جماعة الحوثي.. المركز والهامش
بشرى المقطري تكتب: جماعة الحوثي.. المركز والهامش
أدوار القوة والضعف التي تقطعها الجماعات الدينية، ما بين مسيرة صعودها وهبوطها، لا تخضع لموازين القوى في جبهة خصومها، وإنْ تأثرت بضعفهم لترسيخ سلطتها، بل تتأثر بالتغييرات في بنيتها على المدى البعيد.
وفي هذا السياق، يشكل انتقال جماعة الحوثي من هامش الحياة السياسية في اليمن إلى مركزها، سلطة أمر واقع، وطرفاً فاعلاً في الحرب، متغيراً له تأثيرات عديدة، بدءاً بالآثار الكارثية لإفقارها المجتمعات المحلية وتطييفها، إلى بنية الجماعة التي تبدو اليوم أكثر ضعفاً، نتيجة الهزّات الداخلية التي عصفت بها.
فبالإضافة إلى استمرار تنافس هيئاتها السياسية وأجهزتها الأمنية انعكاساً لصراعات أجنحتها الداخلية على مصادر الثروة، فإن الطبيعة الهرمية لسلطة الجماعة دمّرت ما بقي من مؤسسات الدولة، كما انعكست على إدارتها المناطق التي تقع خارج حاضنتها الاجتماعية، الأمر الذي فاقم التجاذبات السياسية بين سلطة المركز والسلطات المحلية في هذه المناطق.
مع احتكام جماعة الحوثي للآلية النمطية التي تنظم العلاقات البينية داخل الجماعات الدينية، وهو خضوعها لهرمية السلطة الدينية، بحيث احتكر زعيم الجماعة، عبد الملك الحوثي، القرار السياسي والعسكري والديني، بما في ذلك علاقتها بمحيطها المحلي والإقليمي، فإن هذه الهرمية التراتبية انعكست على إدارة الجماعة سلطاتها السياسية في مدينة صنعاء والمناطق الخاضعة لها، بما في ذلك مؤسسات الدولة، فضلاً عن خضوع تعيين القيادات في المؤسسات لقرابتها بزعيم الجماعة، وليس لأي اعتباراتٍ مهنيةٍ، الأمر الذي أدّى إلى إفساد الوظيفة العامة، بما في ذلك تطييفها.
ومن جهة أخرى، اتخذ تقويض جماعة الحوثي الدولة اليمنية بعداً أكثر خطورة مع تحوّلها إلى سلطة أمر واقع، إذ إن سلطات "الظل" التي أنشأتها أداة تنفيذية تضمن سيطرتها على مؤسسات الدولة، وبالتالي على موارد الدولة، أصبحت قوة معطلة لا يمكن تفكيكها، وعبئاً على مؤسسات الدولة.
فبالإضافة إلى افتقار "المُشرفين" الذين أصبحوا سلطةً مستقلةً تمارس مهام الكادر الوظيفي في مؤسسات الدولة، لأي خبرة إدارية، فإن دورهم التخريبي يتجاوز ممارساتهم الأمنية المسيئة حيال الموظفين إلى تجريف العمل المؤسسي، بربطه بهرمية سلطة الجماعة، وإملاءاتها، الأمر الذي جعل مؤسسات الدولة هيكلاً ملحقاً بسلطة "المُشرفين"، وهو ما تمظهر في الصراع على الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، وتعطيل دوره الرقابي على مؤسّسات الدولة، بعد إصداره تقارير عن فساد بعض القيادات، في مقابل حرص الجماعة على جعله جهازاً أمنياً يجرّم المعارضين.
من جهة ثانية، تبرز سياسة الجماعة حيال المؤسسة القضائية أداة لتكريس هويتها الدينية، حيث عمدت إلى تنمية طبقة قضاة موالين لها، مقابل إزاحة القضاة من خارج لونها الطائفي، وبإفسادها السلطة القضائية وتحويل السلطة التشريعية إلى كيانٍ فاقد الأهلية يشرعن تجاوزاتها للوائح المنظمة لمؤسسات الدولة، تكون جماعة الحوثي قد نجحت في ربط السلطات ومؤسسات الدولة برأس سلطتها الدينية.
