"عطر المطر" للكاتبة اليمنية الشابة (إيمان السعيدي)، العنوان الشعري الجميل هو أول ما يجذبك في هذا العمل الأدبي. إنه عنوان من كلمتين مشحونتين بدلالة رومانسية عالية، لكن النصوص التي يحتوي عليها لا تنتمي إلى الرومانسية، بل إلى نوع من الكتابة المعاصرة التي تتجاوز النمط الرومانسي التقليدي وتطرح إشكالية (النص الأدبي) أو (الكتابة) غير المتقيّدة بجنس أدبي محدّد، وقد كُتب كلام كثير هو هذا الموضوع من ذلك مساهمة إدوار الخراط الذي أطلق مصطلح (الكتابة عبر النوعية) أي الكتابة المتحررة من النوع، فقد تتقاطع وتتداخل وتتعايش الأجناس الأدبية في نص واحد.
ذهبت الكاتبة إلى شاعر يمني صاحب تجربة كافية في القصيدة التقليدية ليكتب لها المقدمة، وهو الشاعر (الحارث بن الفضل). إنها مفارقة، شاعر يكتب القصيدة التقليدية يكتب مقدمة لنصوص تتحرر من قيود النوع، وهو مأزق للشاعر (أو الناقد الذي يكتب المقدمة بصفته تلك). فهو يتلقّى (كتاباً) أطلقت عليه صاحبتُه صفة (نصوص) وهي الصفة التي كتبت في الغلاف تحت العنوان مباشرة (عطر المطر .. نصوص) وهو (أي كاتب المقدمة) يتعامل معه على أنه شعر، فأشار في بداية المقدمة إلى (المشهد الشعري) و(الساحة الشعرية) ثم قال عن الكاتبة: "الشاعرة المبدعة إيمان السعيدي التي حلقت مؤخراً في فضاء القصيدة الحديثة تحليقاً لافتاً جعلها تتصدر المشهر الشعري في بلادنا وباقتدار مستحق". (عطر المطر، المقدمة. ص:6)، فهو، يصف الكاتبة بأنها (شاعرة)، ويتحدث عن العمل باعتباره (شعراً) ..
لقد تخلّصت الكاتبة من مأزق النوع، فأعطت عملها صفة (نصوص) وجعلت شاعراً آخر خبيراً بالقصيدة التقليدية تسكين ذلك العمل في خانة (الشعر). وقد كان لها ما أرادت وزيادة، حيث شهد لها أنها تتصدر المشهد الشعري باقتدار. إن الشاعرة لم تفعل ذلك من باب التواضع فقط، بل كانت تعي مسؤولية التوصيف، إذ كيف تطلق صفة الشعر على نصوص تحتوي على تسعة نصوص سردية، في قسمين متتاليين: (مذكرات رجل) و(يحكى). فهي إما أن تسميها شعراً وتدافع عن ذلك، أو تترك مسألة التجنيس للقراء والنقاد وهو ما فعلته بذكاء.
إن الحدود بين الأجناس الأدبية لم تعد كما كانت، فقد تداخلت تداخلاً كبيراً، وهذه (النصوص) التي بين أيدينا (عطر المطر) واحدة من الشواهد، فالقصة القصيرة جداً تُقَدَّم مع القصيدة في عمل واحد، دون أي توصيف إلا انها (نصوص) تنتمي إلى الأدب أو (الكتابة) الإبداعية.
ولأن الإبداع يقتضي المغامرة والتجديد فقد اتبعت الكاتبة أسلوباً جديداً في العنونة، فقسمت النصوص إلى أقسام عدة أعطت كل قسم عنواناً خاصاً، وألحقت بالعنوان الرئيسي عنواناً فرعياً هو عبارة عن قصيدة قصيرة. تظهر تلك القصيدة/ العنوان على شكل سُلّم، باعتبار العنوان هو الجسر السريع الذي يدخلك إلى النص ويعطيك رسالة ما عن مضمون وشكل المُسَمّى، وقد حظيت العناوين باهتمام خاص في النقد المعاصر وخاصة من قبل (جيرار جينيت) في كتابته عن (عتبات النص).
