آراء

الأئمة والإنجليز.. وفاق يتخلله افتراق: خُبث حسين الهادي (2-3)

بلال الطيب يكتب: الأئمة والإنجليز.. وفاق يتخلله افتراق: خُبث حسين الهادي (2-3)


خلال النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري، دخلت الإمامة الزّيدِيّة مرحلة التيه والضعف الشديد، عصفت الخلافات الأسرية، والتمردات القبلية بشبه الدولة المُتبقي، وانحصرت دولة الإمامة بأئمتها الجدد - وما كان أكثرهم - في القلاع العالية، والمناطق البعيدة، وارتفعت وتيرة التنافس الانجلو - تركي على السواحل اليمنية، خاصة بعد افتتاح قناة السويس، وصار اللاعب الخارجي هو المُتحكم الرئيس بالجغرافيا والإنسان.
وعن تلك الحقبة قال المُؤرخ إسماعيل الأكوع: «ظهر في هذا القرن أئمة عديدون، وكان كل واحد يرى الحق معه، ولقد بلغ الحال ببعضهم أنْ قاتل أخاه وابن عمه، ورفع السيف على أبيه، وكان بعض الأئمة يُصر إصرارًا عَنيدًا على طلب الملك، ولا يفتأ يجدُّ في الوصول إليه، ولو اضطر على إباحة قطع الطريق، ونسف المنازل على أهلها، والنهب والسلب، حتى يُشيع الرعب في قلوب الناس، وتتملكهم الرهبة والفزع، فيُسلمون به إمامًا مُكرهين لا خيار لهم فيه».
كان لسيطرة قبائل بكيل على أجزاء واسعة من المناطق الوسطى خلال تلك الفترة أثره البالغ في تفشي حوادث النهب والسلب، وقطع الطرق، فانتشر الخوف، وبُث الرعب، وبلغت القلوب الحناجر، لتتشكل وسط تلك الظروف العصيبة حركة تحررية صوفية بقيادة الفقيه الثائر سعيد بن صالح بن ياسين المذحجي، الذي أعلن نفسه إمامًا للشرع، وابتدأ ثورته بإخراج تلك القبائل من أراضي إب وحصونها، وامتدت سلطاته لتشمل أغلب مناطق اليمن الوسطى.
في إحدى خطبه الرمضانية بمدينة تعز 30 أكتوبر 1840م، أعلن الفقيه سعيد عن توسيع أهداف ثورته، وصارح أنصاره بعزمه على إسقاط دولة الإمامة في الشمال، وطرد الاحتلال الإنجليزي من الجنوب، وكان لتلك التصريحات أثرها البارز في اندفاع الجماهير اليمنية لتأييده، وكان قبل ذلك قد تلقى طلبًا من قبل السلطان محسن فضل العبدلي لمساعدته من أجل استعادة مدينة عدن، وقيل غير ذلك.
كما قام الفقيه الثائر بكتابة رسالة إلى الأمير حسين بن علي بن حيدر صاحب أبي عريش، طالبه فيها بتسليم المخا، وزبيد، والحديدة لحضيرة دولته الوليدة، رد عليه الأخير ردًا دبلوماسيًا، وأخبره بأنَّه سيقوم بذلك فور قيامه - يقصد الفقيه سعيد - باستعادة مدينة عدن من أيدي الإنجليز، وكان الأخيرون - حسب شهادة أحد مُؤرخيهم - يتوجسون من تلك الثورة وصاحبها خيفة؛ بل وعدوها التهديد الأخطر لوجودهم في الجنوب اليمني المُحتل.
بينما كان الفقيه سعيد يُهيئ قواته لإرسالها جنوبًا، وصلته الأخبار بتقدم قوات إمام صنعاء الهادي محمد بن المُتوكل أحمد نحوه، استعد لملاقاتها، كان جيشه الأكثر عددًا، الأقل عدة، فيما توافد إليه كبار مشايخ المناطق الوسطى، ورعاياهم مهنئون وداعمون، وقد تولى قيادة ذلك الجيش شيخ العدين سعيد بن أحمد، والذي كان للفقيه سعيد بمثابة ساعده الأيمن، وقيل غير ذلك.
وصلت في شهر نوفمبر1840م طلائع القوات الإمامية إلى يريم، عسكروا فيها، أرسل الهادي محمد الرسل والجواسيس لاختراق جبهة الفقيه الثائر، خاصة وأنَّ الأخير كان قد استبقى بعض مشايخ بكيل وأتباعهم لديه، مثل النقيب حسين أبو حليقة, والنقيب علي الهيال, تظاهر الأخيران له بالولاء، وتعهدوا في الخفاء لإمام صنعاء بالوقوف إلى جانبه، والقبض على الفقيه سعيد، وقادة جيشه مع أول هجوم.