أفضت هرمية السلطة داخل الجماعة إلى تعزيز الصراع بين الطبقات الهرمية الأدنى، ففيما انحصرت وظيفة الهيئات السياسية التابعة لها باستيعاب قيادات الصف الأول من قياداتها التاريخية والصاعدة، وإنْ ظل القرار السياسي يخضع لزعيم الجماعة، فإن هذه السياسة أطلقت سباق التنافس بين أجنحتها على تمثيل الجماعة، وهو ما تجلّى بالصراع بين أعلى سلطتين للجماعة، المكتب السياسي الأعلى واللجنة الثورية، فبقدر ما عطّل تولي مهدي المشاط، المقرّب من زعيم الجماعة، رئاسة المكتب السياسي، خلفاً لصالح الصُّماد الذي قتل قبل عامين بغارة لطيران التحالف العربي، من انفجار الصراع مع قيادة اللجنة الثورية، بزعامة محمد الحوثي الذي يرتبط بصلة قرابةٍ مع زعيم الجماعة، فإن اللجنة الثورية ظلت هي السلطة الفعلية التي تدير مؤسسات الدولة، من خلال سلطة "المُشرفين" الذين جرى إحلالهم في جميع مؤسسات الدولة، بما في ذلك المديريات والأحياء، ويخضعون لرئيس اللجنة الثورية مباشرة.
وفيما حاولت الجماعة تحديد صلاحيات قيادة السلطتين في تجنب اندلاع الصراع، بحصر مهام رئيس المكتب السياسي، رئيساً للمناطق الخاضعة لها، يمثّل الجماعة سياسياً على الصعيدين، المحلي والخارجي، وكذلك إصدار القرارات العليا في مؤسسات الدولة، مقابل حصر مهام اللجنة الثورية بوصفها سلطة تنفيذية للجماعة، فإن صلاحيات رئيس اللجنة تجاوزت إدارة مؤسسات الدولة، وكذلك إصدار قرارات التعيينات إلى التعليق على الأحداث السياسية، المحلية والخارجية، بما في ذلك لقاء الموظفين الأمميين، وهو ما عمّق الصراع بين رأسي السلطة السياسية للجماعة، بما في ذلك تنافسهما على إحلال الموالين لهما في قيادة مؤسسات الدولة.
في مستوى آخر من الصراع البيني داخل جماعة الحوثي، وإن تمظهر في سياق نسيجها الاجتماعي، تصاعد الصراع بين الأُسر الهاشمية الأقل تأثيراً من حيث مشاركتها في القرار السياسي الأدنى، والأُسر الهاشمية التي تمثل الدائرة التاريخية لسلطة الجماعة، التي تسيطر على مؤسسات الدولة، إذ وجدت بعض الأُسر الهاشمية أنها غير ممثلة سياسياً بشكل عادل بما يتناسب مع دعمها الجماعة، بحيث تمظهر الصراع الأُسري الهاشمي على المناصب التنفيذية العليا، وخصوصاً على المؤسسات الإيرادية، فضلاً عن تنافس الأجهزة الأمنية التابعة للجماعة، سواء التي كانت من أجهزة الدولة أو التي أنشأتها الجماعة لتثبيت سلطتها. ويشكل التنافس بين جهازي الأمن القومي والأمن الوقائي امتداداً للصراع العميق بين أجنحة الجماعة، بمن فيها الأُسر الهاشمية، إذ تنازع الجهازان على نطاق الصلاحيات، وإن أصبح جهاز الأمن الوقائي سلطةً أمنيةً ضاربة، تعتمد عليه الجماعة في ملاحقة المعارضين.
إلى ذلك، رافقت تحوّل صنعاء مركز جذب للطبقة السياسية والاقتصادية المتنامية لجماعة الحوثي تأثيراتٌ سياسية واجتماعية عديدة، فمع تركّز قاعدتها الاجتماعية في منطقة "الجُراف"، أي في المنطقة الهامشية من مدينة صنعاء، فإن الجماعة تمكّنت في السنوات الأخيرة من تعميق نفوذها الاجتماعي في المدينة، من خلال الاستمرار في استقدام قيادات الصف الأول من مدينة صعدة، وتوطينها في صنعاء، بحيث استقرّت الطبقة الغنية في الأحياء الجديدة، وهو ما أوجد واقعاً جديداً في المدينة، فبالإضافة إلى تغيير التركيبة الديمغرافية للعاصمة، الأمر الذي مكّن الجماعة من حسم الصراع مع حليفها الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، فإن ذلك قد يؤدي، على المدى البعيد، إلى تغيير هوية المدينة كمحيط متنوع ومنفتح ومتعدّد الثقافات، كما أثرت القوى الوافدة سلباً على المحيط المجتمعي لصنعاء، من خلال نشر التشيع والتشدّد الديني، فضلاً عن تكريس طبقة غنية تتصارع على مصادر الثروة ونهب أراضي المواطنين.
هرمية السلطة التي تحتكم إليها جماعة الحوثي في إدارة سلطتها، وما أنتجته من اختلالات، صاحبت عملية تحولها من جماعة دينية مغلقة إلى سلطة أمر واقع تحكم مناطق الكثافة السكانية في اليمن، بحيث أصبحت انحرافاتها أكثر وضوحاً في إدارة المناطق خارج حاضنتها الاجتماعية، ويتبدّى في آلياتها السياسية وكيفية تعاطيها مع حلفائها المحليين.