يظهر العنوان بشقيه كقصيدة، فيعدّه القارئ واحداً من النصوص، فهو لا يتميّز عن النصوص الرئيسية إلا بطريقة كتابته، حيث يُطبَع على شكل سلّم. كما انه لا يتم ذكره في المحتويات، أي عدم احتسابه نصاً، و هو إجراء ينتقص من تلك العناوين لا نعلم له سبباً، فتم سرد القصائد في قائمة المحتويات، دون ذكر الأقسام، وكأنها كلها في سياق واحد لا تفصل بينها أي تقسيمات، رغم انها تتبع تقسيماً دقيقاً في الداخل. وأضع أمام القارئ نموذجاً من تلك العناوين ليرى صياغتها الشعرية المركّزة، (عبق الذكرى) هذا هو العنوان الرئيسي، ثم يأتي بعده العنوان الفرعي/ النص الشعري المصاحب:
يمطر
الشوق
أرصفة
ذاكرتي
لتفوح
منها
ذكراك
عطراً .. !
(عطر المطر، ص:17)
إنه نص جميل يحتوي على جملتين شعريتين:
يمطر الشوق أرصفة ذاكرتي
لتفوح منها ذكراك عطرا .. !
إنها قصيدة ولها عنوانها الخاص، يتم ذلك دون أن يحتسب نصاً رغم توفره على الشروط الكافية، لعله من باب التنويع والابتكار في طريقة التأليف، ولأغراض أخرى في ذهن الكاتبة لم تبيّنها للقارئ، قد يكون منها اختزال الجو العام للقسم الذي يليه.
أسوق شاهداً آخر من عنوان قسم آخر، (مذكرات رجل):
ذكراكِ
لازالت
هنا
موشومة
في حيطان
قلبي
(عطر المطر، ص: 23)
كان هذا العنوان لأحد القسمين السرديين، وفي السرد من الطبيعي أن تغيب ذات الكاتبة ويحضر الآخر المروي عنه، عكس الشعر الذي تكون الذات هي الطاغية والمستحوذة على الخطاب. فنحن أمام (مذكرات رجل)، والكاتبة امرأة، صوت (مذكّر) يخاطب (أنثى) (ذكراكِ).
أي ان الكاتبة قد خرجت من ذاتية (الشعر) لتدخل في موضوعية (السرد). فالذات تخرج عن كونها منفعلا يتحدث عن ذاته إلى راوية تصف أحداثاً متخيّلة لآخرين. وهو الأسلوب الذي يسود في القسمين السرديين المذكورين. وتأتي نصوص القسمين كلها بطريقة السرد الغيري، حيث تتحول الذات الشاعرة إلى راوية تسرد أو تصف وصفاً خارجياً، وهذا نص بعنوان (ذكرى المطر):
" يمشي بجوارها على أرصفة الحنين
بعد غيابه لسنوات عجاف ..
تتلبد سماء الحب بالغيوم،
تدمع عينا حبيبته حين تتذكر ربيع العمر الذي مرّ بدونه ..
يبتسم بحيرةٍ وهي تبكي بجواره ...
ويتساءل في نفسه ..
أهذه دموع السماء فرحة لقدوم ربيع جديد .. ؟
أم هي دموع حبيبتي تبكي ذكرى المطر ..؟ "
(عطر المطر، ص: 27)
ظل السرد في كل النص أعلاه (وقد أوردناه كاملاً) يروي عن الآخر/ ضمير المذكّر الغائب وعلاقته بمحبوبته، وبقيت الذات التي تقف خارج النص ساردة محايدة بموضوعية.
لكن الذات تعود إلى البروز في الأقسام الأخرى (الشعرية)، فتحضر من خلال ضمير المتكلم الذي يخاطب معشوقاً معيّناً حاضراً أو غائباً، ويحضر الإيقاع الشعري والتوزيع المنتظم للجمل والكلمات. ولنأخذ قصيدة (انعكاس) نموذجاً:
" أناظر مرآتي
قبل أن أغفو في كل ليلة،
كي أراك مرسوماً في حدقاتي ..
وفي نهاري
أخشى أن افتح عيني
كي لا يرى الجميع
صورتك المنعكسة من داخلي " ..
(عطر المطر، ص: 52)
إن (عطر المطر) مغامرة إبداعية للكاتبة ( إيمان السعيدى) تستحق الإشادة والاحتفاء، ولعل شهادة الأستاذ الحارث بن الفضل في مكانها، فهذا العمل وإن كان العمل الأول لها لكنه يبشر بكاتبة تمتلك الأدوات الإبداعية الكافية للتميُّز في مجال كتابة الشعر ومجال كتابة القصة ..
* قائد غيلان: ، أستاذ النقد الأدبي الحديث والمعاصر في جامعة دار السلام الدولية/ صنعاء