في أوائل الشهر التالي وصل جيش الفقيه الثائر إلى يريم، حاصر القوات الإمامية، كان النصر حليفه، وصلت حينها تعزيزات من خولان، ونهم، وهمدان، والحدا، وقد ساهمت إلى حدٍ كبير في ترجيح كفة إمام صنعاء. هجمت قوات الأخير على معسكر الفقيه سعيد، سقط المعسكر من الداخل بفعل الخونة الذين اقتحموا خيمة قادة الجيش، واقتادوهم أسرى إلى إمامهم المُنتشي بالنصر، وقيل أنَّ الأخير وجه بحز رأس 130 أسير.
أفلت الفقيه سعيد منهم بأعجوبة، انسحب بما تبقى لديه من قوات، تحصن في نقيل سمارة، استمات في الدفاع والمقاومة، خسر المعركة بعد أسبوعين، تراجع بعد ذلك إلى الدنوة، فاقتحم المُتفيدون بعد مرور أسبوع حصنه المنيع، نهبوا كل ما فيه من أموال وحبوب، وقتلوا العشرات من أصحابه الذين بقوا معه حتى آخر لحظة.
أخذ المُتفيدون الفقيه سعيد أسيرًا إلى مدينة إب، وهناك وفي سمسرة الدشل، وفي يوم الأحد 27 ديسمبر 1840م صلبوه أمام حشدٍ كبيرٍ من مُناصريه، ثم حزوا رأسه، وقدموه قُربانًا لنزق إمامهم الكهل المُتسلط.
بعد وفاة الهادي محمد 19 يناير1843م عاد علي بن المهدي عبد الله (علي مقلى) إلى تولي الإمامة، وتلقب هذه المرة ب (المهدي)، لم يعارضه من بني عمومته أحد، فبدأ عهده بإطلاق المُعتقلين، والإحسان حتى لمن أساؤوا إليه. وهو رغم ضعفه الشديد لم يهادن الإنجليز؛ بل دعا إلى قتالهم، وأعد العدة لذلك، وقاد في نفس العام جيشًا كَبيرًا لذات الغرض، وحين وصل إلى قعطبة طلب من سلطان لحج محسن فضل العبدلي أنْ ينظم إليه، ثم ما لبث أن غير رأيه، وعاد أدراجه خائبًا، بعد أنْ علم أنَّ الإنجليز توجسوا من حملته، وأعدوا العدة لملاقاته، وقيل غير ذلك.
تجددت مُعارضة المهدي علي من قبل محمد بن يحيى بن المنصور علي، وهو أمير قاسمي سبق وتوجه مع أبيه إلى تهامة قبل 15 عامًا، لتتبدى من هناك طموحاته السلطوية، ذهب إلى القاهرة بعد خروج قوات محمد علي باشا من اليمن، ليعود منها بعد عامين، مُرتميًا في أحضان الشريف حسين بن علي بن حيدر صاحب أبي عريش، وحاكم اليمن باسم الدولة العثمانية، والذي كان حينها قد أتم سيطرته بمساندة كبيرة من قبل قبائل عسير الوهابية على مُعظم نواحي المناطق الوسطى، ونكل بقبائل بكيل فيها شرَّ تنكيل.
تبعًا لذلك توغل الأمير محمد بن يحيى في المناطق الشمالية، بمساعدة مائزة من قبل الأمير حسين صاحب أبي عريش، أعلنت القبائل الشمالية ولائها له تباعًا، حاول المهدي علي إيقاف تقدمه، ولكن دون جدوى، ليجنح الأخير بعد معارك غير متكافئة للسلم، وفي نقيل يسلح أعلن تنازله، وبايع الإمام الجديد 24 يونيو 1845م، وذلك بعد عامين ونصف العام من توليه الإمامة. تلقب الإمام الجديد ب (المُتوكل)، دخل صنعاء، فدانت له، أظهر الحزم في مُواجهة القبائل، وآثر مصلحته على كل شيء.
في تلك الأثناء، واستمرارًا للحملات العسكرية الجهادية ضد الإنجليز، أعلن من المخا إسماعيل بن علي بن حسن الحسيني دعوته للجهاد، ألَّب العوام للاحتشاد، وجمع حوالي 6,000 مُقاتل، جلهم من سكان المناطق الوسطى، وتوجه بهم صوب عدن أغسطس 1846م.