ففيما اعتمدت جماعة الحوثي في إدارة تلك المناطق على القوى الاجتماعية الهامشية التي تحالفت معها، بسبب حرمانها الامتيازات في سلطة المرحلة الانتقالية، في مقابل ضمان تحولها إلى سلطة محلية موالية لها تدير تلك المناطق، وتنحصر مهامها في إرسال إيرادات المناطق للجماعة، واستقطاب مقاتلين، فإن علاقة الجماعة مع حلفائها عكست رؤيتها إلى القوى السياسية والاجتماعية، خارج عصبتها الدينية الضيقة، بما في ذلك حلفاؤها الأقربون، وعلى إدارة المناطق خارج المركز.
مع تنوع التركيبة الاجتماعية والقبلية للسلطات المحلية الموالية لجماعة الحوثي، فإنه يغلب عليها أنها تمثل شبكة الموالين لصالح، سواء المنتمون إلى حزب المؤتمر أو الزعامات المحلية التي ارتبطت بصالح، طوال عقود، وفيما ورثت جماعة الحوثي شبكة الموالين لصالح، بحيث أصبحت أداتها المحلية في إدارة تلك المناطق، مقابل وعودٍ بتوسيع صلاحياتها السياسية في حكم تلك المناطق، وتمثيلها في الهيئات السياسية المركزية التابعة للجماعة، فإن اختلاف عقيدتها الدينية عن عقيدة الجماعة، وتحديداً في المناطق الشافعية، جعل ولاءها بالنسبة إلى الجماعة مشكوكاً فيه، بحيث قيدت سلطاتها بسلطة "المُشرفين" من عناصرها.
كذلك فإن علاقتها بهذه القوى اتسمت بالدونية، أي علاقة تبعية، وليس علاقة تحالفية، فضلاً عن سياسة الجماعة حيال هذه المناطق، التي اتسمت بالاستغلال، إذ استمرت في نهب ثرواتها ومواردها لمصلحة طغمتها في صنعاء وصعدة، مقابل حرمان المجتمعات المحلية إيراداتها والخدمات. فمن جهةٍ، قلصت جماعة الحوثي تمثيل حلفائها في تلك المناطق في سلطة "المُشرفين" التابعة للجنتها الثورية، بحيث ظلّ معظم المُشرفين يأتون من المركز، لضمان السيطرة على الإيرادات، وفرض رقابةٍ على السلطات المحلية، وممارسة الغلبة على السلطات المحلية، وأدّت هذه الازدواجية إلى تضارب الصلاحيات بين السلطات، واندلاع تصفياتٍ متبادلةٍ شهدتها مدن خاضعة للجماعة.
كذلك فإن استقواء "المُشرفين" على المواطنين، بما في ذلك ضلوعهم في حوادث قتل متكرّرة ونهب أراضٍ، شكل عامل ضغط على القوى المحلية الموالية للجماعة في محيطها المحلي. ومن جهة أخرى، اعتمدت جماعة الحوثي على هذه القوى في التجنيد والتحشيد لحروبها، إلا أنها مارست تمييزاً على المقاتلين من خارج قاعدتها الدينية والاجتماعية، سواء برفض تعويض أسرهم مالياً، أو بمظاهر تشييع القتلى التي لا ترقى بأي حال إلى قتلى الجماعة، ما يعكس هرمية السلطة لدى الجماعة وحصر الولاء والامتيازات بالنسبة إليها في دائرتها الضيقة.
لا تتحرّك الجماعة خارج إرادة رأس سلطتها الدينية، سواء في إدارة سلطاتها أو في علاقتها بحلفائها، وإذا كانت قد صعدت من الهامش السياسي، لكنها بأي حال لم تكن ممثلة لهذا الهامش، لا سياسياً ولا اقتصادياً، وإن استغلت الطبقات الهامشية للانقضاض على السلطة، ثم وظفتها كسلطات محلية تدير المناطق الخاضعة لها، إلا أن ولاء هذه القوى يحتكم إلى حسابات الضرورة السياسية والمصالح.
ومن ثم، من السهولة تحوّل ولائها، بالإضافة إلى أنها تمتلك عوامل القوة، إذ إن الجماعة هي التي تحتاج لها لفرض سلطتها في هذه المناطق، ولإمدادها بالمقاتلين، كذلك فإنها متجذّرة محلياً وليست قوة وافدة، ومع خضوع هذه القوى، في الوقت الحالي، لسلطة الغلبة، فإن لعبة شد الحبل التي تتقنها الجماعة ضد حلفائها قبل خصومها قد تلتف حول عنقها.
*العربي الجديد
عناوين قد تهمك: