافع. ربما رفعنا أرقام الناتج القومي غير البترولي -وأشك حتى في هذا- ولكن كان ذلك على حساب نوعية الحياة. إنني أتحدث عن ملايين العمالة التي جلبناها لخدمتنا ومن ثم خدمة نفسها، فتكونت طبقة هائلة منهم لها اقتصاداتها الخاصة من دون أن تكون مميزة فتضيف ولا ذات جذور فتعمر وتبني حضارة. مجرد عمالة عابرة لا يُسمح لها بالاستقرار، أخطر ما تفعله أنها تستهلك موارد الجزيرة العربية الشحيحة التي بالكاد تكفي سكانها الأصليين، فتشوّهت المدن وتكدس سكانها بغير انتظام.
كل ما فعلته السعودية في الحج هو تطبيق النظام بمنع كل من يريد الحج من دون ترخيص، وهو ما أدى إلى الانخفاض الأكبر في تعداد الحجيج، فحجاج الداخل انخفضت نسبتهم إلى ما دون النصف (600718 حاجاً)، بينما بلغت نسبة انخفاض حجاج الخارج نحو 20 في المئة فقط. ماذا يعني ذلك؟
حجاج الداخل كانوا يعبرون عن حال الفوضى التي تعيشها العمالة الوافدة ليس في الحج فقط، بل في كل المدن السعودية وبعض الخليجية، إنهم يحجون من دون التعاقد مع مخيم مرخص، فيفترشون الأرض ويزاحمون سكان المخيمات المرخصة على الخدمات و«الموارد الطبيعية» المتاحة. لا ينتظمون في أداء شعائر الحج بتعليمات ومواعيد وزارة الحج، عكس الحجاج النظاميين الذين تحدد لهم مواعيد الخروج في أفواج نحو الجمرات أو الحرم، فتنتشر من حولهم الفوضى والتزاحم، وربما الحوادث المميتة لا قدر الله، ولكن لم يحصل شيء من هذا، بل حتى اختفى التزاحم.
إن درس حج 1434ه يجب أن يعمم ليشمل المدن، فهل جدة والرياض اللتان تختنق مواصلاتهما وطرقهما وأحياؤهما، ولا تكاد بلديتا المدينتين تقدران على اللحاق بذلك على رغم كل المشاريع والأموال، في حاجة إلى مليون وزيادة من عمالة وافدة تشكل نصف سكانهما؟ بالطبع لا، ولكننا نشعر بأننا لا نستطيع العيش من دونهم، فهم عماد اقتصادنا الإنتاجي! ولكن هل هو حقاً اقتصاد إنتاجي؟
أمضيت أول أيام العيد أقرأ كتاب الوزير السعودي الراحل غازي القصيبي «التنمية وجهاً لوجه»، وهو تجميع لمحاضرات له ألقاها أواخر السبعينات الميلادية عن التنمية في المملكة. كانت أعواماً حاسمة في تاريخ السعودية، إذ شهدت بداية أكبر عملية بناء في بلد واحد منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، ففي وقت قصير أرادت المملكة أن تغيّر وجه الجزيرة العربية الصحراوي المتواضع إلى دولة حديثة. كان القصيبي أحد «الوزراء الشباب» القادمين من الجامعات الأميركية والذين أسندت لهم القيادة السعودية عملية التغيير هذه، وبالتالي يمكن أن نحملهم كل إنجازات المرحلة وكذلك كل إحباطاتها.
في محاضراته كان القصيبي يتحدث من دون قلق عن عمالة «قليلة التعداد»، مليون ونصف بين 14 مليوناً هم سكان المملكة وقتذاك. تحدث عنهم بصفتهم حالاً موقتة، وتحدث أيضاً عن صناعة متطورة لا تحتاج إلى أيد عاملة كثيرة، بل ذهب لتوقع مصانع تشغلها روبوتات، ولكن جلّ حديثه كان حول المواطن السعودي الذي سيتغير ويقود ويعمل ويبني ويزدهر، ولكن لم يحصل ذلك كما تمنى وخطط له هو وجيله.
لعله مات كمداً عندما رحل عن عالمنا في العام 2010، ذلك أن آخر مهماته الحكومية كانت وزارة العمل المنوط بها إيجاد وظائف لملايين الشباب السعودي الذين خذلهم التعليم -على خلاف كل خطط التنمية- في مواجهة 7 ملايين عامل أجنبي معظمهم برواتب متدنية وخبرات متواضعة، ولا يضيفون شيئاً مميزاً لبيئة العمل، ويعملون في صناعات تحويلية بسيطة تعتمد على الأيدي العاملة الرخيصة، وكل ما سبق مخالف لكل خطط التنمية التي شارك القصيبي في وضعها منذ العام 1975.
تداخلت التنمية لدينا مع أن تكون المدن أكبر، والمباني أكثر ارتفاعاً، وأن نسجل أرقام إنتاج أعلى للسلع غير النفطية حتى لو كانت لصناعات تحويلية من غير الضروري أن تكون على بلادنا، ذلك أن جدواها مرتبطة بوجود عمالة رخيصة غير موجودة أصلاً لدينا. المهم أن تكون لدينا مصانع أكثر. فعلنا بعضاً من هذا في الحج وإن كان مبرراً أكثر، ذلك أننا نفخر بخدمة الحرمين، وسعينا نحو طاقة استيعابية أكثر وبمشاريع هائلة لتوسيعهما مع المشاعر، ولكن على رغم كل التوسعات استمر الازدحام والتدافع، ما جعل الحج كابوساً مرهقاً عوضاً عن أن يكون تجربة روحية تجدد فينا الهمة والعزيمة لبناء مجتمع أفضل، ولكن لم نر عوائد الإنشاءات الأسمنتية إلا عندما مارسنا بعضاً من التنظيم والضبط والربط، وعندها ارتاح الحجيج. بدت المنشآت أكبر وتتسع لحجاج أكثر، وحتى لو عدنا لمعدل الثلاثة ملايين حاج في الأعوام المقبلة، فلن نشهد ازدحاماً إذا حافظنا على النظام الذي وضعناه بعد تجربة ومعاناة.
الشيء نفسه حصل في مدننا التي ضاقت علينا بما رحبت. هذه المدن ستشهد توسعة فورية في شوارعها ومساكنها ومكاتبها من دون أن تضيف لبنة واحدة. فقط نريحها من أعداد لا نحتاجها من العمالة الوافدة، ثم نعيد ترتيب اقتصادنا ومصانعنا وإنتاجنا بما يتوافق مع عدد السكان الطبيعي المتناسب مع الموارد الطبيعية المتاحة في الجزيرة والخليج.
أستعير هنا الجملة الآتية من رسالة شخصية تلقيتها من الباحث اللبناني نجيب صعب الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية، فعلق على مقالة كتبتها هنا، وقلت فيها بحماسة: «أخرجوا العمالة الأجنبية من جزيرة العرب»، فوافقني متسائلاً: «هل تتحمل بيئة المنطقة ومواردها الطبيعية هذا العدد من السكان «المستورَدين»؟ وهل الهدف هو زيادة أرقام الناتج القومي لإثبات النمو لأجل النمو في ذاته، أم أن الهدف هو تأمين حياة لائقة للناس قابلة للاستمرار؟»
كلمة السر في «تأمين الحياة اللائقة للناس والقابلة للاستمرار»، فالوضع الحالي غير قابل للاستمرار، كما أن الحياة لم تعد لائقة.
- كاتب وإعلامي سعودي