لم يُقدم له المُتوكل محمد أي دعم، ولا الأمير حسين صاحب أبي عريش، وعند وصوله لحج تظاهر سلطانها محسن فضل العبدلي بتنازله له، وانصياعه لأوامره، كما انضمت إليه مجاميع من قبائل الفضلي، والعبدلي، لتقضي المعارك والأوبئة على أغلب مُقاتليه، وعلى حين غفلة منه ومن أنصاره، نجح أحد بدو أبين في اغتياله، كما نجح الإنجليز في اختراق القبائل المجاورة، وشراء ولاءاتها.
مع بداية حكمه أرسل المُتوكل محمد بهدايا قيمة لصاحب أبي عريش، فما كان من الأخير إلا أن رد له الجميل، وأعاد له مُعظم المناطق الوسطى، كتعز وغيرها، لم يدم الود بينهما طويلًا، اختلفا، فعاود حسين بن حيدر السيطرة على تعز مرة أخرى، فيما بادر إمام صنعاء بالتواصل مع الإنجليز، طالبًا منهم المساعدة من أجل استعادتها وتهامة لحضيرة دولته.
كان ابن حيدر شديد العداء للإنجليز، وبوصفه حاكمًا لتهامة باسم الدولة العثمانية قام بإبلاغ السلطات التركية بالأمر، وكتب إلى والي جدة شريف محمد رائف برسالة شارحة، جاء فيها: «بلغنا خبر كاد أن يبلغ حد التواتر، أنَّه قد صار بين المُتوكل صاحب صنعاء، وبين الإفرنج اتفاق على انتزاع الديار التي تحت أيدينا منا».
استعرت بعد ذلك الحرب بين الجانبين، ودارت مُواجهات كثيرة، انتصر في أخرها إمام صنعاء، أسر الأمير حسين 20 ديسمبر 1847م، وحبسه في قلعة القطيع، ثم أكمل طريقه جنوبًا. استعاد بعد ذلك بعض مناطق تهامة لبعض الوقت، ثم ما لبث أنْ انسحب منها لأسباب قاهرة.
أرسل الأتراك في الحجاز إلى اليمن جيشًا قوامه 3,000 مُقاتل 10 إبريل 1849م، احتل الحديدة وأجزاء من تهامة، فابتدأ بذلك التواجد التركي الثاني في اليمن، وقد ذكر المُؤرخ الواسعي أنَّ صاحب أبي عريش ذهب بعد تحريره من الأسر إلى الاستانة مُستنجدًا بالسلطان عبدالمجيد بن محمود.
الغريب في الأمر أنَّ المُتوكل محمد نفسه فرح بقدوم تلك الحملة، واستنجد هو الآخر بها ضد القبائل الشمالية المُناوئة له، واستقبلها بنفسه في حدود مملكته، وقد كانت نهايته ونهاية غالبية أفراد تلك الحملة على يد مُعارضيه وخيمة، لينحصر التواجد التركي في تهامة، وإلى تلك الأحداث أشار سلفاتور أبونتي بقوله: «عندما دخل الألف وخمسمائة رجل من العثمانيين الذين استحضرهم الإمام محمد بن يحيى في صنعاء، هاج الشعب اليمني واشتد غضبه، فارتكب الكثير من أعمال العنف، وسالت الدماء أنهارًا، وغزا العاصمة وهدمها على من فيها، وقتل الإمام شر قتلة، وبذلك سقطت البلاد في الفوضى، وعمَّ الفساد».
وهكذا فإنَّ الدولة القاسمية التي ابتدأت مع خروج الأتراك من اليمن في حملتهم الأولى - مُنتصف القرن الحادي عشر الهجري - انتهت بالتزامن مع تواجدهم الثاني، مُنتصف القرن الثالث عشر الهجري، أدت كثيرٌ من الأحداث إلى أفولها، لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع، يمكن أنْ نسميها ب (عصر أئمة القبائل)، أو (فوضى الأئمة الصغار).
تنافس حينها على الإمامة المنصور علي، والمنصور أحمد بن هاشم الويسي، والمُؤيد العباس بن عبدالرحمن على صنعاء، ليسقط الأمر بعد ذلك من أيديهم، كثر أدعياء الامامة، وقيل أنهم تجاوزوا الـ20 داعيًا، حتى أن أحدهم أعطى أرباب الدولة 500 ريال لينصبوه إماما، نصبوه ليلة واحدة، أو بعضها، ثم عزلوه في الصباح.
وعن أحوال صنعاء خلال تلك الفترة قال الرحالة الغربي بليفير: «وعاشت المدينة فترة من الفوضى، ونُهبت ممتلكات اليهود والتجار، وتحولت صنعاء إلى مدينة تعمها الفوضى، بعد أن كانت تَحُفّ بها الروعة، ولجأ التجار في آخر المطاف رغبة في تحسين وضعهم إلى انتخاب عاقل لهم هو أحمد الحيمي».
قام أهالي مدينة صنعاء بعزل وزيرهم الحيمي، بعد أنْ راعهم تصرفه في نسف ونهب منازل مُعارضيه مارس 1858م، فما كان منه إلا أن عزم على التوجه إلى تهامة للاستنجاد بالأتراك، إلا أن القبائل حالت بينه وذلك، وقيل أيضًا أنَّه وعدد من أنصاره راسلوا الحسين بن محمد في حصن القرانع (الطويلة)، وطلبوا منه أن ينهض بالأمر.
دعا الحسين بن محمد لنفسه، وتلقب ب (الهادي)، صك العملة باسمه، وأطاعته أغلب القبائل، وكانت له بادئ الأمر سطوة عظيمة، دخل صنعاء في العام التالي، وبصحبته الحيمي، ثم ما لبث أن زج بذلك الوزير في السجن يونيو 1859م، وظل الأخير فيه لعامين، ولم يخرج منه إلا إلى القبر.
غادر الهادي حسين بعد ذلك صنعاء مؤثرًا الاستقرار في ضواحيها، ليعود إليها بعد وفاة أحمد الحيمي بعشرة أيام 24 فبراير 1861م، عين الشيخ محمد أبو جابر وزيرًا؛ الأمر الذي أغضب سكان المدينة المنكوبة عليه، قاموا بثورة عارمة، وأجبروه ووزيره على الرحيل.
كان الهادي حسين دجالًا مُشعوذًا، اتهمه المُؤرخ العرشي بأنَّه مجهول النسب، فيما أوصله المُؤرخ زباره بعبدالله بن حمزة، أما الحسن الديلمي فقد ألف في أخباره رسالة بعنوان: (در النادي في الكشف عن خُبث حسين الهادي)، والأدهى والأمر من ذلك أنَّه كان مُهادنًا للإنجليز، أرسل بعثة إمامية لمُقابلة مُقيمهم السياسي في عدن، إلا أنَّ سلطان لحج علي بن محسن العبدلي اعترض طريقها، ومنع وصولها بسبب توتر العلاقة بين الأخير والإنجليز.
عاشت الإمامة الزّيدِيّة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي أسوأ أيامها، تولى حكمها - كما سبق وأشرنا - أئمة ضعاف، انصرفوا إلى شؤونهم الخاصة، حتى ضعفت سلطتهم، وسقطت هيبتهم، وانقسم أنصارهم شيعًا وأحزابًا، تآمروا ضد بعضهم، وقضى المُنتصر على المُنكسر، وكثيرًا ما كانوا يستنجدون برجال القبائل، مما عرَّض مدينة صنعاء وغيرها من المدن لغارات عديدة، كثرت فيها حوادث السلب، والنهب، والتخريب.
دفعت تلك الأوضاع المضطربة عددًا من العلماء، والزعماء، والتجار للاستنجاد بالسلطان العثماني عبدالعزيز بن عبدالحميد، ودعوته لحكم اليمن، وضبط أمورها، وكان عدد من الأئمة ضمن قائمة المُستنجدين، كغالب بن محمد، وعلي بن المهدي عبدالله، والحسين بن المُتوكل أحمد، فيما تولى شريف مكة محمد بن عون زمام الوساطة، وجاء في وثيقة الاستنجاد: «أن العرب حول صنعاء قد شقوا عصا الطاعة، واستبدوا بالبلاد بالعتو والفساد، فنرجو أن تمدونا ببعض العساكر لإنقاذ اليمن من الفوضى والانهيار».
عاود الأتراك استيلائهم على صنعاء، بقيادة الوالي أحمد مختار باشا 25 إبريل 1872م، وامتدت سيطرتهم لتشمل المناطق الوسطى، وذلك بعد ثلاث سنوات من افتتاح قناة السويس؛ ويعزوا بعض المُؤرخين ذلك كسبب رئيس لذلك التمدد، والمُفارقة العجيبة أنَّ الأئمة السابق ذكرهم كانوا في استقبال الوالي العثماني وجنده؛ بل أنَّ بعضهم عمل تحت إدارته، كالهادي غالب، الذي عين قائم مقام على بلاد خمر وما إليها من بلاد حاشد.

عناوين ذات صلة:

زر الذهاب إلى الأعلى